بعد زمن طويل من سقوط القسطنطينية في عام 1453 كان الملايين من الأوروبيين يعيشون تحت حكم الإسلام، وملايين أكثر يعيشون في خطره والمفارقة أنه بينما كانت عملية استعادة إسبانيا قد اكتملت كان الإسلام يعاود تقدمه في الشرق. ولكنه كان الوقت نفسه مقسماً فكانت فارس في بعض الأحيان في حالة حرب مع الأتراك والأباطرة المغول في الهند معاً، كما كانت الدول العربية تنازع الأتراك على السلطة في الغرب. إلا أن مخاوف الأوروبيين كانت مخاوف طبيعية، إذ أنهم كانوا يواجهون الإسلام في أشد أطرافه حدة ومضاء أي في تركيا العثمانية.
لقد انتزع العثمانيون من البندقية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الكثير مما بقي لها من ممتلكات، أي جزر إيونيا عند مدخل بحر الأدرياتيك في عام 1479، وجزر بحر إيجة في خمسينيات وستينيات القرن السادس عشر وقبرص في عام 1571.
كما أن ملكة إسبانيا وجدت نفسها مضطرة لقتالهم قتالاً شديداً من أجل أن تحافظ على اتصالاتها مع إيطاليا، بل إن الأتراك حازوا على مواطئ أقدام لهم في إيطاليا نفسها لزمن قصير، بينما كانوا ينتزعون من الإسبان ممتلكاتهم على ساحل شمال أفريقيا، أي قيرينا وطرابلس وتونس والجزائر، وكانوا أيضاً قد اكتسحوا أيضاً صربيا والبوسنة والهرسك في أوروبا نفسها.
وفي عام 1526 سحقوا الجيش الهنغاري في هزيمة مروعة في معركة حقل موهاكس مازالت ذكراها يوماً اسود في تاريخ هذه الأمة، وبعد ثلاث سنوات حاصروا فيينا للمرة الأولى ولكن بلا جدوى، ثم توقف تقدمهم ليعود فيتابع مسيرته، فاكتسحوا هنغاريا للمرة الثانية، وكانت هذه آخر مرة يطيحون فيها بمملكة مسيحية، وأخذوا بودوليا أي أوكرانيا السفلى من بولندا وكريت من البنادقة. وأخيراً حاصروا فيينا من جديد في عام 1683، فكان ذلك أقصى حد بلغته قوتهم.
ولم تبن الإمبراطورية العثمانية على حساب المسيحيين وحدهم، بل إن الأتراك قد بسطوا على غيرهم من المسلمين أيضاً في شمال أفريقيا، وبحلول عام 1520 كان جزء كبير من الحجاز وسوريا وبلاد الرافدين العليا وكردستان قد صار بيدهم. ثم أضاف إليها السلطان سليمان القانوني الذي لقبه الأوروبيون بالعظيم، فتوحاته في بلاد الرافدين السفلى وجزء كبير من جورجيا وأرمينيا، كما وسع امتداد أراضيه ضمن شبه الجزيرة العربية أيضاً.
وهكذا صارت الإمبراطورية العثمانية في عام 1683 ممتدة من مضيق جبل طارق حتى الخليج الفارسي وبحر قزوين، وسوف تضم فوق هذا المزيد من الأراضي حتى بعد هذا التاريخ.
ولكن هذا التيار قد انعكس الآن فحتى أواخر القرن السابع عشر لم يهدد الأتراك خطر كبير في أوروبا، إلا أن أوروبا الغربية قد سوت الآن نزاعاتها على الأراضي بصورة عامة في معاهدة أوترخت، كما ظهرت ملكيتان شرقيتان جديدتان وكبيرتان هما بروسيا وروسيا، اللتان قلبتا موازين القوى ضد الأتراك قلباً خطيراً، ولو أن سلالة الهابسبرغ ظلت مشغولة بمشاكلها في ألمانيا.
والحقيقة أن سلطة العثمانيين كانت قد بدأت بالانحسار أمام النمساويين والروس، حتى قبل عام 1700 فقد استردت منهم هنغاريا، وسوف تتلوها ضربات أقسى، خاصة في عام 1774 عندما انسحب الأتراك أمام الروس الذين سيطروا على التتار في شبه جزيرة القرم، وقد كان لهذا التنازل أهمية رمزية، إذ كانت هذه أول مرة يتنازل فيها الأتراك عن سلطتهم على شعب مسلم.
وبحلول عام 1800 كان الروس قد احتلوا جزءً كبيراً من الساحل الشمالي للبحر الأسود، وصارت حدودهم ممتدة على طول نهر الدنيستر، بينما كان النمساويون قد تقدموا إلى الدانوب، إلا أن انهيار الأخير لسلطة العثمانيين سوف يستغرق بعد زمناً طويلاً، وسوف يمتد حتى عام 1918 ومازالت مشكلة تقسيم أراضي الإمبراطورية السابقة في الشرق الأوسط بانتظار التسوية، ومازالت الحروب على اقتسام التركة العثمانية جارية حتى يومنا هذا.
تعود بعض أسباب تراجع الإمبراطورية العثمانية هذا إلى ضعفها الداخلي، فبالرغم من امتدادها الهائل على الخريطة كانت سلطة العثمانيين تتفاوت كثيراً من مكان إلى آخر، لقد كانت في حالة من النزاع المستمر على بلاد الرافدين مع فارس، ولم تتمكن قط من السيطرة الحقيقية على بدو بلاد الرافدين وسوريا.
