تستخدم كلمة تاريخ عادةً للدلالة على شيئين مختلفين: فهي تعني ما حدث في الماضي؛ كما أنها تعني الوصف الصحيح لما حدث فيه. وعندما نصف ما حدث في الماضي فإننا دائماً نختار منه أشياء دون غيرها، وعندما نصف تاريخ العالم كله لا نستطيع أن نأخذ بعين الاعتبار كل الزمن الماضي، بل يمكننا أن نتجاهل القسم الأكبر منه فلا حاجة بنا أن نعود إلى زمن "الانفجار الكبير" الذي انبثق منه الكون لكي نفهم وضعنا الحالي.
إن التاريخ هو قصة البشر، لذلك فإن ما يهمّنا هو ماضي البشر، وحتى عندما يبحث المؤرخون في أمور خارج سيطرة البشر مثل الجغرافية والمناخ والأمراض، فإنهم يبغون من ذلك أن يعرفوا لماذا عاش الناس وماتوا بطرق ما دون سواها؛ أي أن التاريخ بمعناه الأول –ما حدث في الماضي – هو ما حدث للبشر وما فعلوه هم أنفسهم.
يختصر هذا الأمر قسطاً كبيراً من الزمن الذي ينبغي علينا دراسته، ولكنه يترك مع ذلك قدراً كبيراً جداً لابد من معالجته. كما أنه لا يبين لنا تماماً أين يجب أن نبدأ. يمكننا نظرياً أن نبدأ بأول كائن بشري، ولكننا لا نعلم متى ظهر ذلك الكائن ولا أين؟! بل يمكننا أن نخمن ذلك بحذر وضمن حدود واسعة، والأصعب من هذا أنه ليس ثمة إجماع على الكائنات التي يمكن أن نعتبرها "بشرية" بين التي عاشت في الأزمنة الباكرة، وأين عبرت الخط الذي يفصل بينها وبين غيرها من الحيوانات.
من العسير أن نرسم خطاً واضحاً بين البشر والكائنات السابقة لها، ولم يعد الناس يتحدثون عن "البشر القردة" أو "الحلقات المفقودة" كما كانوا يفعلون في السابق. صحيح أن الفيزيولوجيا تساعدنا في تصنيف المعلومات، إلا أن صفة "بشري" مازالت موضوع تعريف قد يختلف الناس فيه. إن ما يتفرّد به البشر بشكل أكيد ومميّز ليس امتلاكهم خصائص معينة فحسب، بل ما يفعلونه بتلك الخصائص. لقد أبدى البشر دوماً قدرة تراكمية على صنع التغيير لم يبد مثلها أي نوع آخر، وصنعوا تاريخهم بأنفسهم- ولو كان ذلك ضمن حدود بالطبع – وقد صارت هذه الحدود اليوم واسعة جداً، ولكنها كانت ذات يوم ضيقة للغاية، بحيث لا يمكننا أن نميز الخطوة الأولى التي أخرجت التطور البشري من حتمية الطبيعة. إن تاريخ البشر قد ابتدأ عندما اخترق الاختيار الواعي للمرة الأولى ميراث الجينات والسلوك بعد أن كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة للبقاء.
فعندما ظهرت إمكانية التحرر من حتمية الطبيعة ولو بأوهى درجاتها كانت تلك بداية تغير عظيم جداً، فمنذ ذلك الحين صارت ثقافة البشر تطورية، ولم تعد تبنى بالصدفة وضغوط الطبيعة وحدها، بل أيضاً بالاختيار الواعي وبتراكم رأس مال من الخبرة والمعرفة وباستغلالها. ومن عند ذلك التحول ينبغي علينا أن نبدأ قصتنا، لو كان بإمكاننا أن نعرف متى حدث.