لقد سيطر الأمريكيون بين الاستقلال وعام 1850 على نصف القارة، فارتفع عددهم من 6 ملايين في عام 1800 إلى 23.5 مليون بعد خمسين عاماً، وكانوا منذ ذلك الحين منصهرين في بوتقة واحدة، كما وصفها أحد كتاب القرن التاسع عشر، أي أن تجربة القارة الجديدة وبيئتها ومؤسسات الجمهورية قد قولبتهم وصنعت منهم أمة جديدة.
كان الكثيرون من الأمريكيين قد اختاروا طوعاً عبور الأطلسي إلى بلدهم الجديدة، أو رافقوا والديهم وأقرباءهم الذين اختاروا ذلك، وحتى الذين ولدوا في أمريكا نشأوا في أسر قام بعض أفرادها بهذا الخيار، وقد ساهمت هذه الأمور في تعزيز شعور وطني قوي، أي أن الولايات المتحدة كانت تتميز عن جميع القوى الكبرى بأن الناس اختاروا الانتماء إليها طوعاً.
كانت حدودها غنية بعد بالأراضي والموارد الجاهزة للاستثمار، وكان اقتصادها التجاري والصناعي في الشرق يتسع ويقدم فرصاً من نوع آخر، لذلك كان الأمريكيون يعلمون تماماً أن أحوالهم أفضل من أحوال الشعوب الأوروبية الأخرى.
لقد ضمن الولايات المتحدة خلال القرن التاسع عشر أعداداً من المهاجرين مساوية لأعدادهم في بقية بلاد العالم مجتمعة، وكان الكثيرون منهم يصلون إليها غير قادرين على التحدث بالإنكليزية، ومع ذلك بقيت اللغة الإنكليزية لغة البلاد، وظل الرواد الأمريكيون يتطلعون زمناً طويلاً إلى إنكلترا في تراثهم الثقافي وفي الكثير من أفكارهم.
ولم ينتخب رئيس جمهورية أمريكي لايحمل اسماً إنكليزياً أو اسكتلندياً أو ايرلنديا حتى عام 1837، ولن يظهر غيره حتى عام 1901، وكانت الكثير من المؤسسات الأساسية أيضاً إنكليزية، مثل الأفكار القانونية والتشديد على المسيحية البروتستنتية والإيمان بقدسية الأملاك الشخصية، وكانت هذه كلها دعامات الجمهورية نفسها.
كانت هاتان الدولتان حرتين بالمعايير الأوروبية، ولكن معنى هذه الحرية كان مختلفاً في كل منهما، إذ لم تكن إنكلترا ديمقراطية، أما الولايات المتحدة فكانت كذلك، ولم يشكل هذا الأمر في بداية القرن التاسع عشر تهديداً للطبقات القائدة القديمة في السياسة الأمريكية، إلى أن استلم الرئاسة في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر الرئيس آندرو جاكسون، الذي يعتبر أول رئيس يحظى تأييد ديمقراطي حقيقي ويتحدث باسم جماهير واسعة من الأمريكيين على أساس برنامج وطني، ومنذ أيامه راح يبزر موضوع هام في السياسة الأمريكية، هو أن إرادة الأمة ككل كما يعبر عنها في التصويت الديمقراطي أعلى من مصالح الأقليات التي يعبر عنها الدستور، خاصة مصالح الولايات منفردة
التوسعات الأولى
لم يكن العالم الخارجي مهتماً بما كان يجري داخل الولايات المتحدة، ماعدا الملكيات التي بقيت لها في عام 1783 أراضي في أمريكا الشمالية، أي بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وروسيا. وعندما ألقى جورج واشنطن خطابه الوداعي لمواطنيه بمناسبة تركه منصبه في عام 1796 أوصاهم بتجنب التورط السياسي مع أوروبا، ولم يكن في كلامه ما يشير إلى الدور العالمي الذي سوف تلعبه بلاده ذات يوم.
صحيح أن الولايات المتحدة تحاربت لفترة وجيزة مع بريطانيا في عام 1812، إلا أنها لم تلعب دوراً هاماً في العلاقات الدولية أثناء الثورة الفرنسية والحقبة النابوليونية، ولم يكن الأجانب ماعدا البريطانيين يهتمون بالولايات المتحدة، لأن الأمريكيين لم يكونوا يهتموا بهم. ومن السهل أن نفهم هذا الانعزال إذا تذكرنا أن المستوطنات القديمة على المحيط الأطلسي لم تتجاوز في عام 1800 وادي أوهايو غرباً.
لقد كان عدد السكان في الولايات المتحدة قليلاً حوالي 6 أمثال عدد سكان لندن في ذلك الحين، وكان الكثيرون منهم قد أداروا ظهورهم للعالم القديم عمداً، وكان لديهم ما يكفيهم من المشاغل في هذا البلد الجديد ومنذ البداية كانت نظرة الأمريكيين تتصف بميل عميق لما سمي فيما بعد النزعة الانعزالية، وقد شدد على هذه النزعة حدث هام هو أهم أعمال الدولة الأمريكية في النصف الأول من القرن التاسع عش، أي صفقة شراء لويزيانا، إذ اشترت الولايات المتحدة في عام 1803 بمبلغ 11.25.000 من فرنسا أرضاً أوسع من مساحة الجمهورية كلها في ذلك الحين وقد منحت هذه الأرض الجديدة للدولة الفتية ولايات مستقبلية هي لويزيانا وآركنسو (آركنساس) وأيوا ونبراسكا وداكوتا الشمالية وداكوتا الجنوبية وجزء كبير من كولورادو، فضلاً عن أنها أمنت لها منفذاً إلى النصف الغربي من القارة الواقع وراء نهر الميسيسيبي، والذي كانت تفصلها عنه في السابق أراضي الإسبان ثم الفرنسيين، وقد بدأ التوازن الكلي للولايات المتحدة بالتغير عندما راح المهاجرون يدخلون هذه الأراضي الجديدة.
