يمكنك رؤية أولى علامات الحضارة في مصر بعد ظهورها في سومر بزمن قصير. ومن المحتمل أن يكون المصريون قد تعلموا من سومر، ولكن إذا كان هذا صحيحاً فإننا لا نعلم مداه ولا كيف حصل، ومن الأسهل أن نعزي ظهور الحضارة هنا إلى البيئة، كما هي الحال في جنوب بلاد الرافدين. كان تغير المناخ في حقبة ما قبل التاريخ قد جفف شيئاً فشيئاً القسم الأكبر من مصر خارج وادي النيل، إلا أن ذلك الشريط الضيق من الأرض الخصبة كان كافياً. فكان الطين ينحرف من المرتفعات الداخلية ليتوضع هناك، وهذا ما جعل الزراعة سهلة. فتشكلت ضفاف من الطمي طولها 1100 كم وعرضها من ستة إلى عشرين، استطاع المصريون الأوائل أن يبدؤوا الزراعة، وتحولت أرضهم رويداً رويداً إلى واحة طويلة تمتد من غير انتظام، وتحيط بها الصحراء والصخور
وقد كانت هذه البيئة تختلف عنها في بلاد الرافدين القديمة اختلافاً هاماً كبيئة لمرحلة جديدة من تطور البشر، فالمصريون لم يكونوا بحاجة لاستصلاح الأرض مثل السومريين، لأن النيل ألطف من دجلة والفرات. صحيح أنه يفيض مثلهما في كل عام، إلا أن فيضاناته متوقعة وليست كوارث مفاجئة، حتى إن انتظامها قد وضع نمط السنة الزراعية، فكان النيل ساعة عظيمة تنظم حياة المصريين القدامى على إيقاع لا يتغير من عام إلى عام.
السلالات المصرية
1-2
المرحلة السابقة للسلالات
حوالي 3200-2665 ق.م
3-8
المملكة القديمة
2664-2155 ق.م
9-11
المرحلة المتوسطة الأولى
2154-2052 ق.م
12
المملكة الوسطى
2052-1786 ق.م
13-17
المرحلة المتوسطة الثانية
1785-1554 ق.م
18-20
المملكة الحديثة
1554-1075 ق.م
مصدر الجدول:R.A.Parker's table in the legacy of Egypt.2nd edn, ed. J. R.Harris (Oxford, 1971), pp.24-5
في نحو عام 3300 ق.م كانت هناك أعداد كبيرة من الناس تعيش على طول خمسمائة إلى ستمائة كيلو متر من النيل الأسفل في قرى بعضها صغيرة لا تفصل بينها مسافات كبيرة. ويبدو أن أولئك المصريين كانوا يعتبرون أنفسهم في البداية أفراداً في عشائر لا جماعات مستقرة. ولم تنشأ المدن على طول نهر النيل إلى بعد مرور آلاف السنين، ربما لأنه لم يكن ثمة جيران أقوياء يهددون المزارعين ويدفعونهم إلى العيش في مدن لحماية أنفسهم. من الصعب أن نعرف الكثير عن تلك الأزمنة الباكرة، لأن النيل كان يخرب آثار الناس كل عام، فيحرفها إلى الدلتا أو يدفنها عميقاً في ضفاف الطمي التي صارت ترتفع عن مستوى الفيضان بمرور القرون.
ولكننا نعلم أن أولئك المصريين كانوا يعرفون صنع القوارب من نبات البردي، وشغل الحجر الصلب، وتطريق النحاس من أجل صنع أغراض للاستعمال اليومي. وفي حوالي منتصف الألف الرابعة أيضاً نجد علامات على الاتصال بمناطق أخرى خاصة ببلاد الرافدين. ثم نشعر فجأة بحدوث تبلور سريع.
وسرعان ما تكثر المعلومات عن الحضارة الباكرة في مصر بصورة لا مثيل لها في ذلك الزمان. لقد كان للمصريين منذ البداية تقريباً شكل من الكتابة يسمى ” الهيروغليفية” وكانت هذه الكتابة بالأصل تصويرية، أي أنها مكونة من صور صغيرة ترمز لأسماء الأشياء، وبمرور الزمن صارت ترمز للأصوات. كانت الهيروغليفية أصعب كتابة من المسمارية لذلك لم تنتشر مثلها قط، ولكن حياتها لا تقل عنها طولاً، فآخر نموذج معروف منها قد كتب في عام 394 م. ثم ضاعت مهارة الكتابة بها فلم تعد مقروءة. في بداية القرن التاسع عشر أحضر ” حجر الرشيد” من مصر إلى فرنسا،
حجر الرشيد
وكان منقوشاً عليه باليونانية والكتابة ”الديموطية” وهي كتابة مصرية لاحقة، عدا عن الهيروغليفية. وهذا ما مكن من ترجمتها، ففتحت الطريق لفهم مصر القديمة بصورة لاسابق لها، بفضل الأعداد الكبيرة الباقية من الكتابات المنقوشة على المدافن والصروح وأوراق البردي.
