بدأ الإنكليز خلال القرن الثامن عشر باستخدام كلمة تحسن أو تطور Improvement في الحديث عن نواح عديدة في المجتمع. وقد استخدمت هذه الكلمة في البداية للحديث عن الزراعة، ولكن سرعان ما صارت لها استخدامات أوسع بكثير، ومن أسباب ذلك أن الناس كانوا يرون علامات تشير إلى أن الحياة في بعض البلاد الأوروبية كانت تتحسن، وأيضاً لأن أفكار التنوير أوحت للناس بأن النواحي الأخرى من الحياة، مثل معاملة الفقراء ومعاقبة المجرمين، سوف تتحسن بدورها.
وكان هذا التحسن يرتكز على حقيقة أساسية كثيراً ما غابت عن أنظار الناس، هي أن ثروة المجتمع كانت تنمو بصورة مديدة ووئيدة، لقد كانت أوروبا في عام 1500 تعج بالتجار، ولكن تجارتهم كانت بالإجمال تجارة محلية، أما في عام 1800 فقد أصبحوا يديرون أشغالاً واسعة تمتد على نطاق العالم بأسره.
التجارة الدولية
كانت أولى المدن التجارية الكبرى في الغرب مدناً إيطالية، فالبندقية وجنوى احتكرتا التجارة في الشرق الأدنى، بينما امتدت تجارة مدن أخرى مثل بيزا وفلورنسا حتى صقلية والأسواق الزراعية الموسمية في شمال أوروبا منذ القرن الثاني عشر، وفي الشمال كانت مدن رابطة الهانزا الألمانية على بحر البلطيق تتاجر في القرون الوسطى مع روسيا واسكندنافيا.
ولكن في القرن السادس عشر تفوقت مدينة أنتورب في بلجيكا على المراكز الأولى من حيث ازدهارها، وكانت أنتورب مركزاً كبيراً للشحن والتصنيع يأتي إليها الصوف من إنكلترا والحبوب والأسماك والخشب من البلطيق لتنقلها إلى الأعداد المتزايدة من السكان في البلاد الواطئة وفلاندر وبيكارديا، وكانت هاتان المنطقتان الأخيرتان مركزين هامين لصناعة النسيج وبحاجة للصوف المستورد.
وعندما تراجعت أنتورب بدورها بسبب المنافسة الأجنبية وحكم إسبانيا حلت محلها أمستردام في الهيمنة على عالم التجارة والمال في القرن السابع عشر، إلى أن جاء أخيراً دور المركز التجاري بلندن بعد عام 1688.
لقد ربطت هذه المدن وغيرها خيوط شبكة تجارية ما برحت تزداد تعقيداً وكثافة، فقبل عام 1500 بزمن طويل كانت البندقية وجنوى ومدن كتلونيا قد ربطت أوروبا عن طريق تجارة البحر والقوافل بآسيا والمحيط الهندي والخليج الفارسي، وأكثرها كانت تمر أولاً عبر القسطنطينية وقد انهار بعض هذه التجارة بعد زوال الإمبراطورية البيزنطية، ولكن سرعان ما راح ساحل شمال أفريقيا يقدم منتجات وحاجات وأسواقاً جديدة.
إلا أن التوسع الأساسي في التجارة بقي لزمن طويل ضمن أوروبا، وبقيت الأسواق الموسمية التقليدية توجه التجارة في طرقها القديمة المألوفة، وكان النقل البحري أرخص من النقل البري، وإن أول من استغله استغلالاً حقيقياً هم الهولنديون، ولهذا الأمر أسباب عديدة، فبلدهم واقعة على البحر، كما أنهم كانوا مضطرين لكسب المال عن طريق التجارة لكي يعيشوا، وكانت لديهم أعداد كبيرة من البحارة الذين تدربوا على صيد السمك في بحر الشمال، وقد اخترعوا مركباً ممتازاً وسريعاً للشحن يتسع لحمولة كبيرة ويمكن لطاقم صغيرة أن يتحكم به.
