كان الأشخاص المحافظون في أوروبا وأمريكا الشمالية في القرن التاسع عشر ينظرون عادة نظرة متشائمة للمستقبل، أما آراء الأشخاص المشبعين بأفكار التنوير فكانت ميالة إلى قدر كبير من التفاؤل، ولم يبدأ الناس باستخدام كلمة تفاؤل في اللغة الإنكليزية Optimism إلا في القرن الثامن عشر.
ويبدو أن أكثر الأوروبيين والأمريكيين المثقفين كانوا في عام 1900 يرون أن حضارتهم تسير منذ ثلاثة قرون على طريق التقدم والتنوير المتزايدين، وكانوا يعتبرون حركة النهضة والإصلاح الديني أول خطوتين كبيرتين في كسر قيود الماضي.
ومنذ ذلك الحين صاروا يرون التاريخ يسير باتجاه واحد، هو اتجاه السيطرة المتزايدة على الطبيعة عن طريق العلم، ونشوء المؤسسات السياسية التي أخذت السلطة من الملوك والنبلاء وأعطتها لمواطنين مسؤولين وعقلاء من أجل التحكم بحياتهم، وانتشار التعليم، والتحسن الواضح في حياة الملايين من الناس وفي صحتهم، وغيرها من التغيرات الكثيرة، هذه كلها أقنعتهم ولو بصورة غير واضحة أن ثقافتهم تشير إلى مستقبل أفضل للبشرية كلها، بل إنهم كانوا يظنون أن الأمور سوف تستمر على هذا المنوال.
ففي عالم السياسة مثلاً كانوا يرون حدوث نمو في الحكم الذاتي وكانوا يعتبرون هذا أمراً حسناً، وكانوا يرون هذه التطورات جارية على طرفي المحيط الأطلسي، إذ راحت الشعوب تخلع عن أنفسها نير الحكم الأجنبي الواحد تلو الآخر.
فقد تخلص الأمريكيون في ثورة عام 1776 من حكم البريطانيين، وسار الإيطاليون والألمان خطوات كبيرة في منتصف القرن التاسع عشر نحو توحيد أنفسهم، كما كانت أمم البلقان تقوض حكم الأتراك الغاشم وتستبدل به حكمها الذاتي عند منقلب القرن.
وكان بعض الناس يعتقدون أيضاً أن الصراع من أجل حرية الرأي الشخصي الذي ابتدأ بالإصلاح البروتستانتي فقد مهد الطريق للشك بالأفكار الخرافية عامة، وإلى انتصار العلم وطرح العقائد القديمة البالية، ولو أن الكاثوليك كانوا معارضين لهذا الرأي.
لهذا يحق لنا أن نصف المناخ العام في القرن التاسع عشر بأنه كان مناخاً من الآراء وهو تعبير مستعار من المفكر الإنكليزي جيريمي بنتم الذي عاش في القرن الثامن عشر، وهذه طريقة سهلة لوصف الاتجاه العام للأفكار والبيئة التي تطورت فيها من دون الخوض في تفاصيل نظرياتها ومبادئها واكتشافاتها. وهي تلفت انتباهنا إلى أمر كان يعتبر بديهياً في القرن التاسع عشر، أي مناخ التفاؤل المتنامي والترحيب الدائم بالتجديد.
إلا أن بعض الناس كانوا يدركون أن التاريخ لايدل دوماً على نهايات سعيدة، وأن الأمور قد تتطور باتجاهات أخرى، ونحن نعلم اليوم أنهم كانوا على حق في حذرهم هذا عندما نمعن النظر في الماضي، كما يتوجب على المؤرخ أن يفعل.
فالقومية مثلاً التي هللت لها الجماهير كانت لها نواح أخرى، إذ لم تكن القضية تقتصر على وجود كيانات مهيمنة لاتريد التخلي عن سلطتها، بل إن الدول القومية الجديدة كانت تتنافس هي الأخرى فيما بينها تنافساً حاداً ومع خصومها القدامى، وقد يكون هذا التنافس خطر على السلام.
ثم أنه كلما حققت إحدى القوميات أحلامها ظهرت قوميات غيرها، لقد نال الهنغاريون مآربهم من الهابسبرغ في عام 1867 عندما حولت الملكية القديمة نفسها إلى ملكية مزدوجة، ولكن سرعان ماراح رعاياهم من السلاف والرومانيين يتهمونهم هم أيضاً بالقمع والاستبداد.
وإذا من حق الأمم الخاضعة لقيصر روسيا أن تتحرر من نيره، فهل يجب أيضاً دعم جهود الأيرلنديين الكاثوليك في التحرر من الحكم البريطاني مع أنه حكم دستوري وبرلماني؟ وإذا كنت تؤمن بالقومية الأيرلندية، فهل تؤيد الأيرلنديين الكاثوليك أم هل تؤيد البروتستانت فيها؟
هذا عدا عن أن غيوم القومية كانت قد بدأت بالتجمع خارج أوروبا أيضاً، فماذا يجب أن يكون موقف الليبراليين الأوروبيين من المطالب القومية للآسيويين والأفارقة الذين قد يستخدمون استقلالهم لمساندة التقاليد الاجتماعية القديمة والمتخلفة؟
ألا يعتمد رفاه الأمم الأوروبية في النهاية على إمبراطورياتها الاستعمارية إلى حد ما؟ وربما كانت هذه الناحية بالذات من التقدم والليبرالية بحاجة لقدر أكبر من التمحيص قبل أن يجزم المرء بأنها تشير إلى مستقبل أفضل وأسعد للبشرية.
لقد كان بعض الناس يفكرون بهذه الطريقة، وسوف تفرض هذه الأسئلة نفسها بصورة مرعبة في القرن العشرين.