كانت حرب عام 1812 حرباً لامبرر لها وفاشلة تماماً، ولكنها كانت معلماً آخر في قصة التوسع هذه، وفي تطور السياسة الأمريكية والشعور الوطني الأمريكي أيضاً، ففي تلك المرحلة اخترع رسام كاريكاتوري صورة العم سام Uncle Sam (US) رمزاً للدولة، وفيها لحن نشيد الراية المرصعة بالنجوم الذي صار اليوم النشيد الوطني للولايات المتحدة.
وجعلت الحرب الطرفين حريصين على تسوية الخلافات بينهما، ولم يعد من بعدها ثمة خطر كبير في نشوب حرب جديدة بين إنكلترا وأمريكا على كندا، بل سوف تحل النزاعات حول الحدود في المستقبل عن طريق التفاوض السلمي.
وقد حلت أبرز مسائل الحدود قبل منتصف القرن ولم يعد أي رجل إنكليزي يحلم بأخذ المزيد من الأراضي إلى الجنوب من خط عرض 49 ، وبعد معاهدة جنت التي أنهت الحرب بات من الواضح أن الولايات المتحدة سوف تكون الدولة الأهم في ذلك الشطر من العالم.
صارت بحوزة الولايات المتحدة الآن أراضي واسعة تنتظر من يسكنها، وسوف تمتد حدودها بصورة أوسع من هذا بعد، ومع امتداد منطقة الاستيطان إلى الغرب من جبال الأليغني ثم إلى الغرب من نهر الميسيسيبي صار الكثيرون من الأمريكيين يشعرون أن لهم مصيراً خاصاً، وبالتالي الحق في الهيمنة على القارة من أقصاها إلى أقصاها، فبدأت تسمع عبارة المصير الجلي، وكان هذا نذير شؤم لغيرهم من شعوب أمريكا، فإذا كانت كندا آمنة لأنها مستوطنة تابعة لقوة كبرى، فإن هنود أمريكا لم يكونوا بأمان، بل إنهم قد جرفوا من أراضيهم وانتزعت منهم مناطق صيدهم وسكنهم، وكانوا يقتلون إذا هم قاوموا، وكانوا يعتبرونها همجاً لا يحق لهم أن يقاوموا اندفاع حضارة أسمى من حضارتهم، فكان هذا واحداً من الجوانب المظلمة لقصة التوسع في أمريكا.
ومن الجوانب المظلمة الأخرى قصة المكسيك، فبعد حروب الاستقلال في أمريكا الجنوبية حلت جمهورية المكسيك محل الجيران الإسبان للولايات المتحدة في الجنوب، وسوف تكون هذه الجمهورية هي الضحية الأساسية لذاك المصير الجلي.
لقد ثار المستوطنون الأمريكان في المكسيك ضد حكمها وأسسوا جمهورية تكساس، وسرعان ما ضمتها الولايات المتحدة إلى أراضيها، فنشبت عندها الحرب بينها وبين المكسيك، وهزمت المكسيك فيها واضطرت في عام 1848 لعقد صلح تخلت بموجبه عن تكساس وعن الأراضي التي سوف تشكل ذات يوم ولايات يوتا ونيفادات وكاليفورنيا والقسم الأكبر من أريزونا.
ثم اشترت الولايات المتحدة في عام 1853 بعض الأراضي الأخرى من المكسيك فاكتملت بذلك الصورة العامة لأراضيها وبقيت على حالها حتى اليوم، وفي عام 1867 اشترت ألاسكا من الروس، وكان هؤلاء أيضاً قد تنازلوا منذ زمن بعيد عن مطالبهم السابقة بالمحطات التي أسسوها ذات يوم في كاليفورنيا.
الرق والانفصال
لم يكن الأمريكان ينظرون إلى توسعهم المظفر في القارة الأمريكية بالمعايير الأخلاقية التي كانوا يطبقونها على الاستعمار الأوروبي، ولكنه كان يسبب لديهم مشكلة أخلاقية من نوع آخر. وسبب ذلك أن هذا التوسع أثار مواضيع دستورية وسياسية في مجال الصدام القديم بين الأغلبية الديمقراطية ومصالح الولايات المنفردة ضمن الاتحاد.
كما اختلط هذا الموضوع بموضوع آخر، هو مصائر السود الأمريكيين، الذين كانوا أكبر مجموعة من الأشخاص الخاضعين للقانون الأمريكي لم تستفد من الحمايات الديمقراطية التي يؤمنها ذلك القانون، وهكذا بات مسرح الأحداث مهيئاً لصراع مأساوي كبير.
عندما أصبح جورج واشنطن رئيساً للجمهورية كان عدد السود في الولايات المتحدة حوالي 700.000، وكانت الأكثرية العظمى منهم أرقاء، وكانوا ملكاً مطلقاً لسادتهم، الذين يمكنهم أن يطلبوا منهم القيام بأي قدر من العمل يرغبون به، وأن يؤدبوهم إذا رفضوا إلى حد الجلد وغيره من العقوبات الجسدية، كما يمكنهم بيعهم أو التخلي عنهم بوصية لسادة جدد.