الهيروغليفية
ومن هذه الكتابات الهيروغليفية تبزغ قصة مصر القديمة، كانت مصر في عام 3000 ق.م قد انتظمت في مملكتين، شمالية هي مصر السفلى، وجنوبية هي مصر العليا*، وتخبرنا السجلات أن ملكاً من الجنوب اسمه مينيس سرعان ما غزا الشمال وأسس سلالة استمرت حتى عام 2884 ق.م، وكانت تحكم من مدينة منف (ممفيس)* في مصر السفلى. كان طول هذه المملكة حوالي 1000 كم أي أنها أكبر بكثير من أية دولة معاصرة لها. ومن الصعب أن نعرف المعنى الحقيقي لهذا الحكم، إلا أن الادعاء بحكم منطقة بهذا الحجم هو بحد ذاته إنجاز مبهر. والأعجب من هذا أنها كانت بداية ألفي عام تقريباً ظلت مصر فيها عادة تحت حاكم واحد، ونظام ديني واحد، ونمط واحد من الحكم والمجتمع، من دون أن يؤرقها تأثير هام من الخارج. صحيح أنها قد مرت بفترات من المد والجزر، وأن الدولة كانت أحياناًَ قوية ومزدهرة وأحياناً أخرى ضعيفة وفقيرة، إلا أن استمرارها المديد هذا يبقى أمراً مذهلاً، وقد مكن من تحقيق إنجازات باهرة سوف تظل آثارها تسحر ألباب البشر، كأعظم تراث منظور من العصور القديمة.
تمكن السجلات التاريخية العلماء من الحديث عن مصر القديمة كسلسلة من السلالات تقع في ثلاثة أقسام زمنية كبرى. يسمى القسم الأول منها بـ”المملكة القديمة” وهو يمتد من عام 2664 إلى 2155 ق.م، ثم يتلوه نحو قرن من الفوضى قبل أن تبدأ في عام 2051 ”المملكة الوسطى” التي استمرت حتى عام 1786 ق.م، عندما ابتدأت مرحلة ثانية من الاضطراب انتهت في عام 1554 ق.م مع بداية ”المملكة الحديثة”. وضمن هذا المخطط الثلاثي تدخل بعد ذلك مرحلتان متوسطتان وتواريخ السلالات. ومن المناسب أن نختم قصة مصر القديمة عند بداية الألف الأولى ق.م، عندما كانت أعظم إنجازات المصريين قد ولت، ولو أن بلادهم قد بقيت مستقلة تحت حكم أبنائها حتى عام 30 ق.م، عندما بلغت نهايتها بانتحار ملكتها الشهيرة كليوباترا.
خارطة مصر الفرعونية
الملكية في مصر
كانت الدولة نفسها تجسيداً للحضارة المصرية، وكان مركزها أولاً في منف (ممفس) عاصمة المملكة القديمة، ثم صار على عهد المملكة الحديثة في طيبة (ثيبة)** عادة. وكان هذان المكانان عبارة عن مركزين دينيين كبيرين ومجمعات من القصور، ولم يكونا مدينتين حياتهما منفصلة عن الحكم. ومن أسباب ذلك أن ملوك مصر لم ينشأووا كوجهاء في دولة مدينة وكلتهم بالتصرف نيابة عنها، كما أنهم لم يكونوا بشراً عاديين مثل غيرهم يخضعون لآلهة تحكم الناس جميعاً كبيرهم وصغيرهم، بل سوف يصبحون هم أنفسهم آلهة. فمنذ مرحلة مبكرة كان ملوك مصر يتمتعون بسلطة عجيبة، كما تدل صورهم الهائلة على الصروح الأولى، وكانوا قد ورثوا تلك السلطة بالأصل من ملوك ما قبل التاريخ، الذين كانت لهم قدسية خاصة بسبب قدرتهم على ضمان الازدهار من خلال إنجاح الزراعة. وكان الناس يعتقدون أن الملوك يتحكمون بارتفاع النيل وانخفاضه السنويين، أي بالحياة نفسها عند الجماعات التي تعيش على ضفتيه، وإن أول طقوس للملكية المصرية نعرفها تتعلق بالخصب والري واستصلاح الأراضي، وأبكر صور لمينيس تظهره وهو يحفر قناة.
من فراعنة مصر العليا
وفي عهد المملكة القديمة ظهرت فكرة أن الملك أو ”فرعون” هو السيد المطلق، وسرعان ما صار يعبد كإله. كانت العدالة هي ما يحبه فرعون والشر هو ما يكرهه فرعون، وهو إله كلي العلم ولا حاجة به إلى شريعة تهديه. بعد ذلك على عهد المملكة الحديثة، صار الفراعنة يصورون بهيئة المقاتلين الأبطال العظام، فتراهم في عرباتهم رجال حرب جبابرة يدوسون أعداءهم ويذبحون بكل جرأة فرائس صيدهم. ولكن رغم هذا الجانب الدنيوي بقيت الملكية في مصر مقدسة ومهيبة، وحتى عام 1500 ق.م كتب موظف مصري من موظفي فرعون يقول: ” هو إله يعيش المرء وفق أفعاله، هو أب وأم الناس جميعاً، هو وحده لا كفؤ له”.
في ذلك الزمان كانت مصر قد اكتسبت تسلسلاً هرمياً من البيروقراطيين مدهشاً بإحكامه، وكان أهمهم يأتون عادة من طبقة النبلاء، وقد دفن بعض عظماءهم بفخامة تضاهي ما كان للفراعنة. أما العائلات الأقل بروزاً فكانت تقدم آلاف الكتبة لخدمة هذا النظام المتقن من الحكم، وكان الكتبة يدربون في مدرسة خاصة في طيبة، ويمكننا أن نستشف قيمهم من خلال النصوص التي تسرد الفضائل المطلوبة في الكاتب لكي ينجح، وهي الانكباب على الدراسة وضبط النفس والحذر واحترام الرؤساء، والتقيد الدقيق بقدسية الأوزان والمقاييس وملكية الأرض والأعراف القانونية.