لقد بلغ ازدهار الهولنديين التجاري ذروته في القرن السابع عشر، وكان مبنياً بالدرجة الأولى على جلب منتجات البلطيق إلى أوروبا الغربية، وعلى بيع سمك الرنكة المملح والمخلل، وهو سمك رائع من جنس السردين مازال واحداً من ألذ ما تنتجه البلاد الواطئة.
كانت التطورات الأولى في أداء الأعمال التجارية محصورة بالتبادل ضمن أوروبا، ومنها المصارف والبورصات، وابتكارات جديدة مثل كتاب الاعتماد والكمبيالة التي مكنت من دفع الأموال من مكان لآخر من دون حمل أكياس من الذهب والفضة.
وبرزت بعض الأسر من مقرضي الأموال الذي تحولوا فيما بعد إلى أول المصرفين الدوليين، لأن الملوك ناسبهم أن يستخدموهم لدفع مصاريف جيوشهم العاملة في الخارج، أو لنقل القروض المجموعة من بلد ما من أجل استخدامها في بلد آخر. إذ كانت الجيوش الإسبانية في القرن السادس عشر تعمل في مناطق واسعة من إيطاليا واللورين والأراضي الواطئة، وكانت بحاجة للمال من أجل دفع رواتب الجنود وتزويدهم بالإمدادات وتأمين حركتهم، فخلق هذا كله مجالاً واسعاً لعمل الممولين والتجار، وكان بحاجة لشبكات معقدة من الوكلاء والمكاتب.
في القرن السادس عشر صعدت إلى خشبة المسرح أمريكا الإسبانية، إذ اكتشف منجم هائل للفضة في بوتوسي بالبيرو، وأتت منه كميات غزيرة من هذا المعدن جعلت من أمريكا المصدر الأساسي للنقود في أوروبا حتى القرن التاسع عشر، وقد نشطت التجارة بسبب ازدياد كمية المال المتداولة.
ولكن حدثت في الوقت نفسه ظاهرة كان الناس قد نسوها منذ القرون الأخيرة للإمبراطورية الرومانية، هي ظاهرة التضخم، التي رأى الناس تفسيراً سهلاً فها في تلك الكميات الكبيرة من الفضة التي وفدت إليهم.
لقد ارتفعت الأسعار في أوروبا حوالي 400 بالمئة خلال القرن السادس عشر، ولكن العلماء حذرون في تعليل هذا الارتفاع، وإذا كان لايصدمنا بالقياس إلى بعض معدلات التضخم الحديثة فقد كان في ذلك الزمان أمراً مؤرقاً.
كانت أسعار الغذاء أكثر الأسعار تأثراً، ويبدو أن الأجور الحقيقية للإنسان العامل العادي قد هبطت، أي أن مستوى المعيشة قد انخفض، وكان لهذا التضخم تأثيرات أخرى هامة أيضاً منها تشجيع التجارة، وقد كان الجو التجاري في القرن السادس عشر جواً نشيطاً ولو أنه عرف أيضاً بعض الأزمنة العصيبة، وكان المستثمرون الحاذقون قادرين على جني مكاسب كبيرة.
تجارة الرق
إن من أكبر الأرباح التي تمت بين عامي 1500 و 1800 الأرباح الناتجة عن بيع الإنسان لأفراد جنسه إلى أناس آخرين، أي تجارة الرق أو النخاسة. لقد كانت العبودية أساس الحياة الاقتصادية في العالم القديم، ورغم أن استرقاق المسيحيين قد زال في أوروبا تقريباً خلال العصور الوسطى فإن العالم الإسلامي كان يرتكز عليه.
إلا أن الأوروبيين عادوا بعد عام 1500 إلى تجارة الرق على نطاق واسع ولكن بشعوب غير مسيحية، وقد بنوا تجارة هائلة عن طريق استغلال مصدر جديد هو الساحل الغربي لأفريقيا. كان البرتغاليون قد بدأوا هذه التجارة الأوروبية الجديدة هناك في القرن السابق، وبنوا حصوناً لاستخدامها كمراكز تجميع للعبيد الذين كان يلمهم الحكام المحليون، فبدأ العبيد يصلون إلى أوروبا بأعداد ضئيلة سوف تتحول فيما بعد إلى فيضان هائل.
