يتكون الجدار الغربي لبحر إيجه من بر اليونان، وخلف ساحله الصخري المثلم الممتد في غير انتظام تقع أرض تنقسم إلى ثلاثة أجزاء جغرافية طبيعية. فالجنوب مكون من شبه جزيرة كبيرة تسمى البيلوبونيز؛ وهي تكاد أن تكون جزيرة إذ لا يربطها إلا عنق ضيق جداً هو برزخ كورتس يشبه جزيرة أخرى أكبر منها تمتد بشكل نتوء من جنوب شرق أوروبا. ويسمى الطرف الجنوبي لهذه الأخيرة سهل الأتيك، الذي يمتد شمالاً حتى مرتفعات تساليا. وأخيراً هناك المنطقة الجبلية الواقعة في أقصى الشمال، مقدونيا، وقد جعلت هذه الجغرافية اليونان بلداً عصياً على الغزو عن طريق البر إلا من خلال طرق قليلة محددة، وكان الهجوم عليها أسهل عن طريق البحر.
لقد بزغ من يونان عصر الظلام نوع جديد من حياة المدن شكلته طبوغرافيتها المقسمة، وسوف تساهم بعض المدن الإغريقية مساهمة خاصة في المستقبل. لذلك فهي تستحق أن نتمهل عندها قليلاً ولو استبقنا أحداث قصتنا. في أيامها الباكرة كانت تلك المدن في العادة تحت حكم ملوك، وسوف يظل بعضها يطلق على حكامه هذا اللقب في أزمنة قادمة. ولكن منذ أن بدأت السجلات التاريخية بالتوافر فإنك تجد أنها كانت في القرن السابع تحت حكم "أرستقراطيين" وهي كلمة يونانية تعني "خير الناس". كان الأرستقراطيون أصحاب أراضي وكانوا على درجة من الغنى تسمح لهم بشراء الأسلحة والدروع والخيول غالية الثمن التي جعلتهم قادة في الحرب. وكانوا في البداية يحكمون الإغريق الآخرين، وسوادهم من الفلاحين، لأن الزراعة كانت دوماً وسيلة الرجال الأحرار لتحصيل معيشتهم في العالم الإغريقي.
كانت المجتمعات الإغريقية البسيطة الباكرة قد بدأت تصبح أكثر تعقيداً بحلول عام 600 ق.م. وكان يعيش في بعضها أجانب يعملون في الحرف اليدوية والتجارة، ولكنهم لا يتمتعون بنفس حقوق السكان الذين ولدوا هناك ويدل وجود هؤلاء الأجانب المقيمين metics ونشاطاتهم على حدوث نمو سريع في التجارة. ولما كان المال أوفر من السابق فقد صار بعض الناس أغنياء. ومن العلامات الدالة على ذلك زيادة استخدام العملة المعدنية في العالم الإغريقي، كما بدأ الأفراد والجماعات يختصون بأنواع مختلفة من التجارة والمصنوعات، فكانت أثينا مثلاً مختصة بصناعة الخزف.
مع ازدياد الثروة حصلت أعداد أكبر من الناس على الأرض، كما صاروا قادرين على دفع ثمن الأسلحة والدروع. وفي القرن السابع ق. م ظهر نوع جديد من المحاربين كان الإغريق يسمونهم الهبليت. كان الهبليت مشاة يرتدون الخوذات والدروع البرونزية التي تغطي الجسد ويحملون التروس والرماح. وقد تغيرت طبيعة الحرب في اليونان بواسطتهم تغيراً سريعاً، لأن المعارك كانت في السابق عبارة عن قتال فردي بين الأشخاص القلائل القادرين على دفع ثمن الأسلحة والدروع، وهذا ما جعلهم أعتى بكثير من المقاتلين الذين يتبعونهم إلى ساحة المعركة. أما الآن فقد صار النصر في المعارك من نصيب تكتلات الهبليت المنظمة، وقد كان الهبليت يحافظون على تشكيل دقيق، يكون كل رجل فيه محمياً من جانبه الأيمن بترس جاره. وكانت المعارك في اليونان تجري عادة في قيعان سهول صغيرة، لأن الهدف هو إما تدمير المحاصيل المزروعة هناك أو الدفاع عنها. وفي هذا النوع من الأرض يكاد تشكيل الهبليت أن يكون منيعاً على الهزيمة إذا عرف أن يهاجم هدفه ككتلة واحدة ويحافظ على تماسك صفوفه، وقد ازدادت أعداد الرجال ذوي الخبرة العسكرية، وصار الانضباط والتدريب هما اللذان يكسبان المعارك. وبذلك راحت السلطة تنفلت من أيدي الأرستقراطيات القديمة، ولم يعودوا وحدهم المسيطرين على القوة المسلحة. إن هذا التغير الهام قد نشأت عنه السياسة، وهي أحد ابتكارات الإغريق العظيمة.
