لم يكن العلم إلا واحداً من أسباب عديدة أدت إلى ارتفاع أعداد البشر، ولم يكن هو السبب الأساسي، إن السبب الأساسي هو أن العالم كان يزداد غنى، وكان لابد من وجود كميات أكبر من الغذاء من أجل القيام بهذه القفزة الكبيرة، والحقيقة أن الغذاء كان في عام 1914 متوفراً بصورة لاسابق لها.
كان إنتاج الزراعة في العالم قد ارتفع ارتفاعاً هائلاً خلال القرن السابق وبمعدل تجاوز النمو المتدرج الذي كان يجري في الأزمنة الأبكر، وكان يشبه من هذه الناحية نمو عدد السكان، ولكن كما أن أعداد السكان لم تنم بنفس المعدل في كافة أنحاء العالم، ولا بصورة سلسة منتظمة، كذلك لم يكن إنتاج الغذاء واستهلاكه منتظماً أو متساوياً.
لقد ازدادت بالتأكيد كمية الغذاء المنتج في أفريقيا وآسيا، ولكن لم تزدد حصة الجميع منه، ولايمكن أن يكون طعام الفلاح الهندي أو الصيني قد تغير كثيراً خلال قرون عديدة، رغم الزيادة القليلة في كمية الغذاء، لأن أعداد الأفواه قد ارتفعت بصورة كبيرة.
ومع هذا يبقى ارتفاع كمية الغذاء هو التقدم الأساسي في ثروة البشرية خلال القرن السابق لعام 1914، وإن الإحصائيات المتوفرة لقياس هذه التغيرات هي أفضل منها في أي زمن قبله، لقد ازداد الإنتاج الزراعي زيادة هائلاً وغير مسبوق، وحصل القسم الأكبر من هذه الزيادة في الأراضي المزروعة حديثاً، مثل الأرجنتين وكندا والولايات المتحدة، حيث كانت الكميات المنتجة المحلية بقدر هائل وتزرع من أجل التصدير.
ولكن المردود أيضاً قد ارتفع، وتقول إحدى الدراسات أن إنتاج 100 بوشل* من القمح في الولايات المتحدة في عام 1800 كان يستغرق 373 ساعة عمل، أما بعد مائة عام فكانت 108 ساعة كافية لذلك، وتشير حسابات أخرى إلى أن إنتاجية الأراضي ارتفعت بين عامي 1840و1900 بمقدار 190% في ألمانيا، و90% في سويسرا، و50% في إيطاليا، وهذه كلها أمثلة من أوروبا.
إن المصدر الأساسي لغذاء البشر كان دوماً الحبوب، التي تزرع منها أنواع مختلفة باختلاف المناطق، وإنتاج الحبوب وسيلة أساسية لتأمين الغذاء ، وقد تضاعف إنتاج الحبوب في ألمانيا مثلاً بين عامي 1851 و 1913 بمقدار ثلاثة أمثال تقريباً بينما ارتفع في هنغاريا بمقدار خمسة أمثال.
لقد كان هذا ازدياداً هائلاً في كمية الحريرات الغذائية، وساهم فيه تحسن إنتاج اللحم أيضاً، قفد ارتفعت أعداد البقر بصورة مطردة خلال القرن التاسع من اجل تأمين حاجات الاستهلاك المتزايدة، ومثلها أعداد الغنم والخنازير، ولكن النمو الأسرع في تربية الحيوانات حدث في الأمريكتين وفي أستراليا ونيوزيلندا. كان اللحم منذ قرون طعاماً غالي الثمن، ولكنه أصبح أكثر شيوعاً بكثير في القرن التاسع عشر سواء عند القصاب أو بأشكاله المعلبة والمعالجة بالطرق المختلفة.
وانتشرت أيضاً أغذية جديدة في البلاد، كما أصبحت بعض الأطعمة الغالية أطعمة عادية شائعة منذ القرن الثامن عشر، كان الأغنياء في أوروبا يستخدمون السكر للتحلية بدلاً من العسل، ولكنه كان في ذلك الوقت بضاعة تأتي من المستوطنات وغالي الثمن نسبياً. وفي القرن التاسع عشر ارتفعت كميات السكر المستوردة من أوروبا ارتفاعاً كبيراً وبدأت تصنع فيها كميات هائلة منه من الشمندر السكري أيضاً.
وقد أدى هذا إلى ارتفاع هائل في استهلاكه، فانخفضت أسعاره انخفاضاً كبيراً وصار غذاءً يومياً عادياً، وكان هذا تغيراً هاماً في طعام الأوروبيين، وقد شاع أيضاً استهلاك الشاي والقهوة، عدا عن الفواكه الأجنبية غير المألوفة التي صارت تتوافر بكميات أكبر بفضل التطورات التقنية.