إلا أن غالبية المصريين كانت من الفلاحين، وهم الذي كانوا يبذلون الجهود اللازمة للقيام بالأشغال العامة الكبرى، ويقدمون الفائض الزراعي الذي تعيش عليه طبقة النبلاء والبيروقراطية والمؤسسة الدينية الكبيرة. كانت الأرض خصبة، وكانت خصوبتها تتحسن باستمرار بفضل تقنيات الري، وهذا واحد من أقدم الأدلة على القدرة الكبيرة لحكومة مصر في تعبئة المجهود الجماعي، وهي قدرة استمرت لزمن طويل. كان الخضار والشعير والعلس* هي المحاصيل الأساسية في الحقول الممتدة على طول قنوات الري، وكانوا يأكلون أيضاً لحم الطيور والسمك وحيوانات الصيد، وكلها تظهر بوفرة في الفن المصري، وكانت الأبقار تستخدم للجر والحراثة منذ المملكة القديمة على الأقل، وقد بقيت هذه الزراعة عماد الحياة في مصر من دون تغير هام حتى الأزمنة الحديثة.
مشهد من الفن المصري القديم الذي استمر حتى العهد الوسيط
البناء في مصر
لقد مكن هذا الأمر أيضاً من تشييد أشغال عامة مبنية من الحجر لا يضاهيها شيء في زمانها، كانت البيوت وأبنية المزارع تبنى من لبن الصلصال، ولم يرد لها أن تبقى إلى الأبد، أما القصور والمدافن والصروح التذكارية للفراعنة فقد شيدت لكي تعرف الخلود. وهي انتصارات اجتماعية وإدارية فضلاً عن أنها انتصارات في فن العمارة. فقد كان آلاف العبيد وأحياناً أفواج من الجنود تفرز بإدارة كاتب واحد لتقطيع كتل الحجارة الهائلة ووضعها في مكانها بقوة عضلاتهم، وكانت تزين بعناية بواسطة أدوات من النحاس أولاً ثم من البرونز، وكثيراً ما تحفر وتلون بدقة كبيرة. لم تكن لديهم إلا عتلات بسيطة ومزالج إذ لم تكن ثمة بكرات للرفع، بل كانوا يبنون منحدرات هائلة من التراب يرفعون عليها الأبنية رويداً رويداً، فتمكنوا من تشييد سلسلة من الصروح مازالت تذهل الناظرين. إن أشهر تلك الصروح هي الأهرام، وهي الأكبر في تجمعات كبيرة من الأبنية التي يسكنها الملك بعد موته. من أبنية السلالة الثالثة تجد في سقارة قرب منف (الهرم المدرج) وهو أعظم أعمال إمحوتب أول مهندس عمارة معروف ومستشار الملك.
أولى الإهرامات في سقارة
وقد أله إمحوتب فيما بعد كإله للطب، وكان يبجل كعالم فلك وكاهن وحكيم، كما نسبت إليه بداية البناء بالحجر. يبلغ ارتفاع هذا الهرم مائتي قدم**، وهو شيء لم يكن الناس قد رأوا مثله من قبل قط، فلا عجب إذاً أن يعتبروا بناءه دليلاً على قدرة إلهية. إلا أن أهراماً أكبر منه سوف تكتمل في الجيزة بعهد السلالة الرابعة، مثل هرم خوفو الذي استغرق بناؤه عشرين سنة، وتطلب إحضار كميات هائلة من الحجارة، من خمسة إلى ستة ملايين طن، من مسافة 500 ميل*، هذا البناء العملاق موجه توجيهاً دقيقاً، ورغم أن طول أضلاعه يبلغ 750 قدم** فإنها لا تتفاوت إلا بمقدار يقل عن عشر بوصات 25 سم، وليس من الغريب أن تعتبر الأهرام في زمن لاحق من عجائب الدنيا السبع. إلا أنها لم تكن بالطبع الأبنية الكبرى الوحيدة في مصر، بل كانت هناك في أماكن أخرى صروح عظيمة غيرها، مثل المعابد والقصور ومدافن وادي الملوك.