ولم يخطط أحد لهذا الأمر، لقد وصل أول عبد أسود إلى أمريكا في عام 1502 عندما سمح لحاكم هاييتي الإسباني بأن يأخذ مع العبيد المولودين في إسبانيا، وبعد سنوات قليلة روعت معاملة الإسبان للهنود الكاهن الإسباني بارتولومه دو لاس كاسس ترويعاً شديداً، فاقترح أن يسمح لكل مستوطن إسباني باستيراد اثني عشر عبداً أسود، إذ كان عدد الإسبان قليلاً وغير كاف لأداء الأعمال واعتقد لاس كاسس أن الأفارقة أقدر على تحمل هذا المجهود الشاق من الهنود.
فسمح بالتالي لأحد محظيي ملك إسبانيا الذي أصبح فيما بعد الإمبراطور شارلكان بأن يستورد 4000 أفريقي في العام إلى جزر الكاريبي ثم بيع هذا الامتياز إلى التجار الجنوبيين، وهكذا أصبحت تجارة العبيد تجارة دولية نتيجة لمحاولة حماية هنود أمريكا.
لقد توسعت تجارة الرق توسعاً هائلاً عندما تبينت إمكانية زراعة قصب السكر في كثير من جزر الكاريبي، وإن أفضل طريقة لزراعته هي على نطاق واسع في مزارع كبيرة تحتاج قدراً هائلاً من المجهود البشري. ولما كانت اليد العاملة اللازمة لاستثمار العالم الجديد غير متوفرة في أوروبا فقد عوضت أفريقيا عن هذا النقص.
ومع ازدياد مكاسب تجارة العبيد هذه راح الآخرون ينضمون إلى البرتغاليين في جمع العبيد على ساحل أفريقيا، وسرعان مابدأ الاقتتال على هذه التجارة، فراح الملاحون الإنكليز البارعون في عهد الملكة إليزابيث يسعون لكسر هذا الاحتكار، أما الإسبان فلم تكن لهم قواعد خاصة بهم في غرب أفريقيا لذلك كانوا مضطرين للاعتماد على الموردين الأجانب.
وسرعان ماتجمعت في العديد من الجزر الكاريبي أعداد كبيرة من العبيد السود، كما استورد البرتغاليون العبيد إلى مستوطنتهم في البرازيل، أما الأراضي الإسبانية على البر الرئيسي فلم تستورد الكثير منهم، لقد باعت سفينة هولندية عبيداً سوداً للمرة الأولى لمستوطنين بريطانيين منذ عام 1619 في فيرجينيا، وهي منطقة يزرع فيه التبغ لذلك كانت تستفيد من عمل العبيد.
ثم بدأت مزارع القطن والأرز في كارولاينا الشمالية وكارولاينا الجنوبية باستخدام العبيد الأفارقة أيضاً، ومنذ ذلك الحين بنى أمريكيو البر الرئيسي للقارة الشمالية سوقاً للعبيد، وتجارة لتزويدها بهم أيضاً، ظلتا تنموان باطراد حتى أواخر القرن الثامن عشر، كان عدد المحطات التجارية العاملة في النخاسة على الساحل الغربي لأفريقيا حينذاك قد بلغ حوالي أربعين محطة، من هولندية وبريطانية وبرتغالية وفرنسية ودانمركية.
وكانت تلك تجارة هائلة، ولقد بلغ عدد السود المنقولين عبر المحيط الأطلسي 100.000 شخص، في بعض سنوات القرن الثامن عشر، وكانت أعداد الذين غادروا أفريقيا أكبر بكثير من الذين وصلوا إلى الأمريكتين، لأن الأمراض واليأس والوحشية قد تقتل نصف حمولة السفينة قبل أن تصل إلى العالم الجديد، ولو كان من المستحيل أن نعرف أعدادهم بدقة.
