لقد تبدلت خريطة أوروبا الشرقية بين عامي 1600-1800 بصورة كبيرة، وتم بعض هذا التبدل على حساب العثمانيين، وقد كانت إحدى الملكيات الثلاث المستفيدة من هذا قوى عظمى قبل أن تبدأ هذه التبدلات، ألا وهي ملكية هابسبرغ، أما الملكيتان الأخريان، أي روسيا وبروسيا، فلم تبزغا كقوتين عظميين إلا خلال هذين القرنين.
وكان تبدل روسيا هو التبدل الأبرز، إذ أنها وسعت أراضيها بصورة واسعة جداً نحو الغرب والجنوب، وأصبحت قوة عسكرية عظمى ذات أهمية كبيرة في حسابات أوروبا الدبلوماسية، وطورت قوة صناعية بارزة بالنسبة إلى تلك الأيام، كما انقطعت انقطاعاً كاملاً. وكان هذا كله بالأساس نتيجة للأعمال السياسية، وكان الملكية هي مصدره ومحركه.
وهكذا وضعت الملكية نمطاً مازال مستمراً حتى اليوم، هو تحديث روسيا ابتداء من الحكومة نحو الأسفل، أو من المركز نحو المحيط، فكان التحديث يفرض فرضاً بدلاً من أن ينمو بصورة عفوية.
وكان أو من طبع روسيا بطابع التحديث هو بطرس الأكبر، الذي ارتقى العرش في عام 1682 وله من العمر عشر سنوات، ثم راح يستخدم السلطة التقليدية للأوتوقراطية القيصرية بقسوة لكي يجر الروس إلى الحداثة جراً، وكانت الحداثة تعني عنده ثقافة أوروبا الغربية.
كان هدفه الأول هو تقوية روسيا في منافستها الدولية، وبالأخص ضمان ساحلها على بحر البلطيق، صحيح أنه كان مهتماً أيضاً بالتوسع في آسيا الوسطى وسيبيريا، إلا أن حربه الكبرى مع السويد كانت هي قلب سياسته الخارجية، وقد انتهت في عام 1721 بأن ترسخت سلطة روسيا في ليفونيا وإستونيا وبرزخ كاريليا، كما كانت عاصمتها الجديدة على بحر البلطيق في طور البناء. وكان انتقال الحكم من موسكوفيا القديمة المنعزلة إلى حوار الغرب ذا قيمة كبيرة كرمز لطموحات بطرس وتطلعاته.
لقد وجه بطرس طموحاته نحو الجنوب أيضاً، فقد ضم آزوف ذات مرة وكان له أسطول على البحر الأسود. إلا أنه لم يتمكن من الحفاظ على اندفاعه نحو الإمبراطورية العثمانية، بل ترك هذا الأمر لخلفائه، والحقيقة أنهم كانوا في عام 1800 يسيطرون على الساحل الشمالي للبحر الأسود من نهر الدنيستر حتى نهر كوبان.
أما عملية التصنيع التي شجعها فكانت مبنية على استخراج المعادن وتصنيع الخشب، وقد جعلت ميزان التجارة يميل لصالح روسيا، كما جعلت إنتاجها من الحديد الخام أكبر من إنتاج أي بلد آخر في العالم. ولكن هذه الإنجازات تمت من ناحية أخرى عن طريق استخدام مجهود عبيد الأرض وعن طريق تحالف الملكية مع النبلاء بحيث صارت روسيا مقيدة شيئاً فشيئاً بنظام اجتماعي وسياسي أعاقها عن إحراز المزيد من التقدم.
كان أبرز خلفاء بطرس هي كاترينا الكبيرة، ورغم أن البلاط على عهدها قد تمتع ببهاء عظيم فإن حركة التجديد قد ذوت، ورغم قوة روسيا الكبيرة في عصر كانت الأعداد فيه هامة جداً من الناحية العسكرية، فإن الأوتوقراطية وعبودية الأرض ظلت عقبات واضحة أمام التحديث الحقيقي، وقد ظهر منتقدوها الأوائل قبل وفاة كاترينا في عام 1796.
