في القرن التاسع عشر بدأت الآلات الجديدة بالظهور في كل مكان بأعداد كبيرة، ورغم أنها كانت تزداد تعقيداً فإن استخدامها كان يزداد سهولة، فكنت تراها في كل مكان في أوروبا وأمريكا الشمالية، مثل السيارات وعربات الترام والدراجات في شوارع المدن الكبرى، والأنوال والمخارط والمثاقب في المصانع، وآلات تسجيل النقد والآلات الكاتبة في المكاتب والمحلات، وقد بدلت هذه كلها الحياة من نواح كثيرة.
كانت أولى النتائج وأكثرها جلاء أن الآلات قد رفعت قيمة مجهود الإنسان بقدر كبير جداً، فصار بإمكان العامل أن ينتج بسرعة أكبر بكثير، وكانت هذه مساهمة أساسية في النمو الهائل للثروة في ذلك العصر.
وكنت ترى النتائج حتى في الريف، فبعد بداية القرن التاسع عشر بقليل كانت الآلات الزراعية الإنكليزية تعرض في المعارض الأوروبية، وفي منتصف القرن كان البخار يستخدم لإدارة الآلات وجر المحاريث، كما ارتفع عدد الحصادات الميكانيكية في المزارع الألمانية من 20.000 عام 1880 إلى أكثر من 300.000 في عام 1907، ويمكننا أن نذكر أرقاماً كثيرة مثل هذه، وفي عام 1910 وكان قد ظهر أيضاً الجرار الذي يعمل على البنزين.
وكانت الصناعة أكثر من الزراعة اعتماداً على وجود الآلات المبتكرة الجديدة والرخيصة، فظهرت المخارط وغيرها من مكنات صنع الآلات، والمطارق الساقطة والأفران العالية (الأتونات) لصهر المعادن، وآلات صنع جسم السيارة، وألف مثال ومثال غيرها.
كما وفرت الآلات مجهود الإنسان بطرق أخرى غير الصناعة أيضاً، فعربات الترام الكهربائية وقطارات الأنفاق المترو مثلاً كانت في عام 1914 تنقل ملايين الناس إلى أعمالهم في مدن كثيرة، وكان هذا توفيراً كبيراً للطاقة التي كانت تستهلك قبل خمسين سنة، في قطع المسافات الطويلة على الأقدام، فضلاً عن اختصار الوقت اللازم لكسب المعيشة.
وحتى في البيت كانت تأثيرات الآلات كبيرة جداً، فتزويد البيوت بالغاز للطبخ من مصانع الغاز المحلية قد خفف كثيراً من متاعب وتكاليف إدخال الوقود وتوزيعه في البيت، وضخ المياه من محطاتها المركزية كان متوفراً في ملايين البيوت في عام 1914، وإذا شئت أن تعرف مدى تأثير هذا التطور فما عليك إلا أن تنظر إلى مواكب نساء القرى في بعض أنحاء أوروبا الجنوبية وهن يذهبن إلى الساقية أو النبع القريب لأخذ حاجاتهم من الماء لمهام البيت، وإن هذا المشهد بالطبع أكثر شيوعاً في آسيا وأفريقيا.
وقد غيرت آلة الخياطة أيضاً عملية صنع السلع في المنزل، أما في بيوت الأغنياء في أوروبا وأمريكا فكنت تجد آلات أخرى غير هذه، مثل المكانس الكهربائية والمصاعد وآلات الغسيل، وفي بيوت جميع الطبقات كنت تجد تلك المكواة المكونة من أسطوانتين تمرر بينهما الألبسة، وهي جهاز وفر الكثير من الجهد المبذول في تجفيف الملابس وكيها.
من الصعب أن نرتب أهم الابتكارات الميكانيكية في هذا القرن ترتيباً زمنياً لأن العلاقات المتبادلة فيما بينها كانت معقدة وسريعة جداً، ومن الصعب أيضاً أن نحدد التأثيرات العامة لقدوم الآلات على تنظيم العمل وشكل المهن ولو كن من الممكن وصف ذلك إلى حد ما في أي مهنة معينة.
وقد ظهرت مجموعة من الوظائف الجديدة، كانت كلمة مهندس engineer كلمة قديمة، ولكن معناها اتسع كثيراً في القرن التاسع عشر، فظهر التخصص ضمن الهندسة في مجالات البناء والأشغال الكهربائية والسفن والكيمياء، وكانت قد ظهرت مؤسسات للتعليم التقني في بلاد كثيرة تقدم تعليماً متقدماً في مجال الهندسة وتمنح مؤهلات معترف بها بصورة واسعة كمعادلات للشهادات الجامعية، كما بدأت بعض الجامعات بتدريس هذه المواد، فصار المهندسون يعتبرون الهندسة مهنة قائمة بذاتها، وكانوا عادة منظمين في هيئات مهنية ترعى مصالحهم.