التجارة عبر المحيطات
كانت تجارة العبيد إذاً مأساة كئيبة تشمئز لها النفس، ولكنها لم تكن نمطاً واحداً من بين أنماط تجارية جديدة وكثيرة تمتد عبر المحيطات. لقد بني رويداً رويداً نظام تجاري دولي جديد لم يعرف العالم مثل اتساعه من قبل، وقد بلغ زخمه في عام 1700، فاستمر التوسع الإجمالي فيه بسرعة عجيبة، ولو أنه تعرض لنكسات قليلة في بعض الأماكن، وراحت التجارة مع العالم غير الأوروبي تلعب دوراً أكبر فأكبر في صنع ثروة أوروبا.
كانت التجارة عبر المحيط الأطلسي مع مستوطنات الأوروبيين وأراضيهم في أمريكا هي الجزء الأهم في هذه التجارة العالمية، وكانت السفن تنطلق من المرافئ الأوروبية عبر الأطلسي محملة ببضائع تبيعها لشراء العبيد على ساحل أفريقيا، ثم تأخذ السود من هناك إلى جزر الكاريبي، حيث تبيع من نجا منهم أثناء هذه الرحلة، ثم تحمل السكر أو القهوة وتشحنها عائدة إلى أوروبا أو إلى المستوطنات البريطانية في أمريكا الشمالية.
وكانت هذه المستوطنات تصدر بضائع أخرى، مثل شراب الرم وصبغة النيلة والأرز والذرة إلى أوروبا وإلى مستوطنات الكاريبي، وقد حاول الإسبان مثل الإنكليز والفرنسيين أن يستأثروا بتجارتهم مع مستوطناتهم لأنفسهم، ولكنهم لم ينجحوا في هذا، لأن تلك التجارة كانت تدر أرباحاً هائلة لابد من أن تجتذب إليها المهربين والمتطفلين.
كان المنتصرون الأخيرون في هذا الصراع على مكاسب التجارة العالمية هم البريطانيون، ومن أسباب ذلك أن الحكومة في لندن كانت أكثر إخلاصاً وعزماً على دعم مصالح التجار والبحارة الإنكليز والاسكتلنديين أيضاً بعد عام 1707، من ملوك فرنسا في دعم مصالح رعاياهم.
كان البلاط الفرنسي في فرساي دوماً أكثر اهتماماً بأوروبا منه بالبحار وماوراءها، وكان ملوك فرنسا حريصين على الغزو أو الاحتفاظ بأراضيهم في أوروبا، ولم يهتموا كثيراً بصيد السمك في نيوفوندلند أو بيع العبيد إلى جزر الهند الغربية، أو استيراد السكر والقهوة.
أما البريطانيون فكانوا أكثر وعياً لأهمية هذه الأعمال وأرباحها الوافرة، فكان هذا واحداً من العوامل التي جعلت البحرية الملكية تلعب هذا الدور الهام في السياسة العالمية خلال القرن الثامن عشر.
كانت السياسة والتجارة تزدادان تداخلاً بصورة مستمرة، فكانت القوة البحرية ضمانة للوصول إلى مناطق أخرى من العالم وتأسيس المستوطنات فيها، وكانت تستخدم أيضاً لفتح أسواق المستوطنات الإسبانية عنوة، وكان القراصنة قد اقتحموا تلك الأسواق بصورة غير شرعية منذ القرن السابق الذي كان أكبر عصور القرصنة، وكانت قوة البحرية أساسية أيضاً خاصة في زمن الحرب من أجل حماية تجار بلادها.