أوروبا الشرقية بالألوان
بروسيا والنمسا
كانت كاترينا الكبيرة موضع إعجاب واسع كحاكمة أوتوقراطية مستنيرة بالنظر إلى رعايتها للأدباء والفلاسفة الغربيين الذين كانوا يعتبرون حاملي ألوية الأفكار التقدمية بل حتى الثورية. وقد قيل الشيء نفسه عن بعض الحكام في دول أخرى، ومنها القوتان الجديدتان في أوروبا الشرقية، أي بروسيا والنمسا، ولكن يبدو في الحالتين أن سياسة الملكية في التغيير كانت بدافع الحاجة لتقوية البلاد من أجل المنافسة الدولية ولم تكن حباً بالأفكار التقدمية.
لقد أصبحت بروسيا مملكة في عام 1701، وكانت حينذاك عبارة عن أرض مشتتة تابعة لأمراء براندنبرغ السابقين، الذين كانوا ينتخبون رأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكانت قصتها في القرن الثامن عشر عبارة عن تمتين هذه الأراضي وتوسيعها بالأساليب الدبلوماسية وبالفتوحات العسكرية، وكانت تؤمن الموارد اللازمة لذلك عن طريق حكم رعاياها واستغلالهم بصورة شديدة على يد طبقة إدارية اشتهرت بفعاليتها العجيبة.
وقد تظاهرت هذه الصفات خصوصاً على عهد فريدريك الكبير، الذي شدد كثيراً على مصالح بروسيا في ألمانيا ضد مصالح النمسا، ثم ابتدأ صراعاً بين سلالته أي الهوهنزولرن وبين سلالة الهابسبرغ كثيراً ما كان صراعاً دامياً، وحسم أخيراً في عام 1866 عندما اعترف الهابسبرغ بهيمنة بروسيا على بقية الدول الألمانية.
إن هذا الصراع مع بروسيا قد حرك في القرن الثامن عشر الجهود الساعية لإصلاح أراضي الهابسبرغ المتداعية والمنتشرة في غير انتظام من أجل تمكينها من مواجهة المنافسة الدولية. وكانت تلك الجهود كافية لتأمين مكاسب كبيرة على حساب الإمبراطورية العثمانية، فقد وصلت حدود الهابسبرغ الجنوبية في عام 1795 حتى نهر سافا، ولكنها بقيت عاجزة عن مواجهة خطر بروسيا، وقدمت لها تنازلات كبيرة من الأراضي في سيليزيا* إلا أن طموحات الهابسبرغ قد أبلت بلاءً حسناً في اتجاه آخر
بروسيا
بولندا
في عام 1795 زالت من خريطة أوروبا دولة بولندا، التي كانت ذات يوم دولة كبرى، لقد ظلت بولندا قوة عسكرية كبيرة حتى القرن السابع عشر، وكانت تحارب الإمبراطورية العثمانية بصورة فعالة حاسمة. إلا أنها أصيبت في القرن الثامن عشر بمشاكل في دستورها وفي أمور الخلافة أضعفت تماسكها إضعافاً شديداً وأعطت الفرصة لتدخل الأجانب في شؤونها وتآمرهم عليها.
وكان هذا من فعل القوى الكبرى الثلاث المتنافسة على الأراضي وعلى الهيمنة في أوروبا الشرقية، أي روسيا وبروسيا ونمسا الهابسبرغ. وقد جرت محاولات لإصلاح الدولة ولكنه لم تأت بنتائج.
وفي عام 1772 حدث توتر خطير بين روسيا والنمسا بسبب نجاح الروس ضد الأتراك، وقد حل التوتر باتفاقية تم فيها تقسيم بولندا للمرة الأولى، فاستولى جيرانها الثلاث على ثلث أراضيها ونصف عدد سكانها، ثم جرت معاهدة ثانية في عام 1793، وكان التقسيم الأخير في عام 1795.
كانت هذه العملية الوحشية ذات نتائج هامة جداً، فقد أصبحت هذه القوى العظمى الثلاث الآن وجهاً لوجه، ولم يعد بالإمكان التعويض لأي منها على حساب طرف رابع، ماعدا تنافس روسيا والنمسا على البلقان التي كانت للعثمانيين. ومن ناحية ثانية صار في تجمع هذه القوى الثلاث فيما بينها مصلحة واحدة، إذ صار في كل منها عدد كبير من البولنديين ذو المشاعر القومية الحادة والتي لابد من ضبطها والسيطرة عليها.
* منطقة في جنوب غربي بولندا