التغير الزراعي
إن هذا التحسن في كمية الغذاء ونوعيته أيضاً، لم يكن له سبب واحد بسيط، بل كان نتيجة لعمليات عديدة، من هذه العمليات تحسن الزراعة، الذي تعود جذوره إلى ماقبل عام 1800 ولافائدة من محاولة تحديد زمان دقيق له، بل يمكننا أن نقول أن الثورة الزراعية قد بدأت في إنكلترا في حوالي 1690-1700، وفي الولايات المتحدة بعد حوالي تسعين سنة أخرى، وفي ألمانيا بعد سنوات قليلة، بينما لم تبدأ في روسيا إلا بعد عام 1860 وقد انتشرت هذه الثورة شرقاً عبر أوروبا خلال القرن التاسع عشر بينما كان أصحاب الأراضي الأوروبيون قبل قرن واحد من ذلك يأتون إلى إنكلترا بحثاً عن المعلومات المفيدة ومن أجل شراء الحيوانات والآلات وطلب النصيحة، وعندما يعودون إلى أراضيهم كانوا يحاولون تطبيق مارأوه ولكنهم قد لايحرزون دوماً نجاحاً فورياً في ذلك.
ففي منتصف القرن التاسع عشر لم تكن ألمانيا وفرنسا مثلاً قد تبدلتا كثيراً عما كانتا عليه قبل قرون عديدة، ولو أن إنتاجية بعض المزارع الجيدة قد بدأت ترتفع حتى قبل عام 1800 ونرى من هذا أنه يفضل ألا نجزم بصورة عامة فيما يتعلق بالتواريخ، وأن ندرك أن هذا التغير الكبير قد تم بصورة متفرقة وغير منتظمة، ولو أنه كان في النهاية تغيراً كاسحاً.
إلا أن بعض عوامل هذا التغير كانت واضحة لأنها حدثت بسرعة، من هذه العوامل إلغاء النظام الإقطاعي الذي تم في فرنسا في عام 1789، ويعرف هذا النظام أيضاً بأنه مجموعة من العادات والحقوق التقليدية التي كانت تعيق استغلال الأرض بصورة حرة.
وقد انتشرت تغيرات مشابهة لهذا خلال نصف القرن التالي في بقية قارة أوروبا إلى الغرب من روسيا، وعندما قررت الحكومة الروسية أخيراً إلغاء عبودية الأرض في عام 1861 انتهت حقبة تاريخ أوروبا الزراعي الذي ابتدأ بظهور العزبة في العصور الوسطى.
ومنذ ذلك الحين صار العاملون بالزراعة في كافة أنحاء أوروبا يعملون مقابل أجر أو في أرض هي ملك لهم، فصار حافز المصلحة الشخصية يلعب دوره بالكامل في تحسين الزراعة، وقد شجع هذا على الاستثمار وتبني الأساليب الجديدة وضم بقع الأراضي الصغيرة التقليدية ضمن وحدات أكبر وأكثر فعالية.
من الأسباب الأخرى لهذا الارتفاع الفوري في إنتاج الغذاء في هذا العالم تطور التقنية، الذي مكن من استثمار أراض جديدة خارج أوروبا، لقد ازدادت مساحة الأراضي القابلة للزراعة في العالم بصورة سريعة وحادة، فأصبح بالإمكان استغلال سهول أمريكا الشمالية والجنوبية والمناطق المعتدلة من استراليا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بصورة لاسابق لها.
وكان الفلاحون يأتون إليها لأن الاستيطان وكسب المعيشة أصبحا ممكنين بفضل الثورة الجارية في مجال النقل، فمع بدء استعمال القطار البخاري والسفن البخارية منذ ستينيات القرن التاسع عشر انخفضت تكاليف السفر أيضاً، وأصبح الغذاء الآتي من هذه المناطق أرخص. ومع تزايد الطلب عليه ازداد عدد الناس الذين يحاولون استغلال الأراضي العذارى.
وحصل نفس الشيء بصورة أقل حدة في أوروبا الشرقية، فمع بناء السكك الحديدية في روسيا وبولندا التي تحمل الحبوب إلى مدن أوروبا الوسطى، ومع بدء مرافئ البحر الأسود بتصدير المزيد من حبوب روسيا في السفن البخارية، كانت التأثيرات على مناطق زراعة الحبوب تأثيرات حادة. أما في الأراضي البعيدة فكانت التأثيرات أشد من هذا، لأن تطور عمليات معالجة الغذاء مثل التعليب واختراع السفينة المبردة قد جعل تربية الحيوانات أوفر ربحاً من أي وقت مضى.