فكانت تستخدم لدعم الجهود الدبلوماسية عند التفاوض من أجل التوصل إلى شروط أفضل، كما في حالة الرسوم الجمركية التي تفرضها بلد ما على البضائع المستوردة مثلاً، وكان لهذه الأمور وزنها الكبير في بريطانيا أكثر من أي قوة أخرى، لأنها باتت بالتدريج أكثر الدول اعتماداً على التجارة الخارجية في كسب المال، خاصة عن طريق استيراد بضائع المستوطنات ثم بيعها في أوروبا أو في المستوطنات الأخرى.
ولم تكن التجارة مع آسيا هامة جداً من حيث الحجم، أو القيمة ضمن هذه الصورة العالمية، ولكن كان لها سحرها الخاص، كما أنها كانت تؤمن مكاسب كبيرة للعاملين بها، وقد أسس كل من الهولنديين والإنكليز شركة خاصة بهم للهند الشرقية في بداية القرن السابع عشر، وكانت هاتان الشركتان تتمتعان بحقوق احتكارية للمتاجرة في الشرق الأقصى، ثم حذا الفرنسيون حذوهم فيما بعد، وأصبحت هذه الشركات هي الوسائل الأساسية للتنافس على التجارة في آسيا، ولكن نقطة ضعفها كانت أن الآسيويين ليسوا بحاجة لمصنوعات الأوروبيين فيما عدا بعض الابتكارات الميكانيكية القليلة، لهذا لم يكن لها ميزان تجارة الدول الأوروبية لصالحها عادة في تعاملها مع الهند والصين وإندونيسيا، لأنهم لم يقدروا أن يبيعوهم بضائع أوروبية كافية لتسديد ثمن ما كانوا يشترونه منهم، فكانوا مضطرين لدفع هذا الثمن فضة.
ولقد كان هذا مثالاً آخراً على ترابط أطراف العالم فيما بينها من دون تخطيط مسبق، إذ كان الإسبان يجلبون الفضة من العالم الجديد إلى أوروبا حيث تستخدم لتسديد ديون الملكية الإسبانية للمصرفيين، الذين يدفعونها بدورهم للتجار لشراء البضائع من آسيا.
وبذلك كان تمويل التجارة في كانتون بالصين معتمداً على مناجم الفضة في البيرو، وليس هذا بالطبع إلا جزءً صغيراً من القصة، إلا أن الخطوط الأساسية لما كان يجري خلال هذه القرون الثلاثة واضحة، فقد كانت التجارة العالمية في نمو متواصل، وإن أول جزء منها نما بسرعة هو تجارة الأطلسي، التي مابرحت تزداد ارتباطاً بالسياسة وبالقوة البحرية وتخضع خصوصاً لهمينة الأوروبيين.
ولم ترس أي سفينة ينك صينية أو دهو عربية في أي مرفأ أوروبي، أو أمريكي طوال هذه القرون، مع أن آلاف السفن الأوروبية والأمريكية كانت تذهب إلى جزر ملوك في إندونيسيا وإلى الهند والخليج الفارسي والصين.
تنامي المعرفة
لقد ساعدت التجارة على امتداد الاكتشافات وتنامي المعرفة بجغرافية العالم، وفي عام 1700، كانت أشكال القارات كلها قد عرفت ورسمت لها الخرائط، ما عدا أطراف شرق أستراليا وشمال سيبيريا وأقصى شمال أمريكا ومنطقة مضيق بيرنغ. وكانت هناك خرائط للعالم على درجة عالية من الدقة ولوبقيت فيها مناطق شاسعة مجهولة في أفريقيا وأستراليا.
وكان تطور فن الملاحة يسمح بنقل المسافر إلى أي ساحل من سواحل العالم وأي مرفأ من مرافئه خلال ثلاثة أو أربع أشهر إذا هو قبل بأخطار الغرق والعواصف والقرصنة والأمراض. وكان هذا تطوراً كبيراً بالقياس إلى ماكانت عليه الأوضاع قبل حوالي مئتي سنة، كما أنه كان يسير بوتيرة متسارعة لأن المعرفة بالجغرافية والتقنية كانت ذات طبيعة تراكمية، أي أنها كلما خطت خطوة إلى الأمام كلما سهلت عليها الخطوة التالية، مع أن تقنية الإبحار لم تتغير تغيراً كبيراً.
