لقد استغرقت هذه الثورة الناجمة عن تعرّف الزراعة في ظروف حياة الإنسان آلاف السنين. كانت المستوطنات الزراعية الباكرة ذوات عمر قصير، وقد ظل المزارعون الأوائل على الأرجح متنقلين يمارسون زراعة القطع والحرق، وهي طريقة مازالت مستخدمة بين الشعوب البدائية حتى اليوم. يختار الناس في هذا النوع من الزراعة بقعة من الغابة تكون تربتها خصبة بسبب تراكم الأوراق والفضلات المتعفنة، فيقتلون الأشجار بنزع لحائها، ثم يحرقونها ويقتلعون ما بقي من جذوعها إذا أمكن، ويزرعون المحاصيل بين الجذور. وبعد بضع سنوات تكون نباتات الغابة البرية قد صارت كثيفة جداً أو تستنفذ التربة خصبها، فيتحتم عليهم البحث عن موقع آخر.
وقد بقيت هذه حال الزراعة لزمن طويل، لأن الناس لم يكونوا يعرفون طرقاً أفضل لحرث التربة، وكان من الصعب عليهم أن يزيلوا ما بقي من جذوع الأشجار بأدواتهم الحجرية ومعاولهم المصنوعة من قرون الوعول. ولكن مع مرور القرون ظهرت في بعض الأماكن حقول نتيجة عودة الناس المستمرة إليها لسكنها وزراعتها، وعندها بدأ المزارعون الأوائل يصبحون أكثر ارتباطاً بمكان واحد أي أنهم باتوا مستقرين. وقد اكتشف علماء الآثار الكثير من تلك الأماكن المبكرة، وإن هذا الميل للاستقرار هو واحد من أول التأثيرات المعروفة للزراعة في سلوك البشر.
لقد أثرت الزراعة في البيئة غير البشرية أيضاً، لأن الخضار والمحاصيل القديمة كانت مختلفة الشكل كثيراً عما نعرفه اليوم. فنباتاتنا اليوم أكبر بكثير، كما أنها تختلف أحياناً عن الأنواع البرية من ناحية الشكل واللون والحجم، لأن البشر تدخلوا في عملية التطور، فهم باختيارهم سلالات معينة للزراعة ونبذهم سلالات أخرى بدؤوا منذ زمن بعيد بتبديل توازن الطبيعة، ولولا تدخلهم لأنتجت الطبيعة أنواعاً مختلفة جداً. كانت الحبوب والبذور من أهم تلك المحاصيل الجديدة، صحيح أن محاصيل الأوراق والجذور والبصلات كان بالإمكان زرعها وسرعان ما زرع بعضها فعلاً، إلا أن القمح والشعير والبازلاء والعدس تدوم فترة أطول بكثير، لأنها عندما تجفف يمكن تخزينها فتؤمن الغذاء في الشتاء وفي السنوات التي لا تكفي فيها الغلال. فكانت هذه خطوة جديدة في التحرر من جمود إيقاعات الطبيعة، ولو أنها لم تكن كاملة، لأن عمليات البذار والحصاد تحتاج بدورها إلى متطلبات جديدة، إلا أنها كانت على كل حال خطوة جديدة نحو حرية فعل أشياء أخرى غير الصيد من أجل البقاء، الذي ابتدأته البشريات اللاحمة منذ زمن بعيد جداً.
وقد ظهرت آثار أفعال البشر في الحيوانات أيضاً، فلاشك أن أولى الخراف والخنازير المدجنة كانت صغيرة وهزيلة جداً بالقياس إلى الأغنام السمينة الغزيرة الصوف التي ترعى في هضاب انكلترا اليوم، أو الخنازير الضخمة الراقدة في زرائبها. ولم تقتصر التغيرات على الحجم وحده، ففي أغلب الحيوانات والطيور المدجنة نلاحظ قصر الخطم*، لأن البشر ضمنوا لها طعامها، فتمكنت من البقاء كسلالات أقل تطور من ناحية أسنانها وأفكاكها حسب ما تحتاجه الحياة في البرية. بل ربما كانت الحيوانات الحالية أقل ذكاء من أجدادها البرية، لأن الإنسان حماها من أعداء وأخطار الطبيعة الكثيرة، فتمكنت من البقاء كسلالات ضعيفة التطور من الناحية الدماغية في الأجزاء التي تعالج الرسائل الآتية من العالم الخارجي. ثم أن هناك فرقاً لافتاً آخر، هو أن ألوان الحيوانات تصبح أكثر تنوعاً عند تدجينها، لأن انتزاعها من موطنها الطبيعي يسمح ببقاء أشكال ذوات ألوان مختلفة ربما كانت هلكت في البرية بسبب سهولة تمييزها. ولكن لا يمكننا أن نعلم متى بدأ الناس بمحاولة إحداث تغيرات كهذه وإلى أي مدى، فقد صار بديهياً اليوم أن مزاوجة الخراف ذوات الصوف الكثيف أو الأبقار ذوات الحليب الغزير تعطي سلالات أفضل، ولكن لابد من أن تكون الصدفة قد لعبت دوراً كبيراً في المراحل الأولى. وربما كانت الدوافع الأولى لتدخل الإنسان في عملية الاصطفاء الطبيعي مختلفة عن دوافعه اليوم، فربما اختار بعض الرعاة الأوائل مثلاً أن يزاوجوا حيوانات معينة ويربوها بسبب علامات مميزة أعجبتهم، أو لأنها تسهل التعرف عليها؛ ونحن في الحقيقة لا نعلم شيئاً عن هذا الأمر.
