لقد غيرت الحرب الكبرى عالم الليبراليين والديمقراطيين مثلما غيرت عالم المحافظين والثوريين، فهي من ناحية أولى قد بعثت آمالاً كبيرة بظهور الدساتير الديمقراطية في بلاد كثيرة لم تعرفها من قبل قط، ولكن كانت هناك من ناحية أخرى حقائق اجتماعية واقتصادية كثيرة تثير الخوف والقلق.
في عام 1918 كانت الظروف في الكثير من الدول الأوروبية الكبرى ظروفاً مروعة نتيجة الحصار، فقد تخربت أجزاء كبيرة من فرنسا بفعل الاقتتال الضاري التي لم تشهد البلاد من قبل مثيلاً له، فتحولت مدن بأسرها إلى ركام ومحيت قرى عن بكرة أبيها.
وكان الخراب المادة في أوروبا الشرقية أقل شدة، ولكنها كانت بالأصل أقل نمواً، وقد توقفت عمليات الزراعة فيها مرة تلو المرة، ولم يكون مزارعو الحبوب في أوروبا بقادرين على إطعام المدن الجائعة على كل حال ولو توفرت لديهم البذار واليد العاملة اللازمة، إذ لم تعد هناك بعد نهاية الحرب سكك حديدية.
كانت جميع الدول الأوروبية قد بددت مدخراتها وأموالها التي كان يجب أن تعود لتغذية الاستثمار، وانخفض إنتاجها خلال الحرب لأن اليد العاملة أخذت المزارع والمصانع لتخدم في الجيوش، وقد هبط الإنتاج الصناعي لأوروبا بين عامي 1913 و 1920 بمقدار الربع تقريباً، وكانت ألمانيا أكبر قوة صناعية في أوروبا قبل الحرب، ولكنها بعد معاهدة فرساي فرض عليها دفع تعويضات للحلفاء وقفت في طريق تعافيها.
أما روسيا التي صارت بلشفية فلم تكن بقادرة ولا راغبة في لعب الدور الهام الذي كانت تلعبه قبل الحرب في الاقتصاد الأوروبي كمستوردة للمواد المصنعة ورأس المال ومصدرة للحبوب. وزالت الوحدة الاقتصادية التي كانت ملكية هابسبرغ تؤمنها لجزء كبير من وادي الدانوب، وجاءت الحدود السياسية الجديدة فقطعت ماكان بين أراضيها من روابط اقتصادية في الماضي.
وقد بلغت بعض الدول الجديدة من العجز ماجعلها تخشى السماح لعربات قطاراتها بعبور الحدود خشية ألا تعود. وجاعت أوروبا الشرقية خلال الشتاء الأول بعد الحرب، وعاد الجنود فلم يجدوا عملاً، وكان الأطفال والمسنون يموتون من الأمراض وسوء التغذية. وفوق كل هذه المصائب بلغت واحدة من آخر الجائحات الكبرى ذروتها في عام 1919، عندما قتلت موجة من الإنفلونزا أعداداً من الناس أكبر مما قتلته الحرب الكبرى نفسها، بين خمسة وعشرة ملايين في أوروبا وحدها.
كان على الكثير من الدول الجديدة ومنها ألمانيا أن تجرب الديمقراطية للمرة الأولى ضمن هذه الظروف المريعة، وقد قامت اثنتان من الملكيات الدستورية القائمة، وهما بريطانيا وإيطاليا، بتوسيع جماهير الناخبين فيهما لتشمل جميع الذكور البالغين، كما أعطيت بعض النساء في بريطانيا حق التصويت في عام 1918 ثم شملهن جميعاً في عام 1929، وحاولت عصبة الأمم أن تساعد السياسات المتحضرة عن طريق تبني حقوق الأقليات، التي ضمنتها بعض معاهدات السلام مثل المعاهدة مع بولندا. كما أن عدداً من المسائل المعلقة منذ مفاوضات فرساي للسلام قد سويت بواسطة استفتاءات عامة مباشرة للسكان القاطنين في المناطق المعنية، وساهمت هذه الخطوات كلها في توسيع صورة الديمقراطية.
إلا أن للقصة جانباً آخر، فالبلاشفة قد أزاحوا الحكومة الديمقراطية في روسيا، وحلوا الجمعية التأسيسية الوحيدة المنتخبة انتخاباً حراً في تاريخ روسيا بعد استيلائهم على السلطة بزمن قصير، وفي أوروبا الشرقية والوسطى قام المحافظون ذوو العقلية البالية والكارهون للجمهورية والديمقراطيون والاشتراكيون معاً، والنادمون على زوال الإمبراطوريات القديمة، بوضع دكتاتوريين ورجال أقوياء في السلطة، وساعدهم في هذا المخاوف من الثورة البلشفية وتأثيراتها.