أهرامات الجيزة: خوفو وخفرع ومنقرع
تفسر لنا هذه الأشغال العامة الضخمة لماذا اعتقد الناس فيما بعد أن المصريين كانوا علماء عظاماً، إذ أنهم كانوا يحسبون أن أبنية كهذه تحتاج إلى أرقى المعارف الرياضية والعلمية. صحيح أن المصريين كانوا ماهرين جداً في مساحة الأراضي، وأن موظفيهم قد برعوا كمهندسين مدنيين، إلا أن تلك الأبنية لا تحتاج في الحقيقة إلا أبسط أشكال الحساب، مثل القياس الدقيق ومعالجة معادلات معينة لحساب الأحجام والأوزان. ولم تتجاوز الرياضيات في مصر هذا الحد، فالمصريون لم يتفوقوا على البابليين في العلوم. لقد بقي المنجمون قروناً طويلة يجلون أرصاد المصريين الفلكية المنقوشة، ولكن الحقيقة أن قيمتها العلمية كانت ضئيلة وقدرتها التنبؤية قصيرة المدى نسبياً. إلا أن إنجازهم الراسخ هو التقويم، إذ أن المصريين قد وضعوا السنة الشمسية المؤلفة من 365 يوم، وقسموها إلى اثني عشر شهراً، كل منها مؤلف إلى ثلاثة أسابيع طول الأسبوع منها 10 أيام، وأضافوا خمسة أيام عند نهاية السنة، ونذكر هنا أن الثوار الفرنسيين قد أعادوا إحياء هذا الترتيب في عام 1793 في محاولة لإحلال تقويم أكثر عقلانية محل التقويم المسيحي
التصميم الهندسي الخارجي والداخلي للهرم
الدين
كانت الحياة الدينية في مصر القديمة أمراً أدهش الأجانب أيضاً إلى حد كبير، ولكن مازال من الصعب علينا أن نستوعبها، لأنها كانت هيكلاً شاملاً يتخلل كافة نواحي الحياة، وحقيقة طبيعية تسري فيها كما تسري الدورة الدموية في جسم الإنسان، ولم تكن بنية مستقلة مثل مفهوم الكنيسة في أزمان لاحقة. فالمصريون لم يروا الدين قوة حية تنمو، بل مظهراً من مظاهر الواقع ووصفاً لكون لا يتبدل. ولكن حتى هذا الوصف قد يكون مضللاً، لأن المفاهيم والفروق التي نعتبرها بديهية لم يكن لها وجود لدى قدماء المصريين، فهم لم يكونوا يهتمون بالتمييز بين الدين والسحر مثلاً.
ومهما كان الدين يعني في مصر القديمة، فقد كان لديهم طوال زمن حضارتهم تقريباً نزوع دائم لأن يبحثوا من خلاله عن طريق للنفاذ من عالم الحواس المتغير أبداً، من أجل بلوغ عالم لا يتبدل يمكن فهمه من خلال حياة الموتى فيه. وربما تشعر بنبض النيل هنا أيضاً، لأنه كان يجرف كل شيء ليعيد خلقه من جديد في كل عام، ولكن من دون أن تتغير دورته، بل إنها ما تبرح تتكرر باستمرار مجسدة إيقاع الكون. كان التغير الأعظم الذي يتهدد الناس هو الموت، وهو أبشع تعبير عما يمرون به جميعاً من انحلال وتبدل، ويبدو أن الديانة المصرية كانت مهووسة بموضوع الموت منذ البداية، كما تدل المومياءات والأغراض التي وجدت في الغرف الجنائزية والمحفوظة في متاحفنا. على عهد المملكة الوسطى صاروا يؤمنون أن جميع الناس يمكنهم رجاء الحياة في العالم الآخر وليس الملك وحده، لذلك كان المرء يحضر لحياته المقبلة بالطقوس والرموز، وبتهيئة القضية التي سوف يضطر لعرضها أمام قضاته في العالم الآخر، وهو على ثقة كافية بأنه قادر على بلوغ الهناء الأبدي المتاح له من حيث المبدأ. لم تكن نظرة المصريين إلى ما بعد الموت نظرة كئيبة إذاً كما في بلاد الرافدين، بل إن بإمكان المرء أن يكون سعيداً فيها، وقد جاهد المصريون جهاداً امتد قروناً طويلة لكي يضمنوا تلك الحياة، ويفسر هذا الأمر العناية العجيبة بتحضير المدافن وقيادة الميت إلى مكان راحته الأبدي.
كان مجمع آلهة المصريين هائل العدد، فقد كان يضم نحو ألفي إله، وعدداً من العبادات الهامة التي نشأ بعضها من الآلهة الحيوانية في حقبة ما قبل التاريخ. من تلك العبادات عبادة حورس، الإله الصقر، الذي كان أيضاً إله السلالة.
الإله حورس
لقد مرت هذه الحيوانات بتحول بطيء وغير كامل إلى الشكل الإنساني، فصار الفنانون يضعون رؤوسها على أجساد بشرية، وكانت العلاقات بينها يعاد ترتيبها بأشكال جديدة كلما حاول الفراعنة تحقيق أهداف سياسية من خلال دمج عباداتها. وهكذا تم دمج عبادة حورس بعبادة إله الشمس، الذي صار فرعون يعتبر تجسيداً له. ولم تكن تلك نهاية القصة بعد، لأن حورس قد مر بعد ذلك بتحول آخر، فصار ابناً لأوزوريس وهو الشخصية المركزية في عبادة وطنية ولزوجته إيزيس التي كانت آلهة الخلق والحب، وهي على الأرجح أقدم الآلهة جميعاً، إذ تعود أصولها هي الأخرى إلى حقبة ما قبل السلالات، وهي من تطورات الآلهة الأم التي نملك أدلة على وجودها في كافة أنحاء الشرق الأدنى في العصر النيوليتي. وسوف تستمر زمناً طويلاً لتظهر وهي تحمل الطفل حورس بين ذراعيها في الأيقونات المسيحية بصورة مريم العذراء. وقد كانت هناك أيضاً أشكال من العبادة ذات صفة عقائدية وتأملية يجب أن نذكر منها محاولة مشهورة قام بها فرعون في القرن الرابع عشر لترسيخ عبادة آتون، وهو تظاهر آخر للشمس. ويعتبر البعض هذا العبادة أول ديانة توحيدية.