دولة المدينة
إن كلمة سياسة politics هي كلمة مألوفة نسمعها ونستعملها دون أن نفكر كثيراً بمعناها، ولكن إذا أردنا تعريفها فيمكننا أن نقول بشكل تقريبي إنها:” طريقة في إدارة الشؤون العامة عن طريق اتخاذ القرارات بشأنها من بعد مناقشة عامة لمناحي العمل المختلفة الممكنة”. وقد يبدو هذا الكلام مجرداً، ولكن الحقيقة أن هناك فرقاً كبيراً بين هذا الأسلوب العام وبين ما ينتج عن الإرادة التعسفية للحاكم، وكان الإغريق يعون هذا الفرق تماماً عندما ينظرون إلى بلاد فارس أو مصر. إن كلمة سياسة politics هي بالأصل كلمة يونانية، وهي مشتقة من الكلمة التي كانوا يطلقونها على الدولة أو المدينة المستقلة Polis. ولا تدل هذه الكلمة على المكان فقط، فالإغريق لم يكونوا يقولوا ”أثينا” فعلت كذا أو ”طيبة” فعلت كذا، بل كانوا يتحدثون عن ”الأثينين” و”الطيبيين” ونسمي الـPolis هنا ” دولة المدينة”، ولكنها كما قلنا ليست مجرد تجمع للناس الذين يعيشون في مكان واحد، كما أنها بالتأكيد أوسع بكثير من مفهوم ”الدولة” الحديث. لقد كانت دولة المدينة جماعة مشتركة، ولم تكن تشمل كل من يعيش في المدينة والريف المحيط بها، بل كانت مكونة من المواطنين فقد\ط، أي أولئك الذين يأخذون مواقعهم في صفوف الهبليت أثناء الحرب والذين لهم كلمة ولو صغيرة في شؤونهم المشتركة. أما العبيد والأجانب المقيمين والنساء فما كان بإمكانهم أن يكونوا مواطنين، فقد كانت هذه الرابطة أشبه بالانتماء إلى عشيرة منها بمفهومنا الحديث عن المواطنة، والحقيقة أن أبكر المؤسسات الاجتماعية ضمن المدن كانت مبنية على علاقة القربى.
كان المواطنون الأوائل في الدول الأغريقية هم القادرون على دفع ثمن الأسلحة من أجل الالتحاق بصفوف الهبليت والقتال دفاعاً عن تراثهم. ولابد أن تكون معارك طاحنة كثيرة قد جرت لا نعلم عنها اليوم إلا القليل القليل. في القرن السادس صار رجال جدد يحوزون على حق المواطنة في كل مكان تقريباً، وكان حكم الأرستقراطيين يزول ليحل محله حكم رجال أقوياء ذوي شعبية، كان الإغريق يسمونهم Tyrants*، ثم زال هؤلاء بدورهم لتحل محلهم حكومات ذات قاعدة أوسع. إن كلمتي أوليغرشية و ديموقراطية هما كلمتان أخريان من أصل يوناني مازلنا نستخدمهما، فبعض المدن كان يحكمها الميسورون (الأوليغرشيات) وبعضها الآخر أغلبية الرجال الأحرار (الديمقراطيات)، إلا أن انتقال الحكم بالوراثة كان ينحسر في كل مكان تقريباً.
لقد بقيت أكثر المدن صغيرة تعيش على مزارع الوديان الصغيرة التي توجد ضمنها عادة، وحتى في الأزمة اللاحقة لم يكن من المألوف أن يبلغ عدد المواطنين في دولة المدينة 20.000، لهذا كان المواطنون يشعرون بقدر من المشاركة الشخصية في الحياة العامة هو أكبر بكثير مما يشعر به مواطنو الدول الحديثة. وكانوا يشاركون بصورة جماعية في أمور أنطناها نحن بمنظمات خاصة مثل النوادي والكنائس. وكان الإغريقي يسمع في المجالس التي تدير الشؤون العامة آراء أصدقائه وأعدائه ومعارفه في المسائل التي تمسهم جمعياً. إن هذه الأشياء كلها قد جعلت الحياة في دولة المدينة مجهدة تتطلب الكثير، ولكنها كانت في الوقت نفسه حياة مثيرة. وقد برز بعض الرجال كأول الممثلين لمهنة جديدة هي مهنة السياسة، فكان أولئك السياسيين يسعون لإقناع مواطنيهم بما ينبغي فعله عن طريق مخاطبتهم في المجلس، وليس من الغريب إذن أن يكون الإغريق قد اعتبروا أن دولة المدينة تعطي الناس الفرصة لكي يحققوا ذاتهم، أي يطلقوا كل الطاقة الكامنة في طبيعتهم البشرية بطريقة لم يوفرها أي من نوع من أنواع التنظيمات البشرية الأخرى. كانوا يعتقدون أن المرء يكون متحضراً في دولة المدينة بصورة غير متاحة في أماكن أخرى، وقد قال أحد فلاسفة الإغريق إن الإنسان هو كائن صنعته الطبيعة لكي يعيش في دولة المدينة. وكان لديهم أيضاً كلمة تدل على من ينسحب إلى اهتماماته الشخصية ولا يرغب بالمشاركة في الشؤون العامة أو لا يهتم لها، هي كلمة idiot*.