إن النتيجة الأهم لتلك الأساليب الجديدة أو لأي شكل من أشكال الزراعة هي نتيجة واضحة، ألا وهي توفر كميات من الغذاء أكبر بكثير من السابق، صحيح أن الفرق بين الصيد والزراعة يتعلق بنوع حيوانات الصيد من جهة، وبنوع النباتات والتربة من جهة أخرى، إلا أن أهمية الزراعة تبقى واضحة إذا عرفنا أن عائلة من البشر تعتمد على جمع الطعام والصيد تحتاج إلى مئات الأكرات* لكي تحصّل كمية كافية، في حين تكفيها خمسة وعشرون أكراً في حال الزراعة البدائية. كانت هذه إذن نتيجة أول قفزة كبيرة في إنتاج الغذاء، وقد تبدو ضئيلة بالقياس إلى التطورات الهائلة التي حدثت منذ ذلك الحين، إلا أن الزراعة قد جلبت معها في الحقيقة أول زيادة جادة في تأمين الغذاء بعد عملية الصيد، وكانت تحمل في ثناياها بذوراً أغنى. لقد أدّت وفرة الغذاء إلى زيادة أعداد البشر، لأنها مكنت من إطعام أعداد أكبر, ولا يمكننا أن نقيّم هذا التطور بشكل جيد، إلا أن نتائجه واضحة لعلماء الآثار في بقايا المستوطنات التي صارت أكبر من السابق، وهي القرى الأولى.
يدل ظهور القرى على حدوث تغيرات أخرى في الحياة الاجتماعية أيضاً، فقد ازدادت الإقامة المستمرة في المستوطنات نفسها، وضعفت الحاجة للتنقل سعياً وراء حيوانات الصيد والنباتات الفصلية. وفي الوقت نفسه ظهرت أبنية أكثر صلابة. ومن الأمثلة المعروفة على هذا التطور أريحا، التي كان فيها قبل عام 9000 ق.م قرية على موقع ينبوع ماء لا يشح، بعد ألف عام كان حجمها قد ازداد إلى أن غطت بيوتها المصنوعة من الصلصال مساحة بين 8-9 أكرات*، وكانت محاطة بأسوار كبيرة من الواضح أن سكانها كانوا يشعرون أن لديهم أشياء تحتاج للحماية، وربما كان لهم أعداء يخشون منهم عليها، لقد كانت لديهم ثروات، ومنذ ذلك الزمان كان البشر قد اكتشفوا طريقة سريعة للحصول على الثروة، هي أخذها ممن يملكونها.
لقد بزغت في أماكن مثل أريحا رويداً رويداً أنماط جديدة من الحياة، بينما كانت المجتمعات تعالج المتطلبات والفرص الخاصة ببيئاتها بمزيد ومزيد من النجاح. وكان هذا مختلفاً عما حدث بعد عصور الجليد الأبكر، عندما لم يكن هناك كائن واسع الحيلة مثل الإنسان العاقل قادر على استغلال ما خلفته العصور الجليدية. ولكن بما أن عدد الناس في العالم قد ظل قليلاً لزمن طويل، فقد بقيت جماعاتهم معزولة إحداها عن الأخرى في العادة، بعد ذلك طورت تلك الجماعات مهارات جديدة، وتغلبت على المزيد من التحديات في بيئاتها، وازداد تباعد بعضها عن بعض في أساليب حياتها، أي في ما يمكننا أن نسميه ثقافاتها، التي مابرحت تزداد تعقيداً. ولابد أن يكون الناس الذين نشؤوا في تلك الثقافات قد قبلوها دون تفكير، كما هي حال أكثر الناس في العالم اليوم، وأن يكون الروتين هو السائد فيها إذا أرادت الجماعة البقاء. لذلك ظلت الثقافات المختلفة تتباعد لزمن طويل، ولاريب أن اللغة قد اتخذت أشكالاً مختلفة من أجل تلبية الحاجات المختلفة، فحتى يومنا هذا مازلنا نجد لغات كثيرة تعيش جنباً إلى جنب في مناطق مازالت بدائية. إن لكل قبيلة تقريباً لغتها الخاصة التي تلبي حاجاتها الدقيقة الخاصة بها، أما اللغات العالمية الكبرى مثل الإنكليزية والإسبانية الحديثتين فلم تظهر إلا بعد ذلك بزمن طويل وهي نتيجة للحضارة.
بالرغم من هذه الفروق كانت تلك الجماعات تعيش بأساليب تبدو لنا متشابهة جداً، فقد كانت كلها ترتكز على تقنية بسيطة جداً، ولو أنها أكثر تعقيداً بكثير مما كانت عليه الحال قبلها بآلاف قليلة من السنين، وكانت تحمل قدرة هائلة على توليد المزيد من التغير المتسارع، كما ستبين المرحلة المتميزة التالية من تطور البشرية.