وكانت هذه التغيرات وبالاً على بعض المزارعين الأوروبيين لأنهم باتوا عاجزين عن منافسة الأسعار الرخيصة للمستوردات، وكان هذا الأمر ظاهراً في كافة أنحاء القارة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، فقد انخفضت مساحة الأراضي المزروعة في بعض البلاد انخفاضاً حاداً ، بينما تحول المزارعون في بلاد غيرها إلى الزراعة التخصصية.
ومرت صناعة الحليب ومشتقاته بتغيرات هائلة خاصة في الدنمرك التي طورت أيضاً تربية الخنازير واستغلاله بصورة كبيرة جداً، وصار الفلاحون يلجأون إلى زراعة الخضار والفواكه من أجل الهرب من كارثة زراعة الحبوب. وقد اقتضى عبور سنوات الكساد في أواخر القرن التاسع عشر مجهوداً رهيباً للتأقلم في كافة أنحاء أوروبا الغربية، وبدأت أعداد الأشخاص المعتمدين على الزراعة في معيشتهم بالتقلص.
التغير البيئي
لقد كانت للثورة الزراعية نتائج بيولوجية تجاوزت كثيراً نطاق حياة البشر، كانت النباتات تنقل من بلد إلى آخر لكي تتأقلم مع ظروف جديدة في بقاع أخرى من العالم، وعاد الإنسان ليتدخل في عملية الاصطفاء الطبيعي، ولم يكن هذا بالأمر الجديد، فقد سبق له أن أدخل الحرير إلى أوروبا والبطاطا الحلوة إلى أفريقيا، ولكن هذه التغيرات صارت تتم الآن على مستوى أوسع بكثير بسبب ازدياد عدد السكان والتقنيات الصناعية الجديدة.
فقد ظهرت مزارع المطاط في ملقا بجنوب شرقي آسيا في السنوات الأولى من القرن العشرين، بعد أن جلبت أشجاره من أمريكا الجنوبية، وبدأ الشاي يزرع على نطاق واسع في سيلان وشرق أفريقيا، ونقلت الكرمة من أوروبا إلى كاليفورنيا وأمريكا الجنوبية.
كما أن الحيوانات كانت تهاجر أيضاً فقد جلب الإسبان الحصان إلى العالم الجديد منذ زمن بعيد، وازدادت في القرن التاسع عشر العناية بالاستيلاد الانتقائي للأبقار المناسبة للمناخات غير المعتدلة، فساهم هذا الأمر في تزويد الأمريكتين وجنوب أفريقيا بقطعانها الهائلة، بينما ازدهر خروف المرينوس في أستراليا.
ولكن نتائج عمليات النقل هذا لم تكن إيجابية، فقد أحضرت إلى أستراليا في خمسينيات القرن التاسع عشر أربعة أزواج من الأرانب مالبثت أن تكاثرت مثل وباء خلال سنوات قليلة، كما عانت الحيوانات الأصلية من اعتداءات الذين استغلوها للحصول على اللحم وغيره من منتجاتها. وكان الناس بطيئين في وعيهم لتأثير قتل الحيوانات الواسع وخطره على البيئة، ونتجت عن ذلك بعض النتائج المريعة، مثل انقراض ثور البيسون الأمريكي على أيدي الصيادين من أجل إطعام عمال بناء السكك الحديدية مثلاً، كما لحقت بحيواني الفقمة والحوت في قارة أنتاركتيكا والمحيطات الجنوبية أضرار جسيمة في بداية القرن التاسع عشر.
كانت الزراعة إذاً أهم نواحي الثورة الكبيرة الجارية في مجال استغلال الموارد الطبيعية، ولكنها لم تكن الناحية الوحيدة، لقد ظل أكثر البشر في بداية القرن العشرين يحصلون معيشتهم من الأرض مباشرة، ولكن الأعداد القليلة منهم التي كانت تعيش في دول العالم الأوروبي كانت تنتقل إلى حياة اقتصادية جديدة مبنية على الإنتاج الصناعي، وربما كان هذا التغير أهم تغير في تاريخ البشرية منذ اختراع الزراعة، أو حتى منذ اكتشاف النار ولم يكن بإمكان هذا التغير الصناعي أن يحدث إلا بتوافر كميات كبيرة من الغذاء.
كانت الزراعة حينذاك مختلفة جداً عن الزراعة القديمة الهزيلة التي كانت أشبه بعائق أمام تطور البشر، أما الآن فلم تعد الزراعة عائقاً، بل إنها صارت واحداً من عوامل دفع التطور نحو الأمام.
* البوشل = 8 غالونات