وكان أكثرهم يعيشون في الولايات الجنوبية، حيث كانوا يستخدمون للعمل في الحقول أو الخدمة في البيوت وكان بعضهم يعاملون معاملة حسنة وبعضهم معاملة سيئة، فكان بعض السادة متوحشين عمداً، وبعضهم عطوفين مثل الأب على أبنائه، ولكن سواء أكان الأرقاء سعداء أم تعساء فإنهم لم يكونوا أحراراً مثل الأمريكان البيض، بل كانوا ملكاً لهم.
قلائل هم الأشخاص الذين طرحوا الشكوك حول هذا الترتيب للأمور، لقد كان واشنطن نفسه يملك عبيداً، مثله مثل جميع الآباء المؤسسين تقريباً، ولكن في عام 1850 كان السود في أمريكا قد أصبحوا مشكلة سياسية فظيعة، فقد ازدادت أعدادهم كثيراً 4 ملايين في عام 1860 وكانوا منتشرين في ولايات أكثر مما كان الوضع عليه في أيام واشنطن.
ولما كان استيراد الأرقاء في أفريقيا قد أصبح غير شرعي فقد كان أكثرهم مولودين في أمريكا، وازدادت أعدادهم بسبب ارتفاع الحاجة للعبيد مع انتشار زراعة القطن إلى مناطق جديدة.
لقد كان للذهب الأبيض King Cotton سوق مضمونة في مصانع النسيج بإنكلترا التي كانت أمريكا المورد الأساسي لها، وقد تضاعف المحصول الإجمالي بين بداية القرن وعشرينياته ثم تضاعف مرة ثانية خلال السنوات العشر التالية وفي عام 1860 كان ثلثا قيمة الصادرات الإجمالية للولايات المتحدة يأتيان من القطن.
لقد بدل هذا التغير الهائل الشطر الجنوبي من الولايات المتحدة، فانتشرت زراعة القطن ومعها العبودية عبر الجنوب مبتعدتين عن ولايات ساحل الأطلسي القديمة حيث نشأت العبودية في البداية إلى ألاباما وميسيسيبي وتنييسي وآركنسو. فصارت هذه الولايات أكثر فأكثر اعتماداً على الرق، وصار أكثر أهل الجنوب يعتبرونه أساس كل ما يجعلهم مختلفين عن أهل الشمال، وفي منتصف القرن كان بعضهم قد بدؤوا يعتبرون أنفسهم أشبه بأمة منفصلة ضمن الولايات المتحدة، وأن الأشياء التي تميزهم كانت مهددة من الخارج من قبل الحكومة في واشنطن.
وسبب هذا الفرق هو أن موضوع الرق قد اختلط بموضوع توسع أراضي الولايات المتحدة، فمع افتتاح الغرب بعد صفقة لويزيانا وظهور ولايات جديدة فيه صارت الأسئلة الكبرى تهيمن على أجوائها: هل يجب السماح بالرق في الولايات الجديدة بما أنه موجود في الولايات الأقدم؟ أم أنه يمكن حظره بقوانين من وضع الكونغرس؟ كان أهل الجنوب يقولون أنه لايمكن حظر الرق، وإذا كان ذلك ممكناً فإنه لايجوز أن يحدث إلا بقرار سكان هذه الولايات الجديدة أنفسهم، لأن الدستور ترك أمر الرق بيد السلطات في كل ولاية.
ولكن معارض الرق كانوا ينكرون هذا، وكانوا يقولون أنه يمكن لمرسوم من الكونغرس أن يحظره في أي أراضي جديدة تنضم للولايات المتحدة، وهكذا صار الخلاف يدور حول معنى الدستور، فهل أسس الدستور هيئة تشريعية وطنية تسمو قراراتها على الولايات المنفردة في النهاية، أم أن للولايات حقوقاً معينة لايجوز أن ينتزعها منها شيء ولو كان قانوناً من وضع الكونغرس؟..
كانت معالجة هذه المسائل بصورة سلمية تزداد صعوبة باستمرار، خاصة بسبب نشاطات ابتدأت منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر ضد الرق، وصار أصحابها يسمون الإلغائيين. لقد كان بعض المناهضين للرق يريدون فقط أن يمنعوا امتداده إلى الولايات الجديدة، أما الإلغائيون فكانوا يريدون إلغاءه حتى في الولايات التي لم يشكك أحد بحقه في الوجود فيها.
وكان هؤلاء يتمتعون بميزة هي أن الرأي العام كان منذ القرن الثامن عشر يتحول ضد العبودية في جميع البلاد المتحضرة وأكثرها لم تكن فيها أعداد كبيرة من العبيد ولا حتى في الخارج، وكان الرق قد منع بصورة مؤقتة في المستوطنات الفرنسية في عام 1794، وفي البريطانية بصورة دائمة في عام 1834. أما في الولايات المتحدة فكان في حالة من الازدياد السريع بينما كان يتراجع في البلاد الأخرى.
وقد أشعر هذه الأمر الكثيرين من الأمريكان بالارتباك والقلق، ولكن الشيء الأهم هو أن الديمقراطية كانت إلى جانب الإلغائيين، إذ أنهم كانوا يقولون إن القرار يجب أن يتم بأغلبية شعب الولايات المتحدة، وأن عليهم إذا اقتضى الأمر أن يغيروا ما قاله الدستور قبل خمسة أو ستة عقود حول حقوق الولايات المنفردة.
