راحت المدن في أوروبا تنمو نمواً حثيثاً بعد عام 1100، فكان هذا تطوراً هاماً وصورة من صور التسارع العام الذي طرأ على الحياة الاقتصادية فيها. وكان الملوك يحبون المدن في البداية لأنها تنشط التجارة، والتجارة يمكن فرض الضرائب عليها، وكثيراً ماكانوا يمنحونها براءات تضمن لها حقوقها ومزاياها الاقتصادية بالسيطرة على الأسواق مثلاً، وتجعل من الصعب على الأرستقراطية أن تتدخل في شؤونها.
لهذا كانت المدن عناصر خارجة عن النظام الإقطاعي المألوف، وكانت تتمتع بالحرية، وقد ظهرت فيها أشكال جديدة من التنظيم، وصنف جديد من الناس الذي لا يعتمدون في معيشتهم على الأرض رأساً بل على المهن الحرة والتجارة والصناعة.
وكانت المدينة تسمى borough وبالألمانية Burg وكان الفرنسيون يسمون سكانها*bourgeois أما زعماؤها فكانت تستمدهم من النقابات الخاصة بممارسي حرفة أو مهنة معينة.
وهكذا صارت المدن الأوروبية متميزة عن بقية المجتمع من نواح هامة، ولايبدو أن هذا قد حدث في مدن الحضارات الأخرى، وكانت تجتذب إليها الأشخاص الذين يكرهون العيش في الريف حيث كانت الكلمة الأخيرة دوماً بيد صاحب الأرض، ويقول المثل الألماني "إن هواء المدينة يجعل المرء حراً".
ولكن ليس هناك من صيغة عامة تصح على جميع أنحاء أوروبا في العصور الوسطى، لأنها كانت على درجة كبيرة من التنوع، ورغم أوجه الشبه فيما بينها، فإن الفروق بين مكان وآخر كانت كبيرة.
ورغم أن المجتمع قد بدأ يزداد تعقيداً في القرن الثاني عشر، ورغم ازدياد أعداد الناس الذين يحصلون معيشتهم من ممارسة مهن مثل المحاماة والتجارة والحياكة، فإن الاقتصاد بصورة عامة ظل في المحصلة معتمداً على الأرض، وظلت الزراعة تطغى على كل شيء آخر، فكانت المواد المتوفرة لصناعة تلك الأيام هي الصوف، والجلد والحبوب لحرفة التخمير، والخشب لحرفة البناء.
وكانت كل مدينة تعيش على المنتجات الزراعية لمحيطها القريب، حتى السياسة كانت في جوهرها نزاعاً حول ملكية الأرض وحق المشاركة في فائض إنتاجها. وكانت غلة الأرض هي التي تحدد نجاة المجتمع من المجاعة أو وقوعه في براثنها، إذ لم يكن بالإمكان جلب الغذاء من مناطق بعيدة في حال عوزه، ولن يصبح هذا الأمر ممكناً إلا بعد مرور زمن طويل.