كان الأوروبيون في القرن التاسع عشر يتسابقون على بناء إمبراطوريتهم باندفاع أكبر من السابق، ولم تكن سلطتهم العالمية في تلك الحقبة مقتصرة على رفع أعلامهم فوق أراضي جديدة، بل كانت تشكل أخطاراً مختلفة كثيرة على العالم غير الأوروبي، وكانت بعض تلك الأخطار أعمق لأنها ليست مباشرة مثل الاحتلال العسكري أو السياسي.
لقد أدى وصول التجار والمنقبين والممولين الأوروبيين والأمريكيين إلى تنازلات اقتصادية من جانب الحكام المحليين بعد أن كانوا في السابق مستقلين، وربط هذا الأمر رعاياهم بعجلات العربة الغربية سواء بصورة مقصودة أم غير مقصودة.
فقد تبدلت الحياة تماماً، في ماليزيا مثلاً عندما أتى إليها الأوروبيون بنبات المطاط من أمريكا الجنوبية، مبتكرين بذلك صناعة جديدة سرعان ما صار الكثيرون من السكان معتمدين عليها في معيشتهم.
وقد تعطي عمليات استخراج المعادن بلداً ما أهمية سياسية جديدة، فقد وجد حكام المغرب أن الأوروبيين راحوا يتدخلون في شؤون بلدهم ويتنازعون عليها حالما ظهر احتمال أن تحتوي على معادن قابلة للاستثمار.
وقد يمتد التدخل في شؤون الحكم الذاتي لتلك الدول المستقلة شوطاً بعيداً من دون أن يصل إلى الضم المباشر، لقد جرت أولى المفاوضات حول هذا الشكل من التنازلات مع الأتراك العثمانيين في القرن السادس عشر، ومنذ ذلك الحين صارت تعقد مع قوى غير مسيحية من أجل ضمان الأمن والامتيازات للأوروبيين المقيمين فيها.
وكانت تسمح لهم بالإعفاء من المحاكم المحلية وبالمثول بدلاً منها أمام مسؤولين أو محاكم خاصة يديرها قضاة أوروبيون، فيتجاوزون بذلك قانون البلاد. فقد كان الأوروبيون والأمريكيون يعيشون في الصين في أواخر القرن التاسع عشر في مناطق خاصة ممنوحة لهم ضمن المدن التي يديرون منها أعمالهم، ولم تكن حكومات هذه المناطق مسؤولة أمام السلطات الصينية بل أمام السلطات الأجنبية، وكانت لها أحياناً حاميات وقوات شرطة غربية أيضاً.
وقد أضعفت هذه الترتيبات مكانة الحكام المحليين في نظر شعوبهم، كما أن الأوروبيين كانوا أحياناً يتفاوضون مع بعض الحكام على معاهدات تعطيهم سيطرة على سياستهم الخارجية، وكان هناك بالإجمال مجال واسع من التدخل الفعلي في شؤون الدول غير الأوروبية يمتد بعيداً خارج الحدود الرسمية للإمبراطوريات.
وكان هناك أخيراً شكل آخر غير مباشر من الهيمنة بدأت الحضارة الأوروبية تمارسه بصورة متزايدة في القرن التاسع عشر، وسوف يستمر بعد انتهاء حكمها الصريح في دول كثيرة، هذه السيطرة هي سيطرة الأفكار والأساليب الغربية، أي الحضارة الأوروبية بأعمق معانيها، ومن الصعب أن نحدد هذا التأثير إلا في حالات منفردة.
لقد بقي ملايين الناس في مساحات شاسعة من العالم يعيشون ضمن أنماط تقليدية من السلوك والمعتقدات لم تمسها الحضارة الغربية أو الأوروبية بشيء، وهذه حقيقة هامة لايجوز أن تغيب عن بالنا.
ولكن الأفكار القومية كانت أفكاراً غربية سوف تتبناها شعوب آسيا وأفريقيا بحماس كبير، وسوف تحرز فيها انتصارات واسعة، ومثلها أفكار العلم والتقنية ومفاهيم التقدم المرتبطة بها، فضلاً عن المفاهيم الغربية في مجالات القانون والاقتصاد والدين والسياسة والحكم وغيرها الكثير الكثير.
صحيح أن الأفكار لم تؤثر في البداية إلا في أعداد قليلة من الناس هي النخب المتعلمة في المجتمعات غير الأوروبية، ولكنها في النهاية تغلغلت عميقاً ضمن أساليب الحياة وامتدت آثارها بعيداً خارج تلك الحلقات الضيقة.