وراح الإلغائيون يرفعون حرارة هذا الجدال بأعمالهم الاستفزازية، فكانوا يساعدون العبيد على الهرب من الجنوب، ويقاومون إعادتهم عن طريق المحاكم في الشمال، وينشرون الدعاية لقضيتهم.
أما السياسيون فكانوا يفعلون ما بوسعهم لترتيب حلو وسط، وقد ظلت هذه الترتيبات كافية لزمن طويل، فلم يشعر الجنوب أنه مهدد، ولم تنهار روح التسوية هذه إلا في خمسينيات القرن التاسع عشر، كان لابد عندئذٍ من تنظيم أرض جديدة هي أرض كنساس وتحويلها إلى ولاية، فراح الإلغائيون وخصومهم يتحاربون فيما بينهم لتحديد ما إذا كان سيسمح بالعبودية في هذه الولاية الجديدة، فوقع قتلى وبدأ الناس يتحدثون عن كنساس النازفة.
وبزغ من هذا الموضوع حزب جديد هو الحزب الجمهوري، الذي قال إن الكونغرس هو الذي يحب أن يقرر مصير كنساس، وبالتالي فقد اعتبره الجنوب على الفور عدواً له. وفي الانتخابات الرئاسية لعام 1860 قال الجمهوريون أن العبودية يجب حظرها في أي أرض جديدة سوف تضم إلى الاتحاد، أي أنهم لم يكونوا إلغائيين، ولكن الكثيرين من السياسيين في الجنوب كانوا رافضين حتى لهذا المطلب.
وعندما انتصر في تلك الانتخابات مرشح الحزب الجمهوري أعلنت ولاية كارولاينا الجنوبية في كانون الأول/ ديسمبر 1860 أنها سوف تنفصل عن الاتحاد احتجاجاً، وخلال شهر واحد تقريباً كانت ست ولايات أخرى قد انضمت إليها، وقد أسست هذه الولايات اتحاداً جديدة هي الولايات الاتحادية الأمريكية، التي كان لها دستورها وحكومتها ورئيسها
الولايات المتحدة الأمريكية 1858
الحرب الأهلية
وهكذا ابتدأت أكبر المآسي في التاريخ الأمريكي، لأن كلا من الطرفين كانت لديه حجج قوية لايمكن دحضها، فكنت تجد في الشمال أكثر الولايات الباقية ضمن الاتحاد والشعور الأقوى بضرورة إلغاء العبودية، وهناك قالت الحكومة أن للكونغرس السلطة في وضع قوانين ملزمة للاتحاد برمته، لأن يمثل الأغلبية.
ولم يطالب الجمهوريون بإبطال العبودية في الجنوب، بل بعدم السماح بها في الولايات الجديدة. فرد أهل الجنوب على هذا بأن من حق من لايوافقون على ذلك أن ينسحبوا من اتحاد أنشئ على أساس تفاهم مختلف. وكانوا يسألون لماذا لايكون سكان كارولاينا الجنوبية وبقية الولايات الجنوبية أحراراً في إدارة شؤونهم الداخلية مثل الهنغاريين أو الإيطاليين المطالبين بحرية بلادهم في أوروبا؟ وفوق هذا كان الجنوبيون يخشون أنهم إذا تنازلوا للكونغرس عن حق التشريع حول موضوع الرق في جميع أنحاء الاتحاد فإنه سرعان ما سيبدأ بوضع القوانين حول الشؤون الداخلية في الولايات الجنوبية.
ولقد قسمت هذه الحجج الأصدقاء والجيران بل حتى الأسر نفسها، كما هي الحال دوماً في القضايا الكبرى والمأساوية، وجلبت على الولايات المتحدة صراعاً هائلاً ودموياً كان الناس يسمونه الثورة أو الحرب بين الولايات حسب موقفهم منه، ولكن أكثر المؤرخين مازالوا يسمونه الحرب الأهلية.
كان رئيس الجمهورية الجديد للولايات المتحدة محامياً من ولاية إيلينوي، هو ابراهام لنكولن وهو أعظم رجل شغل هذا المنصب حتى اليوم، كان لنكولن مزمعاً على بذل كل ما باستطاعته من جهد لكي يمكن من عودة الولايات الجنوبية إلى الاتحاد، ولكنه كان أكثر عزماً على الحفاظ على الاتحاد.
لقد عبأ أولاً القوات الفدرالية لكي يعيد الحكم في الولايات الجنوبية إلى وضعه الطبيعي، ولكن الإلغائيين لم يرضوا بهذا لأنهم كانوا يريدون المزيد، وقد قال لنكولن ذات مرة : "إذا أمكنني أن أنقذه بتحرير العبيد جميعاً فسوف افعل". ولكنه بعد ذلك أعلن تحرير جميع العبيد في الولايات المتحدة في يوم رأس السنة من عام 1863، لأنه شعر أن لابد من ذلك من أجل كسب الحرب.
إلا أن هذا الإعلان قد زاد من عزم الجنوب على المقاومة، وقد لزم عامان ونصف العام بعد ذلك لهزم الاتحاد الجنوبي، وفي عام 1865، بعد تلك الهزيمة وبعد اغتيال لنكولن، اتخذت الخطوة الأخيرة وغير الدستور بحظر العبودية في الولايات المتحدة.