الآله أوريس
الفن والتقنية في مصر
تشغل الآلهة حيزاً كبيراً في فن مصر القديمة، إلا أن فيه أشياء كثيرة غيرها، كان هذا الفن مبنياً على الواقعية، ومع أن تعابير الوجه والوضعيات كانت تقليدية، فقد منحته تلك الواقعية طوال ألفي سنة بساطة جميلة في البداية، وحتى في فترة تراجعه بعد ذلك بقي محتفظاً بسحره وقربه. وقد سمح بالتصوير الواقعي لمشاهد الحياة اليومية، فترى فيه المواضيع الريفية من زراعة وصيد سمك وصيد حيوانات، كنا ترى الحرفيين يعملون على منتجاتهم، والكتبة منكبين على أعمالهم. وقد بقي الفنانون طوال ألفي سنة تقريباً يعملون ضمن نفس التقليد الكلاسيكي مع استعارة تأثيرات خارجية، ولكن بقوة ورسوخ لا يتزعزعان، ولاريب أن هذا الأمر كان من أكثر ما يبهر نظر الزائر لمصر في الأزمنة القديمة، لأنه كان يرى الأشياء كلها مثل كيان واحد، وإن هذا التقليد هو أطول وأقوى تقليد مستمر في كل تاريخ الفن في عصر الحضارة.
لقد بقي بعض الفن المصري القديم بفضل اختراع ورق البردي، منذ السلالة الأولى، ويتكون هذا الورق من لب نبات القصب الذي يوضع بشكل متصالب ويدق معاً حتى يصير صفحة متجانسة. وكانت تلك مساهمة حقيقية في تقدم البشرية، لأنها ساهمت في نقل المعلومات أكثر من الهيروغليفية. فورق البردي أرخص من الجلد الذي كان يصنع منه الرق، وأسهل استعمالاً من رقم الصلصال أو الحجر، ولو أنه كان أكثر هلاكاً منه، لهذا سوف يصبح أكثر وسائل المراسلة وحفظ السجلات في الشرق الأدنى حتى وقت متقدم من الحقبة المسيحية، وعندما وصل اختراع الورق من الشرق الأقصى، وقد أخذ الورق اسمه في اللغة الإنكليزية Paper من ورق البردي Papyrus ، وبعد ظهور ورق البردي بزمن قصير صار الكتاب يلصقون صفحات منه معاً ليصنعوا لفة طويلة، فاخترع المصريون بذلك الكتاب، مثلما اخترعوا أول مادة له، وإن جزءاً عظيماً مما نعرفه عن الأزمنة القديمة إنما وصلنا على ورق البردي.
لوحة مرسومة على ورق البردى
إن القوى العجيبة التي نسبت لكهنة مصر وسحرتها، والتجسيد الباهر لإنجازاتها السياسية في الفن والعمارة، تفسر الكثير من مكانة مصر الدائمة. ولكن إذا نظرت إلى حضارتها بالقياس إلى حضارات أخرى لا تجدها شديدة الخصب ولا قوية التفاعل، فقد بقيت العمارة بالحجر هي التجديد الأساسي الوحيد لزمن طويل بعد قدوم الكتابة، وقد اخترع المصريون العمود. كما يشير تاريخ التقنية فيها إلى أن شعبها كان بطيئاً في تبني المهارات، ونفوراً من التجديد بعد أن قام بقفزته الخلاقة نحو الحضارة، فإن لا تجد أدلة أكيدة على وجود عجلة صنع الفخار قبل المملكة القديمة، ورغم المهارة الكبيرة في شغل الذهب والنحاس لا يظهر صنع البرونز إلا في زمن متقدم من الألف الثانية ق.م، ولا تظهر المخرطة إلا بعده بزمن طويل، ويكاد يكون المثقاب القوسي هو الأداة الوحيدة المتاحة للحرفيين المصريين من أجل مضاعفة الطاقة ونقلها. صحيح أن ورق البردي والعجلة كانا معروفين على عهد السلالة الأولى، إلا أن مصر قد ظلت على اتصال ببلاد الرافدين طوال ألفي عام قبل أن تأخذ عنها اختراع الشادوف المستخدم لرفع المياه من الآبار، مع أنه كان يستخدم لري الأراضي هناك منذ زمن طويل.
كانت حياة الفقراء في مصر شاقة، ولكن ليس بصورة دائمة. ولابد أن العبء الأكبر كان أعمال السخرة، أما عندما لا يأمر فرعون بتلك الأعمال فيتوفر للفلاح وقت كبير من الفراغ بانتظار فيضان النيل الذي يقوم بالعمل عوضاً عنه. كما أن القاعدة الزراعية كانت غنية وكافية لإعالة مجتمع معقد وفيه تنوع كبير من الحرفيين، وإن ما نعرفه عن نشاطاتهم أكثر مما نعرفه عن حرفيي بلاد الرافدين بفضل ما بقي من رسوم ونقوش حجرية. كان التمييز الأكبر في هذا المجتمع هو بين المتعلمين الذين يمكنهم الانخراط في خدمة الدولة من جهة، وبقية الشعب من جهة أخرى. وكانت العبودية هامة، ولكن يبدو أنها كانت مؤسسة أقل وزناً منها في بقية أنحاء الشرق الأدنى القديم.
