يعود هذا الارتفاع في عدد السكان إلى زيادة كمية الغذاء، ولكن هذه الزيادة ظلت لزمن طويل محصورة بقارة أوروبا ولم تكن واضحة للعيان، وكان طعام الناس متشابهاً بصورة عامة في كافة أنحاء العالم طوال هذه القرون الثلاثة، مثلما كان الأمر طوال تاريخ الحضارة. فكانوا يأكلون دوماً الخبز أو الحبوب المطبوخة، وهي تختلف من بلد لآخر، ومنه القمح والذرة والأرز والجاودار. إن زراعة الحبوب في مساحة معينة من الأرض تعطي مردوداً من الحريرات أفضل من تربية الحيوانات.
ففي العصور الوسطى كان أكل اللحم في بعض البلاد الأوروبية أكثر شيوعاً منه في المناطق الأخرى من العالم، ولكن أكثر الأوروبيين لم يكونوا يتذوقونه إلا نادراً، حتى في عام 1800م. وكانوا ينوعون طعامهم من الحبوب مثل سكان القارات الأخرى بإضافة الكستناء والفاصولياء وغيرها من الخضار، فضلاً عن البيض والسمك.
ولقد ظلت أوروبا تمر بأيام عصيبة حتى القرن الثامن عشر، وحدثت المجاعات في فرنسا في سبعينيات وثمانينيات هذا القرن. أما في الصين وروسيا والهند وبعض أجزاء أفريقيا فإن المجاعات مازالت تحدث حتى اليوم، ولو أنها لم تعد تستمر طويلاً كما في الماضي، إذ صار بالإمكان نقل الغذاء من أنحاء أخرى من العالم بصورة سريعة.
تطور الزراعة في أوروبا
ولكن بالرغم من أوجه الشبه هذه فإن أوروبا في عام 1800 كانت مختلفة اختلافاً جذرياً عن بقية أنحاء العالم، من ناحية أن كمية الغذاء التي تنتجها للفرد الواحد كانت أكبر بكثير منها قبل ثلاثمائة عام.
لو نظر المزارع الأوروبي اليوم إلى أفضل مزارع العصور الوسطى وأوفرها إنتاجاً لوجدها فقيرة بالقياس إلى ما اعتاد إليه، ولوجد مردودها زهيداً جداً بالقياس إلى كمية الجهد التي تبذل فيها، فلم تكن الغلة الناتجة من زراعة الحبوب تزيد عن خمسة أمثال وزنها الأصلي، وكان مردود الهكتار الواحد في عام 1500 ضئيلاً جداً بالقياس إلى مردوده اليوم.
أما أساليب الزراعة فلم تبتعد كثيراً عن أساليبها التقليدية، وباختصار كانت الزراعة في أوروبا العصور الوسطى شبيها بما هي الحال عليه اليوم في بعض أنحاء آسيا وأفريقيا، ولكن التغير كان قادماً وقد بلغ في عام 1800 وتيرة مطردة، وإن التطور الذي حصل في الزراعة في أوروبا خلال هذه القرون الثلاثة قد أحدث انقلاباً في تطور البشرية لامثيل له منذ اختراع الزراعة نفسها.
لطالما تمتعت أوروبا بميزات طبيعية هامة، فأمطارها وفيرة تمكنها من زراعة قسم كبير من أراضيها، والأسماك غزيرة في مياهها الساحلية وتؤمن لها الكثير من الغذاء سهل المنال، وتحت سطحها تكمن كميات كبيرة من الثروات المعدنية، منها أغنى حقول الحديد والفحم في العالم. وحتى قبل استثمار هذه الثروات كان فيها الكثير من الخشب للوقود والبناء.
ومع هذا كان أكثر الأوروبيين في عام 1500 يعيشون بعد على زراعة الكفاف، أي أنهم يزرعون مايكفي حاجاتهم فحسب، وقليل من كان يقدر على إنتاج فائض يبيعه لمن لايعيشون في الريف، وحتى في تلك الحالات القليلة تكون السوق عادة محلية، فرغم المتاجرة بالنبيذ والصوف والجلد وبعض الحبوب كان أكثر الغذاء ينتج في مكان قريب من مكان استهلاكه.
لقد حددت التضاريس الطبيعية الكبرى منذ قرون طويلة أنماط الزراعة في أوروبا، فإذا استثنينا شبه الجزيرة الاسكندينافية، يمكن تقسيم أوروبا تقسيماً بسيطاً إلى منطقتين، إحداهما عبارة عن سهل عريض وطويل، يقابله إلى الجنوب منه امتداد طويل أيضاً من المرتفعات التي تكثر فيها الجبال.