لقد كانت تلك الحرب حرباً فظيعة، قتل فيها أكثر من 600.000 أمريكي من أصل 30 مليون عند بدايتها، أي أكثر من الذين قتلوا في أي حرب خاضتها الولايات المتحدة ضد بلد أخرى منذ ذلك الحين، وقد مات أكثر هؤلاء من الأمراض، ولكن البنادق والمدافع الجديدة التي تحشى من الخلف، فضلاً عن السكك الحديدية التي مكنت من حشد أعداد ومواد كثيرة، قد حولت ساحات القتال إلى مجازر مروعة.
وكان الجنوب يعاني من نقاط ضعف عديدة منذ البداية، فقد كانت أعداده أقل، كانت النسبة حوالي 2 إلى 1 وكان هيكله الصناعي ضعيفاً، ولم يكن لديه سوى محصول القطن يبيعه لشراء المواد من الخارج. ولكنه كان يضم في الوقت نفسه جنوداً أكفاء، وكان شعبه مؤمناً بأنه يقاتل من أجل بقائه، كما أن العبيد فيه لم ينقلبوا عليه.
وهكذا لزم في النهاية أربع سنوات من القتال الوحشي، فحصر الجنوب بالولايات القديمة الواقعة على البحر شيئاً فشيئاً، وعاش معاناة رهيبة في تخريب أراضيه وفي خسارة الأرواح.
ولكن الحرب الأهلية كانت حرباً حاسمة، بعكس الكثير من الحروب الأخرى، لأنها سوت بعض المسائل العامة إلى الأبد، لا من أجل أمريكا وحدها، بل من أجل البشرية جمعاء، لقد ضمنت أولاً أن الأمريكيتين سوف تظلان تحت سيطرة قوة عظمى واحدة، وزال خطر انقسام الولايات المتحدة، وإن استغلال قوة واحدة عظمى لثروات هذه الرقعة الكبيرة من الأرض سوف يحدد خلال القرن التالي نتيجة حربين عالميتين.
وحددت الحرب أيضاً أن هذه الأرض الواسعة سوف تكون تحت حكم ديمقراطي، فكان هذا انتصاراً للديمقراطية. لقد أعطى لنكولن ذات مرة تعريفاً شهيراً للديموقراطية هو أنها حكم الشعب من قبل الشعب ومن أجل الشعب. ولم يتحقق هذا المثال بمعناه الكامل بعد في أي ركن من أركان العالم، ولكن الحرب الأهلية حددت أن الكلمة الأخيرة في المستقبل سوف تكون للأكثرية من خلال حكومة وطنية للولايات المتحدة وليس للولايات المنفردة.
أما بالنسبة إلى أولئك الذين صارت الحرب تخاض من أجلهم في النهاية، أي السود فقد كانت النتيجة واضحة من الناحية القانونية والدستورية، ألا وهي نهاية العبودية، وتحولهم إلى مواطنين أمريكيين لهم نفس الحقوق الدستورية والقانونية التي لسواهم من الأمريكان.
ولكن ليست هذه القصة كلها، فرغم أن الملايين من العبيد في الجنوب وجدوا أنفسهم فجأة أحراراً وظلوا يعيشون في الجنوب إلا أنهم كانوا في الوقت نفسه غير متعلمين ولايعرفون غير العمل في الحقول، ولم يكن بينهم إلا القليل من الزعماء لقيادتهم.
لقد احتلت جيوش الشمال أجزاء من الجنوب لبضع سنوات، وعندما كانوا هناك كانوا يحمونهم في استخدامهم حقوقهم الجديدة، ولكن عندما رحلت الجيوش وجد السود أنفسهم بين البيض الذين يبغضون أشد البغض تلك التغييرات التي جلبها القوانين الجديدة على أساليب حياتهم، ويكرهونهم لأنه يرون فيهم رمز هزيمة الجنوب. فراحوا يضايقونهم ويضغطون عليهم اقتصادياً لقمعهم، وقد ساءت العلاقات بين العرقين في الجنوب كثيراً بعد عشرين عاماً من الحرب عما كانت عليه من قبل، كما تراجعت أوضاع السود ولم تتحسن، والحقيقة أن مسألة العلاقات بين العرقين قد ولدت عندما ماتت العبودية.
وأدت الحرب أيضاً إلى اتخاذ السياسة في أمريكا شكل نظام مؤلف من حزبين مازال مستمراً حتى اليوم فمازال الحزبان الجمهوري والديمقراطي اللذان كانا المتنازعين الأساسيين في انتخابات عام 1860 يتشاطران الرئاسة بينهما منذ ذلك الحين، وسوف ترتبط قضية الديمقراطيين طوال عقود عديدة بالجنوب ويرتبط المذهب الجمهوري بالشمال، بينما كان الاتحاد يخرج من كابوس الحرب لكي يتابع مسيرة التوسع التي انقطعت في عام 1961.
الولايات المتحدة الأمريكية 1861
الفورة الاقتصادية الأمريكية
سرعان ما أصبح تيار المد الاقتصادي إلى جانب الجمهوريين مع عودة التوسع الكبير بعد انقطاعه القصير أثناء الحرب، كان أبرز مظاهر هذا التوسع قبل ذلك هو توسع الأراضي، أما الآن فسوف يصبح توسعاً اقتصادياً.
ففي سبعينيات القرن التاسع عشر كانت أمريكا على عتبة عصر سوف يبلغ مواطنوها فيه أعلى دخل للفرد في العالم كله، وقد بدا في خضم هذه النشوة والثقة والآمال الكبيرة أن جميع المشاكل السياسية قد حلت، وتحولت أمريكا على عهد إدارتها الجمهورية إلى الانشغال بالتقدم الاقتصادي وليس بالجدالات السياسية، وهو وضع سوف يتكرر في المستقبل.