لقد لعبت هذه التيارات المختلفة في عصر توسع الإمبراطوريات أدواراً مختلفة من بلد إلى أخرى، وبالإجمال كان الاستملاك المباشر للأراضي يظهر في أبرز أشكاله في أفريقيا وجزر المحيط الهادي، بينما انتشرت الأشكال غير المباشرة من النفوذ الغربي في الإمبراطوريات الآسيوية القديمة، وإن هذا الوصف تقريبي جداً ولكنه يبقى مع ذلك وصفاً مفيداً.
دوافع وفرص
لقد كانت دوافع الأوروبيين في سيطرتهم على العالم عديدة ومتنوعة، من الواضح أن الرغبة بالمكاسب الاقتصادية كانت واحداً من تلك الدوافع منذ القرن الخامس عشر، فقد كان الناس دوماً يسعون لإيجاد مناطق جديدة يتاجرون معها ويكسبون الأموال، أو موارد جديدة بشكل أراضٍ أو ثروات معدنية أو مجهود بشري، أو فرص للسلب والنهب الصريحين.
وازدادت جاذبية هذه الموارد في القرن التاسع عشر بسبب ارتفاع الطلب في أوروبا على المواد الأولية من أنحاء العالم المختلفة بقيام الحركة الصناعية، إلا أنك لست مضطراً لحكم بلد ما من أجل أن تتاجر معها، والحقيقة أن الكثيرين من رجال الأعمال كانوا يفضلون العمل بعيداً عن متناول القوانين والأنظمة الأوروبية، وحتى عندما بلغت المنافسة بين الدول الاستعمارية أشدها للاستحواذ على أراضٍ جديدة، كان مسؤولوها وسياسيوها عادة غير راغبين باتخاذ مستوطنات جديدة، لأنهم يعلمون أن حكمها وحمايتها يكلفان الكثير من المال، وأن لاضمانة لأن تسدد نفقاتها في النهاية.
كما أن سعي الناس نحو استثمارات ذات مردود مجز لايفسر رغبتهم في الحصول على أراضٍ جديدة، فقد كانت بريطانيا تستثمر في الخارج مبالغ أكبر من أي دولة أخرى في عام 1900، وكانت لها أيضاً أوسع إمبراطورية في العالم، ولكن الأموال التي أودعها فيها المستثمرون البريطانيون كانت ضئيلة جداً بالقياس إلى استثماراتهم الواسعة في الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية، لأن عوائد الأمريكتين كان أوفر بكثير من عوائد الاستثمار في أفريقيا.
صحيح أن توسع الاقتصاد الحر في أوروبا وأمريكا الشمالية قد تزامن تقريباً مع بناء الإمبراطوريات الجديدة، وأن بعض رجال الأعمال كانوا أحياناً يحاولون جذب حكوماتهم إلى ضم مستوطنات جديدة لأن لهم فيها مصلحة خاصة، ولكن الرأسمالية بحد ذاتها لاتكفي لتفسير هذه الموجة من التوسع الاستعماري.
الحقيقة هي أن الدوافع والأهداف كانت تتباين كثيراً بين أنحاء العالم المختلفة، لأن الحكومات المختلفة كانت تستمع بدرجات مختلفة إلى مصالح كثيرة ومختلفة أيضاً، مثل مصالح الجنود، وأصحاب المشاريع الإنسانية، والمبشرين الدينيين، وبعض الأشخاص المعتوهين، والمستوطنين، عدا عن رجال الأعمال.
كما أنها كانت تستمع بدرجات مختلفة إلى الرأي العام، وقد تميز هذا العصر الأخير من الاستعمار في بلاد كثيرة ببداية الاهتمام برغبات جماهير الناخبين للمرة الأولى، وكان أولئك الناخبون يقرؤون الجرائد أكثر مما مضى، وكان الصحفيون ومازالوا يختارون المواضيع التي تسهل المبالغة العاطفية فيها وتحويلها إلى مقال صحفي يجتذب القراء ويرفع المبيعات، وقد كانت هذه المواضيع وافرة في عصر الاستعمار.