المرأة في مصر القديمة
تذكر تقاليد الأزمنة اللاحقة إغراء نساء مصر وسهولة منالهن، ويعطي هذا الأمر انطباعاً بأن المجتمع كان يعطيهن استقلالاً أكبر ومكانة أعلى من أخواتهن في حضارات أخرى. ويصور الفن المصري سيدات البلاط في ملابس قطنية رقيقة تكشف أجسادهن، بشعورهن المتقنة الزينة وجواهرهن الرائعة ومواد التجميل الموضوعة بعناية كبيرة، والتي كان تجار مصر يهتمون بتأمينها أي اهتمام. كما أن الصور التي تظهر كيف كانت تعامل نساء الطبقة الحاكمة تترك في النفس الانطباع بالكرامة والاستقلال. وهي صور هامة لابد من إعطائها بعض الوزن من دون المغالاة في التعويل عليها. وترى الفراعنة أحياناً مع زوجاتهم، وغيرهم من النبلاء مع زوجاتهم أيضاً، في حال من الألفة الحميمة التي لا تراها في أي من فنون الشرق الأدنى القديم قبل الألف الأولى ق.م، ويوحي هذا الأمر بمساواة عاطفية حقيقية لا يمكن أن تكون مجرد صدفة.
إن النساء الجميلات والفاتنات اللواتي تراهن في الكثير من الرسوم والتماثيل قد يعكس أهمية سياسية للمرأة لا وجود لها في البلاد الأخرى. فكثيراً ما كان العرش ينتقل من الناحية العملية عن طريق سلسلة النسب الأنثوية، أي أن وريثة العرش تحمل لزوجها حق الخلافة. لذلك كان زواج الأميرات مصدر قلق كبير، وكثيراً ما كانت الزيجات الملكية تتم بين أخ وأخته، من دون أن تعطي نتائج وراثية ضارة على ما يبدو. كما كان بعض الفراعنة يتزوجون بناتهم، ولكن ربما لمنع غيرهم من الزواج بهن وليس لضمان استمرار الدم الإلهي في السلالة. وقد مارست بعض زوجات الفراعنة سلطات هامة، بل إن إحداهن قد شغلت العرش نفسه فكانت تظهر في الطقوس ملتحية وفي ثياب رجل طوعاً منها، كما أنها اتخذت لقب فرعون.
نسوة من مصر القديمة
وتجد أيضاً حضوراً كبيراً للأنثى في مجمع الآلهة المصرية، خصوصاً في عبادة إيزيس، ولهذا الأمر دلالات هامة. كما يشدد الأدب والفن على احترام للزوجة والأم يتجاوز حدود حلقة الوجهاء، وتركز قصص الحب ومشاهد الحياة العائلية على العاطفة الجنسية اللطيفة والاسترخاء والعفوية. وقد كانت بعض النساء معلمات، بل إن هناك كلمة مصرية تدل على الكاتبة، ولكن لم تكن هناك بالطبع مهن كثيرة متاحة لهن خارج البيت عدا عن مهنتي الكاهنة والمومس. وكان بإمكان الميسورات منهن حيازة أملاك، ويبدو أن حقوقهن القانونية كانت مشابهة لحقوق نساء سومر من أكثر النواحي.
الإلهة إيزيس
المملكتان القديمة والوسطى
رغم كثرة السجلات فإن من الصعب أن نعرف علاقات مصر بالعالم الخارجي بأبعادها الصحيحة، أو مد وجزر السلطة ضمن وادي النيل نفسه. فنحن نتحدث عن فترات زمنية طويلة جداً من دون أن نعلم بالتأكيد ما الذي كان يحدث فيها وما مدى أهميته. ويمكننا اعتبار تاريخ مصر معزولاً طوال ألف سنة تقريباً بعد مينيس، وسوف يعتبرون هذه المرحلة فيما بعد فترة استقرار للبلاد ومناعة للفراعنة. إلا أن العلماء اكتشفوا على عهد المملكة القديمة انتقالاً للسلطة من المركز إلى الولايات، حيث صار الولاة يبدون أهمية واستقلالاً متزايدين، بل إن فرعون نفسه كان مضطراً لوضع تاجين اثنين وكان يدفن مرتين، مرة في مصر العليا ومرة في مصر السفلى، إذ أن انقسامهما قد بقي انقساماً حقيقياً. ولم تكن علاقات مصر بجيرانها لافتة، عدا عن سلسلة من الحملات قامت بها ضد شعوب فلسطين قرب نهاية المملكة القديمة. ثم انعكست الآية عندما جاءت المرحلة المتوسطة الأولى، فغزيت مصر بعد أن كانت هي الغازية، ولاريب أن الضعف والانقسام قد ساعدا الغزاة الآسيويين على تثبيت أقدامهم لفترة من الزمن في وادي النيل الأسفل.
أما المملكة الوسطى فقد استهلها ملك قوي أعاد توحيد المملكة من عاصمته في طيبة، وتمتعت مصر لحوالي مائتين وخمسين سنة بعد عام 2000 ق.م بفترة من التعافي، عاد فيها التشديد على النظام والتماسك الاجتماعي. وتغيرت المكانة الإلهية لفرعون تغيراً دقيقاً ، ففضلاً عن كونه إلهاً صاروا يشددون على أنه متحدر من آلهة، وأنه سوف يليه آلهة، وعلى أن النظام الأزلي سوف يبقى راسخاً بعد الأيام السود التي ألقت الشك في قلوب الناس. ومن الواضح أيضاً حدوث توسع ونمو ماديين، فقد أنجزت أشغال استصلاح كبرى للأراضي في مستنقعات النيل، وفتحت بلاد النوبة في الجنوب بين الشلالين الأول والثالث، واستغلت مناجم ذهبها، كما أسست مستوطنات مصرية أبعد منها جنوباً، في البلد التي سوف تصبح ذات يوم مملكة غامضة اسمها مملكة كوش. وقد تركت التجارة آثاراً تدل على تطور لا سابق له، كما أعيد تشغيل مناجم النحاس في سيناء أيضاً، إلا أن المملكة الوسطى قد انتهت بهيجان سياسي وتنازع بين السلالات.