ويمتد هذا السهل الأوروبي الواسع من دون جبال أو مرتفعات عالية لمسافة تزيد عن 4000كم، وهو يبدأ بالسهول الشاسعة في روسيا، ثم يمتد نحو الغرب فيضيق قليلاً إلى الجنوب من بحر البلطيق وفي بولندا وغرب ألمانيا، ثم يعود ليتسع من جديد حول مرتفعات الأردين والمسيف الأوسط في فرنسا، ويستدق ثانية منتهياً عند جبال البيريه. وتشكل إنكلترا أيضاً قسما منه على الطرف الآخر من بحر الشمال، حيث يستدق عند سفوح جبال ويلز واسكتلندا.
إن هذا السهل الواسع هو أرض زراعة الحبوب في أوروبا في العصور الحديثة، ولطالما أمنت الحبوب للأوروبيين طعامهم وشرابهم، فالجعة تصنع من الشعير، والمشروبات التي تقطر من الحبوب مثل الويسكي والفودكا هي المشروبات الكحولية التقليدية في هذه المنطقة. وهي منطقة ذات حدود واضحة، ففي روسيا تحدها من الشمال الغابات الصنوبرية ثم البحر في الغرب، أما من الجنوب فتحدها جبال الكربات والألب والمسيف الأوسط والبيريه.
إلى الجنوب من هذه الجبال تكون الأرض عادة مرتفعة ماعدا بعض وديان الأنهار، وأهمها الدانوب والرون والبو والإبرو، وتزرع الحبوب أيضاً على نطاق واسع في بعض أجزاء هذه المنطقة، مثل وادي الدانوب وسهل قشتالة العالي، بينما تستخدم أراضيها المرتفعة عادة لتربية الحيوانات ورعيها. وهي تتميز بأنها أرض الكرمة، ومشروباتها الكحولية هي النبيذ وغيره مما يشتق من هذه النبتة. وأخيراً تقع أرض الزيتون والزيت حول سواحل المتوسط، وتضم قسماً كبيراً في إسبانيا.
ويمكننا أيضاً أن نقسم أوروبا إلى شطرين شرقي وغربي، باتخاذ نهر الألب في السهل الشمالي نقطة فاصلة بينهما، وبرسم خط من مصبه إلى رأس بحر الأدرياتيك، فالحقيقة أن التاريخ كثيراً ما سلك طرقاً مختلفة على طرفي هذا الخط. وهو ينطبق تقريباً على خط درجة الصفر المئوية، أي الخط الواصل بين المناطق التي تبلغ الحرارة فيها درجة الصفر في شهر كانون الثاني (يناير).
فالغرب تأتيه تيارات الهواء والماء التي تسمى تيار الخليج، لذلك يبقى أدفأ من الشرق، الذي تكتسحه جبهات الهواء البارد القادمة من القطب الشمالي ومن بر آسيا، إن بحر آزوف مثلاً يقع على نفس خط العرض الذي تقع عليه مدينة ليون الفرنسية، ولكنه كثيراً ما يتجمد في الشتاء بينما يتابع نهر الرون في مدينة ليون تدفقه. ولقد أدى هذا التباين بين الشطرين إلى اختلافات كبيرة في حياة الأوروبيين في كل منهما، وفي وسائل تحصيلهم لمعيشتهم.
من هذه الفروق اختلاف أنواع الحبوب التي كانت تزرع في كل شطر، ففي أوروبا الشرقية بقي نبات الجاودار شديد التحمل هو النوع المعتاد من الحبوب لاستهلاك الإنسان، بينما كان القمح والذرة التي أتت من أمريكا في القرن السادس عشر أكثر شيوعاً في الغرب.
ولكن هناك فرقاً هاماً آخر، هو أن أكثر الفلاحين إلى الغرب من نهر الألب كانوا في عام 1800 إما أحراراً يمتلكون قطعاً صغيرة من الأرض، أو مستأجرين يدفعون آجار الأرض نقداً أو عيناً، أما في الشرق فقد ظلوا عادة حتى في هذا التاريخ المتأخر عبيداً مرتبطين بأرض العزبة التي يعيشون فيها، وغير قادرين على مغادرتها إلا بإذن. وقد أصبح هذا الفرق أوضح بكثير بعد القرن السابع عشر، عندما ازداد ترسخ عبودية الأرض في الشرق بينما كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة في الغرب.