وكانت كلمة ميكانيكي Mechanic كلمة أخرى صار لها معنى جديد، هو الحرفي المختص بالتعامل مع الآلات، وقد ازداد عدد هذا النوع من العمال المهرة بسرعة هائلة في الدول الصناعية، وصاروا يميلون أيضاً للتخصص في نهاية هذه المرحلة،وصارت مؤهلاتهم تحدد بمعايير المهنة وبالشهادات. وكان معنى كلمة ميكانيكي يتسع باستمرار، فظهر صانعوا المراجل والمخترعون وصانعوا الآلات والمختصون بضبطها ومعايرتها وتصميمها، وكانت الحاجة تزداد لهم بأعداد كبيرة، كما كانت أعمالهم تزداد تخصصاً بمرور الزمن.
فليس من الصحيح إذاً أن التصنيع والمكننة قد أضعفا من تنوع المهن وتفردها، ورغم أنهما قضيا على الكثير من الحرف فقد رفعا أعداد المهارات الخاصة المطلوبة من نواح عديدة، ولكن الآلات كانت من ناحية أخرى بحاجة لأعداد كبيرة من العمال غير المدربين الذين لاتتجاوز مهمتهم صيانتها والعناية بها، فكان عملهم مملاً جداً وخالياً من عوامل التحفيز.
التأثيرات النفسية والفكرية للمكننة
كان من المحتم أن تؤثر هذه التغيرات العريضة على أفكار الناس ونظرتهم للحياة، لقد بدأ الكثيرون منهم يعتقدون أن الآلات قد تقوم بأي شيء إذا أتيح لها الزمن والمجهود اللازمان، وبهذا صار العالم يبدو أقل غموضاً وأكثر قابلية للسيطرة، كما رأى الكثيرون في هذا التقدم التقني دليلاً على أن الحضارة الأوروبية تسير في الاتجاه الصحيح.
وقد كان هناك عدد قليل من الأشخاص الذين يعتقدون غير هذا وكانوا يعبرون عن آرائهم كثيراً وبصوت عال، إلا أن أكثر الناس قبل عام 1914 كانوا مقتنعين من الأدلة التي يرونها من حولهم، فالمهام الشاقة والصعبة قد أصبحت تؤدى بسهولة ويسر، والسلع التي كانت في الماضي سلعاً باهظة الثمن باتت اليوم شائعة.
كما أن الفوائد الاجتماعية للتقنية قد ظهرت خارج العالم الغني أيضاً فامتدت السكك الحديدية ضمن أفريقيا وآسيا، وحملت معها منافع أخرى مثل تحسن المضخات والآبار والاتصالات والطب، لقد أصبحت الحضارة الرائدة في العالم تعتبر الآلات أشياء عادية وتعاملها كجزء أساسي من حركة التطور، وكان هذا تغيراً هائلاً في نظر البشرية.
الطاقة
كانت تلك الآلات الجديدة بحاجة لطاقة جديدة أيضاً، وقد ارتفع استهلاك الطاقة بعد عام 1801 بمعدلات لاسابق لها، إن التحسينات التي جرت على المحرك البخاري في القرن الثامن عشر قد جعلت البخار هو المصدر الأساسي للطاقة في القرن التاسع عشر، ومع أن السكك الحديدية في بعض أنحاء العالم كانت تعمل على الخشب فقد رفعت الطلب على الفحم أيضاً.
وكان الإنتاج العالمي للحم 800 مليون طن في عام 1900، ثم ارتفع في عام 1913 إلى أكثر من 1.300 مليون طن، وكانت تسعة أعشار هذه الكمية تأتي من أوروبا والولايات المتحدة، وكانت قد ظهرت مصادر أخرى للطاقة، فبعد أن اكتشف فارادي في عام 1831 مبدأ عمل المولد الكهربائي وتبين أن الكهرباء يمكن توليدها، ارتفع الطلب على الفحم من جديد لأنه صار يستخدم لإدارة المولدات الكهربائية، كما وجدت أيضاً طريقة جديدة لاستغلال الموارد المائية في توليد الطاقة الهدروكهربائية، فكان هذا توسعاً آخراً في موارد الطاقة.