واستمرت المرحلة المتوسطة الثانية نحو مائتي عام، وتميزت بغزو جديد أخطر بكثير من الغزو السابق قام به شعب أجنبي أطلق عليه اسم الهكسوس.إننا لا نعرف الكثير عنهم، ولكن لعلهم كانوا شعباً سامياً استفاد من الميزة العسكرية للعربات الحربية المزودة بالحديد من أجل السيطرة على دلتا النيل. ويبدو أنهم قد تبنوا عادات المصريين وأساليبهم، بل حافظوا في البداية على البيروقراطيين الموجودين. إلا أن هذا الأمر لم يؤد إلى اندماجهم، بل تم طردهم على عهد السلالة الثامنة عشر، وكانت تلك بداية المملكة الحديثة، التي تابعت انتصاراتها بعد عام 1570 ق.م بمطاردة الهكسوس حتى معاقلهم في جنوب كنعان، إلى أن احتلت في النهاية قسماً كبيراً من سوريا وفلسطين.
المملكة الحديثة
كانت المملكة الحديثة في ذروة أبهتها على درجة كبيرة من النجاح على المستوى الدولي، كما أنها خلفت صروحاً مادية غنية. لقد حدثت على عهد السلالة الثامنة عشر نهضة في الفنون، وتبدل في التقنيات العسكرية بتبني اختراعات آسيوية مثل العربة، والأهم من كل هذا هو التمتين الهائل للسلطة الملكية. واللافت أن امرأة هي حتشسبوت قد شغلت العرش لفترة من الزمن في هذه المرحلة أيضاً، وراحت مصر تحرز المزيد من الأمجاد العسكرية طوال قرن كامل، فوصل زوج حتشسبوت وخليفتها تحوتمس الثالث بحدود الإمبراطورية إلى الفرات. وتشهد الصروح التي تسجل وصول الجزية والعبيد والزيجات من أميرات آسيويات على صدارة مصر، كما تعتبر هذه المرحلة عادة ذروة إنجازاتها الفنية، ولو أن بالإمكان اكتشاف تأثيرات أجنبية فيها أتتها من جزيرة كريت.
تحوتمس الثالث
قرب نهاية المملكة الحديثة تظهر العلامات على اتصالات مصر المتزايدة بالخارج، وتشير أيضاً إلى أن العالم خارج مصر كان قد تغير من نواح كثيرة: كان تحوتمس الثالث قد لزمه رغم قوته سبع عشرة سنة لكي يخضع شرق المتوسط، وقد عجز مع هذا عن غزو إمبراطورية كبيرة يحكمها شعب يدعى الشعب الميتاني، كان يسيطر على شرق سوريا وشمال بلاد الرافدين. بعد ذلك تزوج فرعون أميرة من الميتاني، فصارت المملكة الحديثة تعتمد على صداقة شعبها لحماية مصالح مصر في تلك المنطقة، وباتت مصر مكرهة على الخروج من عزلتها التي طالما أمنت لها الحماية في الماضي. إلا أن الميتاني كانوا خاضعين لضغط الحثيين المتزايد في الشمال، والحثيون هم أحد أهم الشعوب التي راحت طموحاتهم وتحركاتهم تمزق عالم الشرق الأدنى في النصف الثاني من الألف الثانية ق.م، ومابرحت الأمور تتبدل.
لقد بلغت مصر ذروة مكانتها وازدهارها على عهد أمنحوتب الثالث نحو 1410-1375 ق.م، وكانت تلك أعظم حقبة، حيث مُنِحَ أمنحوتب الدفن اللائق به في أكبر مدفن أعد لملك في يوم من الأيام، ولو لم تبق منه الآن إلا بقايا التمثالين العملاقين اللذين سماهما الإغريق فيما بعد جباري ممنون وهو بطل أسطوري كانوا يظنون أنه أثيوبي. لقد حاول خليفة هذا الفرعون، أي أمنحوتب الرابع، القيام بثورة دينية تتمثل بإحلال عبادة توحيدية هي عبادة إله الشمس أتون محل الديانة القديمة، وللدلالة على جديته غير اسمه إلى أخناتون، كما أسس مدينة جديدة في تل العمارنة بعد ثلاثمائة ميل (خمسمائة كم) إلى الشمال من طيبة، وجعل فيها معبداً قدسه مكشوف لأشعة الشمس، لكي يكون مركزاً لهذا المعتقد الجديد. إلا أن هذه الثورة الدينية قد حرضت معارضة ساهمت في شل أخناتون على جبهات أخرى، وفي تلك الأثناء كان ضغط الحثيين يظهر آثاره على البلاد التابعة لمصر، وقد عجز أخناتون عن إنقاذ الميتاني، فخسر هؤلاء كل أراضيهم إلى الغرب من الفرات عندما أخذها الحثيون في عام 1372 ق.م، ثم نشبت حرب أهلية أنبأت بزوال مملكتهم بعد نحو ثلاثين سنة، وهكذا كان عالم مصر الإمبراطوري يتداعى.