ولهذا كان رجال الدولة أحياناً يسيرون مع التيار الشعبي أو ما يبدو أنه التيار الشعبي ولو أنهم غير مؤمنين بالتوسع الاستعماري، وحتى في روسيا، التي كانت أقل الدول الاستعمارية ديمقراطية، يبدو أن الحكومة كانت تشعر أن سيرها على طريق الاستعمار سوف يساهم في حشد الدعم والتأييد لنظامها.
والناحية الأخيرة المهمة والتي تزيد قصة الاستعمار تعقيداً هي اختلاف درجات وسعة امتداده بسبب تباين درجات المقاومة نحوه، كان الاستعمار عبارة عن محاولات لفتح أبواب جديدة، ولكن الباب قد يكون مغلقاً أحياناً أو قد يكون هناك من يدفعه من الجانب الآخر لكي يبقيه مغلقاً، بينما لم تكن هناك أي مقاومة وراء أبواب أخرى.
أي أن الإمبراطوريات الجديدة كانت تواجه في توسعها فرصاً متباينة جداً، وهذا ما اكتشفه المستوطنون الأوروبيون في الخارج، لقد ذهب بعضهم إلى أجزاء من العالم لا يألفها الأوروبيون، مثل أستراليا ونيوزلندا وجزر المحيط الهادي وشرق أفريقيا، فكان لهم دورهم في عملية الامتداد الاستعماري، ولكن أعدادهم كانت تختلف كثيراً بين البلاد الأوروبية، فكنت تجد أكثر جماعات المستوطنين في مستعمرات بريطانيا، بينما كان المهاجرون من الدول الأوروبية الأخرى يذهبون عادة إلى الولايات المتحدة أو أمريكا الجنوبية.
ثم أنه لم يكن هناك في تلك الأراضي الجديدة حضارات متطورة أو إمبراطوريات ذات ماض عظيم أو ديانات كبرى مثل التي في الهند أو في الصين، أي أنهم لم يجدوا ما يستدعي إعجابهم واحترامهم.
كما أن عدد السكان الأصليين كانت قليلة، لذلك كان المستوطنون البيض يبنون حياتهم بحرية أكبر بكثير من حكام البلاد الأخرى التي استعمرتها بريطانيا، والذين كانوا يواجهون ظروفاً محلية أكثر تعقيداً، أما في المستعمرات التي لم يأت إليها مستوطنون فكانت الدول الأوروبية تميل للتوسع بسبب صعوبة حدود ثابتة ونظامية من دون المشاركة في شؤون الشعوب التي تعيش فيها، وكان الروس في آسيا الوسطى والبريطانيون في الهند يرون أنفسهم في هذا الوضع، سواء كانوا على صواب أم على خطأ.
وإذا نحن استعرضنا القوى الكبرى القديمة في العالم غير الأوروبي، وجدنا أن الإمبراطورية العثمانية في غرب آسيا وفي أوروبا أيضاً كانت تعاني من مصاعب كبيرة في عام 1800، وقد ازدادت المصاعب بمرور القرن سوءً على سوء، فلم يعد الأتراك قادرين على حكم الشعوب التابعة لهم بصورة ملائمة، وراحت بعضها تطلب المساعدة من الدول الأوروبية.
وإلى الشرق منها كانت إمبراطورية فارس ذات الماضي العظيم ترزح تحت ضغوط خارجية كبيرة خاصة في روسيا، كما كانت في الداخل مقسمة وضعيفة. وإذا ابتعدنا أكثر نحو الشرق رأينا أن إمبراطورية المغول لم تعد إلا صورة باهتة عن إمبراطورية القرن السابع عشر، وأن الدول الهندية المتعاقبة كانت عاجزة عن تأمين الحكم الثابت لنفسها، وحتى إمبراطورية الصين التي كانت في الماضي قوة عظمى كانت تبدو ضعيفة في بداية القرن التاسع عشر، وكانت إندونيسيا خاضعة للهولنديين، وكان جنوب شرقي آسيا يخرج عن سيطرة سادته الصينيين، فلم يكن في هاتين المنطقتين مقاومة قوية لحضارة أوروبا المهيمنة والعدوانية.
أما في بقية أنحاء العالم، أي في أفريقيا وجزر المحيط الهادي، فقد وجد المستعمرون البيض شعوباً أكثر تخلفاً، إن الذي حمى هذه الأماكن من السيطرة الأجنبية لزمن طويل إنما هو العوائق الطبيعية كالمناخ وبعد المسافات والأمراض، ولكن القرن التاسع عشر قد أتى بأساليب جديدة للتغلب على تلك العوائق.