ولم تكن فيها إدارة مركزية جديرة بهذا الاسم، بل كانت الإمبراطورية العثمانية في أكثر المناطق عبارة عن ترتيبات بين الباشا أي عامل السلطان وبين الوجهاء المحليين حول طريقة جبي الضرائب. وقد منح هذا الأمر الباشوات سلطة واسعة، وصار بعضهم مع مرور الزمن أشبه بأمراء يتناقلون السلطة بالوراثة.
ولهذا لم تكن الإمبراطورية قادرة قط على تعبئة مواردها، ولاكان بإمكانها الاعتماد على ولاء رعاياها من أجل التغلب على الانقسامات الكثيرة بين ولاياتها وشعوبها ودياناتها.
كانت الدولة العثمانية قد لملمت كيفما اتفق من أجل محاربة الكفار، وكان تنظيمها بالأساس تنظيماً عسكرياً، الغرض منه تأمين المجندين والضرائب لدفع مرتبات الجنود، وكان هذا الأمر يتم بواسطة ترتيبات شبيهة بالترتيبات الإقطاعية في أوروبا الغربية.
وكان الفساد يدب في هذه البنية في القرن السابع عشر، فكان عمال السلطان يضخمون سجلات الجنود لكي يحصلوا على مرتبات تفوق عدد الرجال الذين يمكنهم تقديمهم، وكانت ولاياتهم يسيئون استخدام سلطتهم في التجنيد وجبي الضرائب، ولم يكن هناك من إدارة مدنية لضبطهم.
أما السلطان فكان مركز المكائد والمؤامرات، وكان المحظيون ونساء الحريم والقادة العسكريون والدينيون يسعون جميعاً للتأثير عليه، وكان على الوزير الأكبر الذي يشغل المنصب الأساسي في الدولة أن يكافح المحاولات الدائمة لتقويض سلطته ومكانته.
كانت خيرة الأفواج العسكرية لدى الأتراك هي الإنكشارية، إلا أنها كانت بحلول عام 1700 قد فسدت فساداً مزرياً وصارت خطراً على السلطان أكثر مما هي دعم له، وكثيراً ماكانت تقوم بالعصيان والإضراب من أجل زيادة رواتبها.
وأخيراً كانت السلطة الحقيقية في كافة أنحاء المجتمع الإسلامي بيد الزعماء الدينيين، أي العلماء الذين تحدد مواقفهم تأييد الشعب للسلطة أو استياءه منها. وقد حصلت حوادث شغب كثيرة في القسطنطينية، منها ثورة عنيفة جداً نشبت في عام 1730 قيل أن البوسفور بقي من بعدها أياماً عديدة مغطى بالجثث العائمة على وجه الماء.
كان التحديث ضئيلاً جداً، ربما كان الإنجاز الوحيد هو ماجرى في البحرية في تسعينيات القرن السابع عشر من استخدام السفن الأوروبية بدلاً من سفن القادس القديمة ذات المجاديف، ولكن الحصول على البحارة المدربين كان أصعب من الحصول على العبيد المجدفين، فاضطر العثمانيون عندئذٍ إلى توظيف الأوروبيين في البحرية والجيش، وكان هذا من علامات انحلالهم في هذه المرحلة.
وكانت سلطة العثمانيين تتقوض ببطء على جبهة أخرى أيضاً فعند بداية القرن السادس عشر قامت سلالة جديدة بتثبيت أقدامها في فارس هي السلالة الصفوية، وكان الصفويون من طائفة الشيعة، وهي شكل من الإسلام يعود إلى القرن السابع ومازال مستمراً منذ ذلك الحين ومعارضاً للإسلام السني.
وقد كانت عقائد الشيعة دوماً أوسع انتشاراً في العراق وفارس منها في سوريا، وكانت لها تفرعات وملل كثيرة، ولكنها جميعاً ترفض سلطة الخلفاء الذين كانوا حكامهم، فعندما تأسست السلالة الصفوية في فارس كان من المحتم أن تتصارع مع جارها الخليفة العثماني، الذي يدعي رئاسة المسلمين السنة.
في عام 1514 تحاربت فارس مع العثمانيين، وكان العثمانيون طوال القرنين التاليين مضطرين إلى القتال على جبهتين، بينما كان الحكام الصفويون خاصة الشاه البارز عباس الكبير، يبنون إمبراطورية فارسية جديدة ذات حضارة رفيعة وثروة وافرة.
إلا أن الدولة الصفوية كانت قاسية وغير متسامحة، وهي أيضاً كانت مضطرة للقتال على جبهتين أحياناً أي ضد الأباطرة المغول في الهند فضلاً عن السلاطنة العثمانيين. وأحياناً كان دعاة التزمت الشيعي القديم يحرزون بعض النجاح في شكاواهم ضد الانحلال الأخلاقي، فقد ابتهج الزعماء الدينيون مثلاً على عهد شاه مغرم بالشراب عند نهاية القرن السابع عشر عندما حطمت في العلن 60.000 زجاجة خمر مأخوذة من أقبية القصر.
ولكن هذا التقشف وهذه الحمية لم يكونا بقادرين على منع تراجع الصفويين، ففي عام 1722 أطاح قائد أفغاني بآخر في فرد من سلالتهم، ثم مرت بعد ذلك بضع سنوات من الاضطراب تلاها في عام 1736 بروز رجل قوي جديد هو نادر شاه، الذي طرد الأفغان واسترد المقاطعات التي استولى عليها العثمانيون والروس، إلا أن هذه النهضة لم تكن في الحقيقة إلا نهضة عابرة.