وكانت هناك أيضاً فروق محلية أكثر تحديداً بين المناطق المختلفة في شرق أوروبا وغربها، وسببها اختلاف الزراعة وتربية الحيوان باختلاف الظروف من تربة ومناخ وخبرة وأسواق محلية. وبالتدريج أدت هذه الأمور إلى التخصص، الذي كانت له آثار بعيدة المدى، فمنذ القرن السادس عشر مثلاً كانت الحبوب المزروعة في الأراضي الواقعة إلى الجنوب من بحر البلطيق تشحن إلى أوروبا الغربية، وقد أدى هذا إلى نمو صناعة الشحن ومكاسب جديدة لمدة رابطة الهانزا، وهي مدن ألمانية قديمة كانت تشكل سلسلة من الموانئ البحرية ، ومنذ القرن الخامس عشر كانت مقاطعة أنكليا الشرقية في إنكلترا متخصصة بزراعة الشعير وتربية الخراف، بينما كان وادي نهر التايمز ينتج القمح، وكانت المقاطعات الشمالية والغربية تربي البقر.
حتى أشكال الحيوانات وصفاتها كانت تختلف باختلاف المناطق، فقد كان خروف المرينوس، والذي انتشر فيما بعد في كافة أنحاء العالم، مناسباً للمراعي الجافة في إسبانيا، وكان يبدو أشبه بالماعز بالقياس إلى خراف إنكلترا، ولكنه كان يعطي في الحقيقة أفضل أنواع الصوف. أما الخراف التي تربى في مراعي إنكلترا الأكثر خضرة فكان صوفها أخشن ولكنها أغنى باللحم.
وكانت هذه الاختلافات سبب تباين مستويات الحياة بين بلد وآخر، وقد كان الأجانب يلاحظون أن الفلاحين والحرفيين الإنكليز في القرن السابع عشر يرتدون ملابس من الصوف، بينما ظل زملاءهم في القارة الأوروبية زمناً طويلاً يرتدون الملابس الخشنة المصنوعة من نبات الكتان.
يمكننا أن نسرد الكثير من أمثال هذه الفروق، وهي فروق هامة، ولكن هدفنا هو التأكيد على النقطة الأساسية المتمثلة بأن الزراعة في أوروبا كانت في عام 1500 قد بلغت درجة كبيرة من التنوع، ولو بدت لنا مختلفة بمعاييرنا الحديثة. وإن هذا التنوع ليدل في الوقت نفسه على البدايات الأولى لتحول كبير آت، هو ماكان يسمى بالثورة الزراعية، وكان هذا تحولاً ثورياً بحق، قد بدل أحوال العالم، ولو أنه حدث بصورة بطيئة ومتدرجة.
أما سبب حدوثه في أوروبا بالذات فمازال لغزاً كبيراً، وربما كان السبب الأساسي هو التراكم البطيء للثروة والموارد التي ظهرت في المدن خاصة، وهو تراكم كان جارياً منذ القرن الثاني عشر، ولكن الغريب أن شيئاً مثل هذا لم يحدث في الصين مثلاً، مع أن المدن فيها قد نمت نمواً كبيراً أيضاً، كما استخدم فيها المجهود البشري المكثف والضروري لزراعة الأرز، فضلاً عن الأسمدة الطبيعية، كانت الفضلات البشرية تسمى تربة الليل، وكانت تزال من المدن بموجب عقود معينة، فكانت ذات منفعة كبيرة في الصين وفي أوروبا العصور الوسطى.
أساليب جديدة
كان تحسن الزراعة ينطوي دوماً على درجة من التخصص، فلم يعد المزارع الواحد يحاول أن يزرع كل شيء، بل صار يركز على الأشياء التي يستطيع أداءها بأفضل صورة ويشتري حاجاته الأخرى من مصدر آخر.
وكان هذا دائماً مترافقاً بتحسن أساليب الزراعة، مثل المناوبة بين المحاصيل أي زرعها في حقول مختلفة من العام لآخر من أجل إراحة التربة وتحسينها بدلاً من استنفاذها، وزراعة المحاصيل الجديدة ومن أهمها البطاطا والذرة الآتية من أمريكا، ومعالجة التربة بطرق جديدة مثل الكلس، واستخدام أشكال جديدة من محاصيل مألوفة مثل أنواع الشعب الخاصة بالرعي، واللجوء إلى أساليب جديدة للعناية بالتربة مثل حفر الأقنية لتصريف المياه وبناء الأسيجة، وابتكار الآلات الجديدة ولو أن هذه كانت أبطأ من التطورات الأخرى، أو تبني أساليب بسيطة مثل تطويق أراضي كانت في السابق مشاعاً وجعلها ملكاً لرجل واحد وتخصيصها بالتالي لمصلحته، هذه الأشياء كلها أدت في النهاية إلى تأمين مردود أكبر من الأرض، وبالتالي إلى غذاء أوفر ولباس أرخص.