وكانت الديمقراطية أيضاً في خطر من الذين خسروا بسببها فالكثيرون لم تعجبهم تلك الاستفتاءات العامة التي أدت بهم إلى العيش تحت الحكم الأجنبي، كما أن بعض الدول المهزومة خاصة في ألمانيا كانوا يتذمرون من أن الحلفاء يتحدثون كثيراً عن الديمقراطية ولكنهم لايسمحون لأعدائهم السابقين بإدارة شؤونهم من دون تدخل، ويعيقون اقتصادهم بالتعويض التي يفرضونها عليهم.
الفاشية
استلمت السلطة في إيطاليا في العشرينيات حركة معادية للديمقراطية أعطت للسياسة تعبيراً جديداً هو الفاشية. وقد أيدها وشجعها الإيطاليون الساعون لكسب الدعم من خلال إرهاب خصومهم والدعاية لقوتهم ووحشيتهم وتبني الأساليب الدكتاتورية القاسية من أجل حل مشاكل إيطاليا.
فرغم أن إيطاليا كانت في الجانب المنتصر فقد شعر الكثيرون من أهلها بالمرارة لأنها لم تحصل على المزيد من المكاسب من خلال تسويات السلام، واستغل الفاشيون هذه المشاعر الوطنية، فاتهموا حكومة إيطاليا الديمقراطية وحلفاءها الديمقراطيين بخيانة البلاد.
لقد كانت خسائر إيطاليا فادحة بالقياس إلى عدد سكانها وثروتها، وكانت أضرار جسيمة قد لحقت باقتصادها، الذي لم يكن قط اقتصاداً قوياً، وبعد الحرب خرب التضخم أوضاع الناس في كافة مستويات المجتمع، وازدادت محنة الفقراء سوءاً على سوء، فارتفعت الأسعار ارتفاعاً مذهلاً ولم يعودوا قادرين على شراء الطعام، بينما راحت البطالة تتفشى في المدن. وتحول بعض الإيطاليين إلى الاشتراكية والشيوعية، ولكن الخوف من الثورة دفع بالكثيرين غيرهم إلى أحضان الفاشية.
في عام 1922 صار هناك العديد من الفاشيين بين أعضاء البرلمان، وكان الفاشيون قد استخدموا العنف في مدن إيطالية كثيرة لطرد السلطات المحلية الشيوعية، كما حطموا مكاتب النقابات المهنية والصحف الإشتراكية، ولم تكن الحكومة القائمة تستطيع أو تريد أن تحافظ على القانون والأمن، فصار أكثر الإيطاليين في أماكن عديدة مستعدين على مايبدو لترك الفاشيين يفعلون مايريدون.
كان زعيمهم بلا منازع هو الصحفي الاشتراكي السابق بنيتو موسوليني، كان موسوليني ذا أسلوب منمق طنان يحاول أن يرهب به الآخرين، وكان داهية في أمور الخطابة والعلاقات العامة، ومع هذا يصعب أن نفهم الآن سبب نجاحه الكبير.
فقد تمكن من خداع الملك وحمله على حل الحكومة القائمة والسماح له بتشكيل حكومة جديدة فيها أعضاء من الأحزاب الأخرى، وما إن استلم زمام الحكم حتى راح يستخدمها لإحداث تبديلات جذرية خطوة فخطوة، وهو لم يفرض الديكتاتورية إلا بصورة تدريجية، ولكنه أبطل في عام 1925 الدستور الليبرالي القديم العائد لعام 1861 فانتهت بذلك الحياة البرلمانية الديمقراطية. وسرعان ماراح يعتقل معارضي النظام، وقد قتل عدداً قليلاً منهم، ولم يكن نظام موسوليني بوحشية النظام البلشفي الذي كان معجباً به، ولكنه كان سيئاً جداً على كل حال، ورغم ادعاءاته بأنه يحل مشاكل إيطاليا بأعماله الديناميكية والقوية فهو في الحقيقة لم يحل شيئاً منها.
انحراف نحو الديكتاتورية
لم تكن روسيا السوفييتية وإيطاليا الفاشية الدولتين الوحيدتين اللتين أدارتا ظهريهما للديمقراطية بحلول عام 1930، بل كانت كل من ليتوانيا ويوغوسلافيا قد أصبحتا دكتاتوريتان أيضاً، وكانت تشيكوسلوفاكيا هي الدولة الوحيدة بين الدول الجديدة التي ظهرت في عام 1918 التي احتفظت بدستورها الديمقراطي بعد عشرين عاماً. بينما صارت كل من بلغاريا ورومانيا واليونان من بين الدول التي كانت دستورية قبل عام 1914 بأيدي قادة عسكريين أو ملوك ديكتاتوريين بحلول عام 1938.