أخناتون
حقبة التراجع
لقد غير أمنحوتب الرابع اسمه لأنه أراد أن يمحو كل ما يذكر بعبادة الإله القديم آمون، أما خليفته وزوج ابنته فقد غير اسمه من توت عنخ آتون إلى توت عنخ آمون لكي يعبر عن
توت عنخ آمون
إعادة العبادة القديمة والإطاحة بمحاولة الإصلاح الديني. وربما كان العرفان له بهذا الجميل هو الذي أدى إلى دفنه ذلك الدفن الفخم والمذهل في وادي الملوك من بعد حكم قصير ليس فيه شيء آخر يستدعي الانتباه. عندما مات توت عنخ آمون كان أمام المملكة الحديثة قرنان من الحياة بعد، ولكنهما كانا قرنين من التراجع المتسارع الذي لا يتمهل إلا نادراً. وقد بذل ملوك لاحقون جهودهم من أجل استعادة ما ضاع، ونجحوا في ذلك أحياناً، وظلت موجات الغزوات تنقلب جيئة وذهاباً فوق فلسطين. واتخذ أحد الفراعنة أميرة حثية زوجة له مثلما كان أسلافه يتزوجون من أميرات الشعوب الأخرى، إلا أن أعداءً جدد سوف يظهرون، وحتى التحالف مع الحثيين لن يعود ضمانة كافية ضدهم. كان بحر إيجة في حالة هيجان، وتقول سجلات مصر أن الجزر " قد لفظت سكانها كلهم معاً" و "لم تقف في وجههم بلد" وقد تم طرد " شعوب البحر" هذه في النهاية، ولكن من بعد صراع شاق. ومنذ عام 1150 ق. تقريباً تكثر علامات التفكك الداخلي أيضاً، فقد مات الملك رعمسيس الثالث نتيجة مؤامرة من حريمه، وكان آخر ملك أحرز بعض النجاح في صد موجة الكوارث المتعاظمة. ثم تسمع عن إضرابات ومشاكل اقتصادية على عهد خلفائه، وعن انتهاك لحرمة مدافن الملوك في طيبة ونهبها، والحقيقة أن عصر سلطة مصر الإمبراطورية قد ولى.
ومثلها ولت سلطة الحثيين، وإمبراطوريات غيرها عند نهاية الألف الثانية، كان العالم الذي أحرزت فيه مصر إنجازاتها يتوارى، وكان هذا سبباً أساسياً من أسباب تقهقرها. إلا أنك تشعر أيضاً شعوراً لا يقاوم بأن نهاية المملكة الحديثة تكشف عن نقاط ضعف كانت كامنة فيها منذ البداية. والحقيقة الغريبة هي أن إبداع حضارة مصر لم يؤت في النهاية أكله، لقد كان المصريون يحشدون الجهود الجبارة تحت إشراف موظفين بارعين، ولكن لمجرد تشييد المدافن العملاقة، وكان حرفيوهم يكرسون مهاراتهم الرائعة ولكن من أجل صنع أغراض مآلها القبور.
وكانت لديهم نخبة معلمة جداً تستخدم لغة معقدة ودقيقة، وتملك في ورق البردي مادة مناسبة لا مثيل لها، استعملتها بغزارة في النصوص والنقوش، إلا أنها لم تترك للبشرية أفكاراً فلسفية أو دينية عظيمة. ومن الصعب ألا تشعر بالعقم والتفاهة في قلب هذا الاستعراض الباهر، وحدها قدرة حضارة مصر العجيبة على الاستمرار تبقى أمراً مذهلاً، لأنها ظلت تعمل زمناً طويلاً جداً، وقد تعرضت لمرحلتين من الكسوف الكبير على الأقل ثم تعافت منهما من دون أن يغيرها على ما يبدو. إن حياة بهذا الطول إنما هو نجاح مادي وتاريخي عظيم، ويبقى السؤال المحير هو لماذا اقتصرت حضارة مصر على أرضها؟ فالحقيقة أن سلطتها العسكرية والاقتصادية لم تغير العالم بشكل دائم، وحضارتها لم تنتشر بنجاح إلى الخارج قط.
لقد كان التغير الاجتماعي والثقافي في تلك الأزمنة الباكرة بطيئاً جداً وغير محسوس بالطبع، وقد تعودنا نحن على التغير السريع بحيث صار من الصعب علينا أن نشعر بالجمود الكبير في الأنظمة الاجتماعية القديمة، وهي على كل حال أنظمة ناجحة لأنها مكنت الناس من معالجة بيئتهم المادية والعقلية. كانت مصادر التجديد في تلك الحضارات أقل بكثير منها اليوم؛ إن سرعة التاريخ كبيرة في مصر القديمة بالقياس إلى حقبة ما قبل التاريخ، ولكنها تبدو لنا بطيئة للغاية إذا فكرنا بقلة تبدل الحياة اليومية بين زماني مينيس وتحوتمس الثالث، وهي فترة تمتد لأكثر من ألف وخمسمائة سنة، وتقارب المسافة بيننا وبين نهاية بريطانيا الرومانية. ولم تكن التقنية أو القوى الاقتصادية بقادرة على دفع الأمور نحو التغيير كما اعتدنا اليوم إلا بصورة بطيئة جداً. أما الحوافز الفكرية فلا يمكن لها أن تكون قوية في مجتمع مكرس لغرس الروتين في النفوس والتحضير للموت.
* الصعيد
* آثارها اليوم بمحافظة الجيزة على الضفة الشمالية للنيل، 30 كم جنوبي القاهرة – المنجد في الأعلام
** في صعيد مصر على النيل بمحافظة قنا الحالية – المنجد في الأعلام
* نوع من القمح البري
** 60 م تقريباً
* 800 كم
** 225 م