لقد ظهرت بعض هذه التغيرات أولاً في إيطاليا ومنطقة الفلاندر، منطقة واسعة تمتد بين فرنسا وبلجيكا الحاليتين، في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ثم بلغت أقصى مداها في البلاد الواطئة هولندا، ومنها انتشرت إلى إنكلترا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وكان من نتائجها الأولى تطويق الأراضي من أجل تربية الغنم، وضم شرائط الأرض المتفرقة التابعة لمالك واحد بعضها إلى بعض في حقول متراصة، وتصريف الأراضي خاصة في منطقة الفنز بشرق إنكلترا، واستصلاح أراضي جديدة في المستنقعات أو من البحر كما فعل الهولنديون.
وقد وضع هذا أسس تقدم تقني هائل في زراعة إنكلترا، التي أضحت في القرن الثامن عشر أفضل زراعة في العالم كله، فقد كثرت عندئذٍ الأنواع الجديدة من الحيوانات والمحاصيل، وظهرت أولى الابتكارات الهامة في الآلات منذ اختراع المحراث ذي العجلات، مثل المثقاب الميكانيكي وآلات تسوية التربة التي تجرها الأحصنة وآلات درس الحبوب، وكان الزوار يأتون من كافة أنحاء أوروبا لرؤية الزراعة في إنكلترا، وقد انتشرت أساليبها الجديدة إلى القارة، خاصة إلى ألمانيا والشرق.
كانت التربة في الشرق أفقر، لذلك كان تحسينها أمراً أشد أهمية، ومع هذا فقد تشبث أصحاب الأراضي تشبثاً شديداً بأحد التقاليد القديمة، كان أهم ما يحتاجونه لتحسين الإنتاجية في أوروبا الشرقية هو المجهود البشري، لهذا كنت تراهم يقاومون كل محاولة لإزالة النظام القديم القائم على العزبة. وكانت العبودية المرتبطة بالأرض قد زالت في إنكلترا بحلول عام 1500، وحل محلها العمل مقابل أجر، أما في ألمانيا وبولندا وروسيا فقد صارت العبودية أكثر شيوعاً خلال القرنين التاليين، وكان النبلاء في شرق بروسيا يستغلون جهد عبيدهم بأقصى طريقة ممكنة، ويوثقون ربطهم بالعزبة عن طريق القوانين من أجل ضمان استمرار هذا الاستغلال.
وفي عام 1800 لم يكن الفلاح الذي يعيش في مزرعة بشرق ألمانيا قادراً على مغادرتها أو على الزواج إلا بإذن، ولم يكن يستطيع العناية بحديقته الصغيرة إلا بعد أن ينهي عمله لدى سيده.ولم يكن يقتصر العمل على الحقل، بل قد يضطر أولاده ونساؤه للعمل في البيت خدمة للسيد أيضاً.
وأما في روسيا فكانت الأوضاع أقسى حتى من هذا، وسوف تزداد مع الوقت سوءً على سوء، ولم يكن تحسن الزراعة بالطبع السبب الوحيد لاختفاء عبودية الأرض في الغرب واستمرارها في الشرق، بل كان واحداً من أسباب عديدة.
لقد كان من المناسب لصاحب العزبة أن يضيق الخناق على عبيد الأرض لديه بمطالبه من أجل تحسين مردود مزرعته، وكانت النتيجة في بعض المناطق خاصة في بولندا، أن وضع الفلاحين قد انحدر إلى مرتبة قريبة من مرتبة العبودية المحض.
صحيح أن التطور يجر البؤس عادة على أفراد كثيرين، ولكن من الصعب أن ننكر أن التأثيرات العامة والبعيدة الأمد لهذا التطور كانت بالمحصلة تأثيرات جيدة. ورغم أننا مازلنا نجد الكثير من الجياع في أوروبا في عام 1800، فإن أعدادهم في بعض البلاد كان أقل بكثير منها قبل قرون ثلاثة.
وتشكل هذه التطورات منعطفاً تاريخياً هاماً، لأن الزراعة كانت عماد الاقتصاد ومحركه، فإذا استثنينا الثروات المعدنية ومنتجات الأسماك وجدنا أن أكثر المصنوعات والتجارة إنما كانت تعتمد على ما تنتجه الأرض من نبات وحيوان، مثل الجلد لصناعة الأحذية، والصوف لصناعة القماش، والعنب والشعير لصناعة الخمر والجعة.