أما على الطرف الآخر من أوروبا فكان يحكم البرتغال أيضاً نظام ديكتاتوري بينما كانت جمهورية إسبانيا الديمقراطية تختنق على يد قائدها فرانشيسكو فرنكو. وليس من تفسير بسيط لهذا الوباء الذي حل بالديمقراطية في كل مكان، فقد ساهمت كل من الصعوبات الاقتصادية والخوف من الشيوعية والقومية العنيفة في تقويضها، عدا عن الأقليات والمظالم المتعلقة بالحدود منذ عام 1919، ولم تبق الديمقراطية حية إلى في عدد قليل من الدول الغربية والاسكندنافية حيث كان الناس يألفون التقاليد اللازمة لعملها. أما في بعض الدول التي كان فيها تنافس قديم بين السلطتين الدينية والعلمانية فقد كان الكاثوليك يعتبرون الديمقراطية والليبرالية عدوتين للكنيسة، فليس من الغريب إذاً أن تكون الديمقراطية في أوروبا قد خيبت الآمال العظيمة التي انتعشت أيما انتعاش في أيام الرئيس الأمريكي ولسن وأحلامه المتفائلة.
ألمانيا فايمار
ومع هذا ظل بعض الليبراليين متفائلين بعد عشر سنوات من نهاية الحرب وساعد في هذا عودة الازدهار، خاصة في ألمانيا. كانت جمهورية فايمار التي سميت على اسم المدينة التي وضع فيها دستورها، قد ابتدأت بعقبات كبيرة، وكان الكثيرون من الوطنيين الألمان يعتبرون الجمهورية نفسها إهانة منذ البداية لأنها إنما نشأت من هزيمة البلاد، كما أنها وقعت شروط الصلح وسوف يوجه اللوم إليها في ذلك دوماً، وولدت من رحم الثورة، ثم أنها واجهت صعوبات عملية جمة.
وبدأ السياسيون الاشتراكيون في الحكومة الجديدة يعطون بلادهم دستوراً ديمقراطياً وليبرالياً، ولكن الاشتراكيين الراديكاليين تخلوا عنهم فوراً بدلاً من التحالف معهم، وكانوا يطالبون بجمهورية ثورية مبنية على مجالس العمال والجنود مثل السوفييت، وبقي الأمر معلقاً بضعة أشهر إلى أخمد الجيش أولئك الراديكاليين.
في ذلك الحين كان قد ظهر الحزب الشيوعي الألماني KPD المتطلع إلى قيادة موسكو كمنافس للحزب الديمقراطي الاجتماعي القديم SPD. فصار على جمهورية فايمار أن تحارب الملكيين ذوي العقلية البالية من اليمين والشيوعيين من اليسار، بينما راح الحلفاء يزيدون الطين بلة بشروط السلام القاسية التي فرضوها عليها.
لقد ظلت جمهورية فايمار مكروهة كرهاً عميقاً رغم أنها أنهت الحصار في عام 1919، وسرعان ما راح الناس يتهمون معاهدات فرساي بتسبب التضخم الفظيع الذي عانت منه البلاد، إذ خسر المال قيمته بمعدل مذهل، وارتفعت الأسعار حوالي 1.000.000.000 مرة بين عامي 1918-1923 ، وساهم هذا في انقلاب الطبقات الميسورة ذات المدخرات المالية ضد الجمهورية، كما أنها كانت تعتقد أن الجمهورية خاضعة لسيطرة الماركسيين.
ثم حدثت نقطة تحول هامة في عام 1924 عندما حصلت ألمانيا على قرض دولي كبير مهد الطريق لاستقرار عملتها، فتعافى الاقتصاد بصورة باهرة خلال السنوات القلية التالية، وصار رجال الدولة والاقتصاديون الأجانب يرون أن ألمانيا لايمكن لها إلا أن تلعب دوراً أساسياً في حياة أوروبا، بالنظر إلى عدد سكانها الكبير ومخزونها الهائل من الخبرة والعبقرية والتنظيم والموارد الطبيعية والصناعية والمستوى العالي للثقافة فيها.
ونتج عن هذا سؤال ظل بحاجة إلى جواب هو:إذا كانت ألمانيا تتمتع بكل نقاط القوة هذه، فضلاً عن موقعها الاستراتيجي في قلب أوروبا وتقاليدها العسكرية الفذة وشعورها الوطني القوي، فلن تلعب إذا دوراً سياسياً مهيمناً كقوة عظمى في أوروبا؟ وكانت هذه المشكلة الألمانية التي سيطرة على الدبلوماسية الأوروبية بين عامي 1918-1939.