صحيح أن الجنوب ظل بعيداً عن هذا الازدهار الجديد وأنه ازداد تخلفاً عن الشمال، إلا أن الأمريكان في الشمال والغرب كانوا يتطلعون بثقة إلى قدوم أيام أفضل بعد، وقد شعر الأجانب أيضاً بذلك، لهذا كانت تراهم يفدون إلى الولايات المتحدة بأعداد متزايدة، وقد بلغ عددهم مليونين ونصف المليون في خمسينيات القرن التاسع عشر وحدها، وأضيفت هذه الأعداد الوافدة إلى السكان الذين ارتفعوا من حوالي خمسة ملايين وربع المليون في عام 1800 إلى ما يقرب من أربعين مليوناً في عام 1870، وكان نصف هؤلاء تقريباً يعيشون عندئذٍ إلى الغرب من جبال اللغيبي كما كانت الأغلبية العظمى منهم في المناطق الريفية.
كان بناء السكك الحديدية يفتح السهول الكبرى للاستيطان والاستثمار اللذين لم يكونا قد بدآ بعد، وفي عام 1869 تم دق المسمار الذهبي أي الأخير في أول امتداد للسكك الحديدية يصل أقصى القارة بأقصاها. وسوف تجد الولايات المتحدة في الغرب الجديد أعظم توسع زراعي لها، فبفضل نقص اليد العاملة أثناء سنوات الحرب كانت الآلات تستخدم بأعداد كبيرة تدل على أن الزراعة قد بلغت مستوى جديداً تماماً، وكانت تلك بداية مرحلة جديدة في الثورة الزراعية في العالم سوف تجعل من أمريكا الشمالية واحداً من أهراء أوروبا، وقد بلغ عدد الحصادات الميكانيكية العاملة وحدها ربع مليون عند نهاية الحرب.
ومن الناحية الصناعية أيضاً كانت تنتظر الولايات المتحدة سنوات عظيمة، فمع أنها لم تكن بعد قوة صناعية تقارن ببريطانيا، كان عدد الأمريكان العاملين في الصناعة أقل من مليونين في عام 1870 إلا أن الأساس كان قد وضع، وكانت السوق المحلية الواسعة والغنية تبشر الصناعة الأمريكية بغد مشرق.
لقد نسي الأمريكان وهم على عتبة أكثر حقب تاريخهم ثقة، ونجاحاً أن هناك خاسرين في هذه العملية، وكان هذا الإغفال سهلاً لأن النظام الأمريكي كان بالإجمال يعمل بصورة حسنة، لقد انضم الآن السود والفقراء من البيض أيضاً إلى الهنود الذين كانوا يخسرون باطراد طوال قرنين ونصف القرن، فصار هؤلاء جميعاً هم الخاسرون المنسيون.
أما الفقراء الجدد في المدن الشمالية التي كانت تزداد نمواً فلا يمكن اعتبارهم من بين الخاسرين نسبياً، لأن أوضاعهم كانت مثل أوضاع الفقراء في مانشستر أو نابولي مثلاً، بل أفضل منها. وإن رغبتهم بالقدوم إلى الولايات المتحدة دليل على أنها كانت منذ ذلك الحين قوة جاذبة كبرى.
ولم تكن قوتها مادية فحسب بل معنوية، أيضاً إلى جانب البؤساء المنبوذين كنت تجد أيضاً الجماهير المحتشدة التواقة إلى استنشاق الحرية، ومازالت الولايات المتحدة في عام 1870 مصدر وحي وإلهام سياسي للراديكاليين الأوروبيين.
الإمبريالية الأمريكية فيما وراء البحار
لم يعلن عن زوال حدود الاستيطان حتى تسعينيات القرن التاسع عشر، فاكتملت بذلك عملية إعمار الغرب بالسكان، ولكن منذ نهاية الحرب الأهلية وربط ساحلي الولايات المتحدة بالسكك الحديدية والتلغراف كثر الحديث عن مصالح الولايات المتحدة في الخارجة وعن الحاجة لرعايتها. وأدى هذا عند نهاية القرن إلى قرار أمريكي بالانضمام إلى حركة الاستعمار مثل جميع الدول الأخرى.
وكان لهذا الاستعمار ملامحه الخاصة مثل جميع أشكال الاستعمار المختلفة، من تلك الملامح شعور الكثيرين من الأمريكان بعدم الراحة نحوه، فكانوا يقولون أن جمهوريتهم نفسها قد ولدت من ثورة ضد قوة مستعمرة فلا يجوز لها أن تقوم باستعمار غيرها بدورها.
ولم يكن في الدستور بنود تتعلق بحكم مستعمرات، بل فقط بالأراضي التي قد تصبح في النهاية ولايات كاملة ضمن الاتحاد، فكيف يمكن إذاً استعمار أراضي تبعد مئات أو حتى آلاف الأميال؟ والحقيقة أن هذه الحجة كانت غافلة عن أن أراضي الولايات المتحدة قد ضمت ضمن ظروف مشكوك فيها أصلاً، وحتى شراء ألاسكا من روسيا عن طريق الاتفاق كان توسيعاً لحكم الولايات المتحدة على أرض أجنبية ليست امتداداً لأراضيها، إلا أن الاستعمار الأمريكي قد تابع تقدمه بالرغم من ذلك.