كانت الزيوت النباتية والحيوانية تستخدم للإضاءة منذ زمن بعيد عندما اكتشف الناس تكرير النفط، وقد أنتج النفط بصورة تجارية للمرة الأولى في بنسلفانيا في عام 1859، فمهد بذلك الطريق لاستخدام الزيوت المعدنية للإضاءة أولاً بشكل مصابيح البارافين، ثم للوقود.
وقد مكن النفط ثم البنزين من اختراع المحرك الداخلي الاحتراق، وهو محرك يعتمد على انفجار الوقود ضمن غرفة الاحتراق لدفع المكبس، بينما يستخدم الوقود في المحرك البخاري لتحويل الماء إلى بخار هو الذي يدفع المكبس. ونشأت من هذا المحرك الجديد اختراعات جديدة مثل السيارة والمحركات المحمولة لجميع أنواع الأعمال، والعنفات العاملة على البترول في السفن وفي توليد الطاقة الكهربائية، وأخيراً في المحركات القوية والخفيفة إلى حد يسمح باستخدامها في الطائرات.
ومع هذا الارتفاع قفز إنتاج البترول العالمي وأكثره في الولايات المتحدة من 5.75 مليون برميل في عام 1871 إلى 407.5 مليون في عام 1914، واقتضى هذا التطور بناء آبار جديدة وصناعة تكرير هائلة مع وسائل النقل الضرورية لشحن البترول إلى أماكن استخدامه.
كانت هذه الآلات الجديدة بحاجة إلى كميات كبيرة من المواد الأولية، وكان بناء السكك الحديدية والسفن يستهلك كميات هائلة من الحديد، وقد تمت خطوة هامة جداً إلى الأمام عندما اكتشف طريقة جديدة في صنع الفولاذ في خمسينيات القرن التاسع عشر، وقد كان هذا المعدن شائع الاستعمال قبل ذلك ولكنه كان غالي الثمن، فصار الآن رخيصاً وبات يستخدم بدلاً من الحديد المطاوع.
ثم حصلت تحسينات أخرى خفضت سعره فزادت الطلب عليه، وخلال العقد التالي حصلت اختراعات مكنت من صنع الألمنيوم من خام البوكسيت، فتحول من معدن ثمين إلى مادة شائعة الاستعمال. أما فيما يتعقل بالمواد غير المعدنية، فقد حصل تطور هائل في الصناعة الكيميائية أدى إلى إنتاج مادة السليوليد في عام 1879 ثم إلى الألياف الصنعية بعد حوالي عشرين عاماً وإلى مادة الباكليت في عام 1909، وهي من أولى المواد التي نسميها اليوم مواد بلاستيكية.
في عام 1914 كانت كل ناحية من نواحي الحياة في الدول الصناعية قد تأثرت بالآلات الجديدة والمواد الجديدة، فحتى ياقات الملابس كانت تصنع أحياناً من السليوليد. ولم تقتصر هذه التبدلات على فنون السلم بل تخطتها إلى فنون الحرب أيضاً.
لقد كان أول استخدام عسكري للسكة الحديدية في عام 1854 في حملة خاضها البريطانيون والفرنسيون ضد الروس في شبه جزيرة القرم، وسرعان ما أخذ القادة العسكريون يخططون لاستخدام السكك الحديدية من أجل نشر مئات الألوف من الرجال.
وكانت الآلات تزداد في عتاد الجيش أيضاً، فتحسنت الأسلحة وصارت أقوى، كما ظهرت آلات عسكرية كثيرة قبل عام 1914، مثل الدراجة النارية والشاحنة والجرار والطيارة وأجهزة الإشارة، أما البحرية فقد شهدت ثورة حقيقية بظهور البخار، وقد ظهرت أول سفينة بخارية في البحرية الملكية في عام 1821، ثم كبرت المدافع والدروع الواقية للسفن وتحسنت.
ولو رأى نلسون السفن العملاقة التي كانت تشكل أساطيل الدول العظمى في عام 1914 لما عرف أنها سفن إلا من كونها طافية على سطح الماء، ولكنه لو وجد نفسه على ظهر سفينة حربية قبل عصره بمائة عام لوجدها مكاناً مألوفاً لديه. وكانت هناك أيضاً غواصات في جميع القوى البحرية الكبرى في عام 1914، ولقد كانت آلات الحرب هذه أبشع العلامات وأبلغها على امتداد عصر الآلات إلى كافة أنحاء الأرض.