إن الرحلات الكبرى التي رسمت خريطة العالم للمرة الأولى وأتت بالقصص والروايات عن الأراضي المكتشفة حديثاً كانت هي المفتاح لكل ما أتى بعدها.
في عام 1498 أبحر سباستيان كابوت من بريستول في رحلته الثانية ليرسو على ساحل أمريكا الشمال، وفي العام نفسه وصل فاسكو دي غاما إلى الهند، وفي العام التالي 1499 بدأ أمريغو فسبوتشي باستكشاف ساحل أمريكا الجنوبية حتى وصل أخيراً إلى جزر الفوكلاند جنوباً. وفي عام 1508 أبحر ملاح برتغالي ضمن الخليج الفارسي، وفي عام 1513 بدأ الأوروبيون يتطلعون للمرة الأولى نحو المحيط الهادي.
ثم ابتدأت في عام 1519 أعظم رحلات المستكشفين الأوائل عندما انطلق البحارة البرتغالي ماجلان من إشبيلية، ثم دار في العام التالي حول طرف أمريكا الجنوبية عبر المضيق الذي مازال يحمل اسمه ليلج بذلك مجاهل المحيط الهادئ الشاسعة، وقد قتل ماجلان في جزر لادرن في عام 1521، ولكن إحدى سفنه تابعت مسيرتها في جزر الفيليبين وتيمور وعبرت المحيط الهندي، ثم دارت حول أفريقيا لتعود إلى إشبيلية.
وهكذا كان قائدها الإسباني دل كانو أول قبطان يبحر حول العالم، وقد بينت رحلته هذه بصورة عملية أن جميع المحيطات مرتبطة فيما بينها فأثبت بذلك حقيقة كان الناس يعلمون أنها ممكنة نظرياً.
وبعد هذا راحت المعلومات تتراكم عن المحيط الهادي ومنطقته الواسعة، وفي بداية القرن السابع عشر كانت الكثير من جزره حتى جزر نيوهبريد جنوباً قد اكتشفت. وفي عام 1616 بدأ الهولنديون باستكشاف سواحل أستراليا، وفي عام 1642 أبحر منهم الملاح تسمان قرب الجزيرة التي سوف تحمل اسمه فيما بعد (تسمانيا) في طريقه إلى نيوزيلندا، فبين بذلك أن أستراليا ليست جزءً من قارة أنتاركتيكا.
وفي نهاية القرن التالي كانت رحلات بوغانفيل وكوك خصوصاً قد عرفت الناس بجنوب المحيط الهادي وجزر جنوب شرقي آسيا، وكانت العلامة على ذلك هي إلقاء أول شحنة من المحكومين في أستراليا في عام 1788، ووصول المبشرين الأوائل إلى تاهيتي في عام 1797.
أما المياه الشمالية فقد ظلت مجهولة لزمن طويل، في عام 1553 وصلت سفينة إنكليزية إلى الموقع الذي أصبح فيما بعد مرفأ أركانجل الروسي، وعادت حاملة رسالة من القيصر إلى ماري تيودر. ثم قام الإنكليز بسلسلة من الرحلات ابتدأ فروبيشر في عام 1567 باحثين بلا جدوى عن ممر شمالي غربي حول الأمريكتين إلى آسيا.
وفي عام 1594 انطلق البحار الهولندي العظيم بارنتس في الاتجاه المعاكس أي الاتجاه الشمالي الشرقي، مثلما فعل البحارة الإنكليز من قبله. وبينما كان في محاولته الثالثة لإيجاد طريق شرقي عبر القطب الشمالي بعد ثلاث سنوات مات بارنتس في أقاصي مجاهل نوفازمليا، والحقيقة أن أحداً لم يتمكن من العبور بالاتجاه الشمالي الغربي بالسفينة حتى عام 1905، بينما تمت أول رحلة شمالية شرقية كاملة إلى آسيا في عام 1879.