لقد جعل هذا الازدهار الجمهور تبدو بأمان، وانحسرت أخطار الثورة والعنف، أو بدت أنها انحسرت، وازدهرت ألمانيا على عهد جمهورية فايمار، فكانت مجتمعاً ديمقراطياً حراً يحظى بإعجاب كبير في الخارج بسبب حياته الفنية والعلمية والأدبية النشيطة. وكان دستورها يضمن للناس حقوقهم الأساسية ومحكمتها العليا تعززها، وقد أعطت الانتخابات فيها الدعم والتأييد لحكومات ائتلافية حريصة على المحافظة على الدستور.
إلا أن الكثير من الألمان ظلوا معادين لها، فكان الحزب الشيوعي يهاجم الحزب الديمقراطي الاجتماعي المؤيد لها هجوماً مريراً، وكان الوطنيون والمحافظون ينظرون بحنين وأسى إلى أيام بسمارك العظيمة عندما كانت ألمانيا تسيطر على أوروبا، أو تبدو أنها تسيطر عليها، كما أنهم صاروا يجتذبون تياراً قومياً جماهيرياً جديداً يريد أن يدفن الخلافات الداخلية ضمن معتقد قبلي يؤمن بالروح القومية الخاصة بالشعب الألماني.
صحيح أن معاهدة فرساي كانت تتلاشى في العشرينيات، مثل موضوع التعويضات التي كانت قد خففت، وأن معاهدة جديدة في لوكارنو بين الدول الأوروبية الكبرى في عام 1925 انضمت إليها ألمانيا طوعاً قد وضعت حداً للصراعات في الغرب على مايبدو إلا أن الأراضي التي خسرتها ألمانيا في الشرق ومصير الألمان في الدول الجديدة بأوروبا الوسطى ظلت مواضيع تهيج مشاعر الغضب القومية.
أدولف هتلر
سوف يستغل هذه الأفكار واحد من الرجال القلائل الذين صاغوا بلا ريب مسيرة التاريخ الحديث وبصورة بشعة، ألا وهو أدولف هتلر، كان هتلر نمساوياً، وكانت حياته في البداية تعيسة، إلى أن وجد المتنفس والرضا في الحرب الكبرى، وكان جندياً كفؤ وقد قلد وسامين، وكانت الهزيمة تجربة مرة له، جعلته يكرس بقية حياته من أجل تغيير المصير الذي كتب لألمانيا في عام 1918، فصار في عشرينيات القرن مهيجاً قومياً يشجب معاهدة فرساي، وقد شارك في محاولة للإطاحة بالحكومة المحلية في بافاريا في عام 1923، كخطوة أولى للزحف إلى برلين، ولكن المحاولة فشلت واعتقل لفترة من الزمن.
إلا أنه استمر بالخطابة والكتابة، فكتب عندما كان في السجن كراسة سياسية غير مترابطة عنوانها كفاحي، وهو مزيج غريب من المفاهيم الداروينية عن الاصطفاء الطبيعي عن طريق الصراع، وعن العداء للسامية وعن الإعجاب بإمبراطورية ألمانيا في العصور الوسطى، لم يكن لها وجود، وأشياء أخرى من هذا القبيل. وسرعان ماصار لهتلر جماعة صغيرة من الأتباع هي حزب العمال القومي الاشتراكي، الذي كان أعضاؤه يسمون اختصاراً النازيين.
لقد ساعد الازدهار الذي عرفته ألمانيا في أواخر العشرينيات في كبح زمام النازيين وغيرهم من الجماعات المتطرفة، فلم يكن أمامهم إلا أن يبشروا بأفكارهم الغامضة والعنيفة، ويتشاجروا مع خصومهم ويشجبوا معاهدة فرساي ويؤمنوا بتوجيه الألمان جميعاً في دولة قومية واحدة تضم إليها أراضي الأمة في الشرق.
وكانوا ينادون بحملة واسعة ضد أعداء ألمانيا، خاصة منهم الماركسيين واليهود، وكانت لبعض أفكارهم هذه جذور عميقة في الثقافة الألمانية، وقد تبين أنها ذات جاذبية كبيرة، ولكن النازيين كان لهم أيضاً مظهر حديث، فكانوا يتحدثون عن الثورة الاجتماعية وينبذون الديمقراطية الليبرالية بصورة جازمة وكاملة. ولم يأخذهم الناس على محمل الجد، ولم تكن شوكتهم قد قويت بعد في نهاية العشرينيات بل ظل الناس متفائلين بمستقبل الديمقراطية في ألمانيا