لقد دفعت الجغرافية الأمريكيين وراء سواحلهم باتجاهين، أحدهما نحو الغرب عبر المحيط الهادي، والآخر نحو الجنوب في الكاريبي وأمريكا الجنوبية، كانوا قد بنوا لأنفسهم تجارة وصيد حيتان هامين في الشرق الأقصى منذ زمن بعيد، ومنذ عشرينيات القرن التاسع عشر، كان للبحرية الأمريكية أسطول هناك. وقد وصل الأمريكيون الأوائل إلى هاواي في الوقت نفسه تقريباً وما إن رأت الحكومة الأمريكية القوى الأخرى تنال الامتيازات من الإمبراطورية الصينية حتى راحت تعقد معها اتفاقيات مشابهة، ثم أرسل القبطان بيري لإكراه اليابانيين على فتح موانئهم للتجارة الخارجية.
في النصف الثاني من القرن صار الأمريكيون يشاركون في إدارة جزيرة ساموا، كما حصلوا على جزيرة هاواي ثم أخذوا من إسبانيا جزر الفيليبين وغوام. وكانت دوافعهم في ذلك معقدة، فبعضهم كانوا حريصين على رعاية مصالح بلادهم وحصولها على بعض الأراضي مثل الدول الأخرى، وكان بعضهم يتحدث عن الاقتصاد الوطني وعن الحاجة للأسواق من أجل التصدير، ولكن هذه الحجة لا أساس لها لأن الولايات المتحدة كانت تتمتع بسوق داخلية هائلة من أجل مصنوعاتها.
أما بعضهم الآخر فقد فهموا أفكار داروين، أو ماحسبوا أنها أفكاره، على أن الصراع بين الشعوب مثل الصراع بين الأجناس في الطبيعة من أجل البقاء، وأن الشعوب الأقوى هي التي تنتصر في النهاية، وأن انتصارها هذا يكون بحكمها للشعوب الأخرى.
ولكن الحقيقة أن الاستعمار الأمريكي لم يستمر طويلاً من ناحية الاستيلاء على أراض جديدة، وقد جاء الضم الأخير لهاواي في تموز/يوليو 1898 في فورة من العدوانية والتوسع كانت ضحيتهما الأساسية هي القوة الاستعمارية القديمة إسبانيا.
ففي شهر شباط/فبراير 1898 انفجرت طرادة أمريكية اسمها السفينة مين بصورة غامضة بينما كانت في المرفأ في هافانا بجزيرة كوبا، وكانت كوبا في ذلك ملكاً لإسبانيا، وكانت المصالح الاقتصادية الأمريكية الهامة في هذه الجزيرة منذ زمن بعيد، ولطالما تعاطف الأمريكان مع الثورة في كوبا التي عجز الإسبان عن السيطرة عليها رغم جهودهم الكبيرة ووحشيتهم.
وأعلنت الولايات المتحدة الحرب على إسبانيا من دون سبب وجيه، إذ لايعلم أحد حتى الآن لماذا انفجرت السفينة مين، وقد قال أحد الرؤساء الأمريكيين اللاحقين عن تلك الحرب أنها كانت حرباً صغيرة رائعة. لقد هزم البحارة والجنود الأمريكان الإسبان في كوبا، وأغرق أسطول إسبانيا الأطلسي برمته في معركة لم يصب فيها الأمريكان إلا بخدوش بسيطة.
أما على الطرف الآخر من المحيط الهادي فقد دمر أسطول إسبانيا في تلك المنطقة في خليج مانيلا كما دعم الأمريكان حركة ثورية للإطاحة بالحكم الإسباني في الفيليبين. وأثناء السلم الذي عقد بعد ذلك صارت كل من غوام والفيليبين وبورتوريكو للولايات المتحدة، واستعادت كوبا استقلالها ولكن بشروط سمحت للولايات المتحدة بإعادة احتلالها في ظروف معينة، كما حدث بين عامي 1906 و 1908 مثلاً.
منطقة الكاريبي
لقد خمد الحماس للفتح الاستعماري بعد الحرب الإسبانية بسرعة، ولكن الجبهة الجنوبية ظلت تشغل بال الولايات المتحدة بطريقة خاصة. كان التفسير القديم لمبدأ مونرو هو أن ذلك الشطر من العالم ذو أهمية خاصة للولايات المتحدة، وأنه يحق لها بالتالي أن تتصرف فيه دفاعاً عن مصالحها.
وظهرت حينئذٍ ناحية جديدة لهذه المصالح، لأن التقنية الحديثة باتت قادرة على حفر قناة عبر البرزخ الواقع بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية يصل المحيط الهادي بالمحيط الأطلسي عبر منطقة الكاريبي.
وكان الاستراتيجيون الأمريكان ذوي اهتمام خاص بالإمكانيات التي سوف تفتحها هذه القناة، وإن صعود القوة البحرية اليابانية قد جعل الحفاظ على أسطول قوي في المحيط الهادي أمراً أهم من أي وقت مضى وسوف يصبح إمداده أسهل وأسرع بكثير إذا تم عن طريق بناما، بدلاً من أن يتم من حول رأس هورن (كيب هورن) في الطرف الأقصى من أمريكا الجنوبية.
في عام 19.3 رفضت الحكومة الكولومبية معاهدة ترمي للحصول على جزء من أراضيها من اجل أن تمر عبرها القناة، ولهذا دبرت بدعم أمريكي ثورة في بناما، التي كان مخططاً أن تمر القناة فيها، ومنعت الولايات المتحدة من قمع الثورة، فظهرت جمهورية جديدة في بناما، سلمت للأمريكيين السلطة القضائية وسمحت لهم باحتلال شريط من الأرض سوف يصبح منطقة قناة بناما، كما أنها تنازلت للولايات المتحدة عن حق التدخل في شؤونها إذا اقتضت الحاجة من أجل الحفاظ على الأمن.
فابتدأ بعدها العمل بالقناة، وكانت ذات هندسة متميزة كما كانت مزدوة بأهواس، تجهيزات لرفع السفن أو خفضها من مستوى إلى آخر بعكس قناة السويس، وقد أمكن افتتاحها في عام 1914.
لقد غيرت قناة بناما استراتيجية أمريكا، وسببت منعطفاً جديداً في سياستها في منطقة الكاريبي بأسرها، ولما كانت القناة مفتاح دفاعات أمريكا البحرية فقد كان لابد من حمايتها حماية خاصة، فراحت الولايات المتحدة تزيد من تدخلها في شؤون جمهوريات أمريكا الوسطى والكاريبي وبقوات مسلحة أحياناً، لأن الأميركيين كانوا يعتقدون بأن اختلال الأمن فيها قد يخلق وضعاً يمكن لقوة معادية للولايات المتحدة أن تستغله. أما الأمريكيين الذين لم ترق لهم هذه الحجة فسرعان ما هاجموها على أنها استعمار تحت زي جديد.
وسرعان مابدأت مخاوف أولئك الأمريكيين المناهضين للاستعمار بالتحقق في الشرق الأقصى، فبعد الاستيلاء على جزر الفيليبين بوقت قصير تحولت الثورة المعادية للإسبان فيها ضد الأمريكان، وبدأت حرب عصابات طويلة ومكلفة.
وعندما تمت السيطرة عليها في عام 1902 كان الرأي الأمريكي متلهفاً لتسليم الحكم للفيليبيين إذا كان ذلك ممكناً بطريقة آمنة، ولكن هذا الأمر كان صعباً، ويم يتم حتى ثلاثينيات القرن العشرين، كما كان هناك خطر أن تتقدم قوة استعمارية أخرى فتأخذ الجزر إذا تركتها الولايات المتحدة، مثل اليابان. وقد يهدد هذا الأمر المصالح الأمريكية في المنطقة، خاصة مصالحها التجارية مع الصين. إن خوف الأمريكان مما قد يحدث إذا انهارت الصين جعلهم يدعمون ما سموه سياسة الباب المفتوح هناك، فقالوا أن على القوى الأجنبية أن ترفع أيديها عن الصين، وأن تحافظ على المعاهدات التي تمنحها حقوق التجارة، وأن تتنافس فيما بينها بسلام عن طريق الوسائل الاقتصادية، ولما كانت هذه سياسة بريطانيا بالأصل فلن يكون للولايات المتحدة من معارض إذا سارت على هذا الخط.
إن الرئيس ثيودور روزفلت مدبر ثورة بناما التي مكنت من بناء القناة، كان أيضاً أول رئيس يؤكد على حق التدخل في دول الكاريبي، وقد اعتبر هذا نتيجة طبيعية لمبدأ مونرو، لقد أرسل روزفلت قوات بحرية إلى سانتو دومينغو لضمان تسديدها ديونها للمستثمرين الأجانب، فحرم بالتالي القوى الأجنبية من أي عذر للتدخل فيها.وقد سمى جيرانها هذا التدخل على عهد خلفائه دبلوماسية الدولار.
ثم أرسل الرئيس تافت قوات بحرية إلى نيكاراغوا، أما الرئيس ودرو ولسن الذي استلم الرئاسة في عام 1912، فقد قال الكثير في شجب الأساليب الاستعمارية واستنكارها، ولكنه عملياً سار على طريق من سبقوه. فاحتلت القوات البحرية الأمريكية سانتو دومينغو من عام 1914-1916، وتم مع الحكومة أخيراً من أجل فرض دستور جديد من قبل الأمريكان. واحتلت هاييتي لفترة من الزمن في عام 1915.
إلا أن أكثر مثال صارخ عن تدخل ولسن إنما كان في المكسيك، فعندما استلم دكتاتور عسكري الحكم هناك امتنع ولسن عن الاعتراف به بحجة أن نظامه ليس بمستوى المعايير الأخلاقية للولايات المتحدة. ورست القوات البحرية في فيرا كروز في عام 1914، ولم تنسحب إلا بعد خلع الدكتاتور من منصبه بالقوة، ثم عادت الحملات التأديبية الأمريكية إلى المكسيك بعد سنوات قليلة ولكن الحقيقة أنها كانت في هذه المرة استجابة لغارة قام بها قائد مكسيكي على ولاية نيومكسيكو.
كان الكثيرون من الأمريكان في ذلك الحين ينفرون نفوراً عميقاً من المغارات الخارجية، لأنها كلفتهم الكثير من المال ولم تأت بمكسب ما، كما أنه لم يمكن ثمة فرصة لمزيد من التوسع في أي مكان إلا في منطقة الكاريبي، لأن بقية العالم كانت قد اقتسمتها القوى الأخرى اقتساماً كاملاً تقريباً. وعندما اندلعت حرب كبرى في أوروبا في عام 1914 ظل الأمريكيون يكرهون التورط في المشاكل الخارجية.