لقد لعبت الحروب دوراً كبيراً وجلياً في صنع الأمم في أوروبا الغربية، فمنذ أيام ألفرد وما بعد صارت الأمم الأوروبية تبنى على يد أفراد أقوياء قادرين على شد أواصرها، وكثيراً ما كانوا يجمعون كلمتها وشملها في مواجهة الغازي الأجنبي.
قبل عصر البارود كانت الحرب تعتمد بصورة أساسية على الخيالة المدرعين وعلى بناء القلاع من أجل تمتين انتصاراتهم وترسيخها على المدى البعيد، ولذلك راح النبلاء والملوك يشيدون قلاعاً لأنفسهم، فتمكن بعضهم من أن يبلغ درجة عالية من الاستقلال.
إلا أن تغيرين هامين قد حصلا في القرن الرابع عشر، أولهما استخدام الإنكليز والويلزيين للقوس الطويلة في رمي السهام في معركة كريسي ثم في معركة أجنكور في القرن التالي، فقد بين أن هذا أن الخيالة المدرعين ليسوا قوة لا تقهر بل إن بالإمكان صدهم. ولكن هذه السهام لاتكون كافية لهذا الغرض إلا إذا أطلقت بصورة أسراب مركزة وكثيفة، فلابد من استئجار الرماة بأعداد كبيرة، وكان هذا أمراً مكلفاً، وكان الملوك أقدر عليه من الزعماء لأنهم أوفر منهم ثروة. فظهر عندئذٍ الجنود المحترفون الذين يقاتلون مقابل أجر يقبضونه جزاء لخدمتهم، ولهذا كان السبب كنت تراهم ينتقلون دوماً من سيد إلى آخر في أرجاء أوروبا.
أما التغير الثاني فقد أتى مع ظهور الأسلحة النارية الأولى، وكانت هذه في البداية أدوات فظة وضعيفة، ولكن سرعان ما صارت تصنع منها أشكال يمكن لطلقاتها أن تخترق الدروع وتدك الأسوار المنيعة، ومالبثت الأسلحة النارية الأوروبية أن أضحت الأفضل في العالم، كما كان صانعوها والمشتغلون بالتعدين يكثرون بأعداد تدل على نمو هام في المهارات والخبرات التقنية، أما الأرستقراطية كطبقة عسكرية مستقلة فكانت في أيامها الأخيرة، وإذا أتيح لبعض الزعماء أن يمارسوا شيئاً من السلطة بعد ذلك يكون إما من خلال الملك أو بتفويض منه.
وكانت عملية تمركز السلطة هذه عملية بطيئة وطويلة، ولكن الحقيقة أن ثورات النبلاء التي طالما أرقت الملوك وروضتهم في الماضي قد أصبحت نادرة، ويدين الإنكليز بالوثيقة الدستورية الهامة والمسماة الوثيقة العظمى Magna Carta إلى إحدى تلك الثورات إلا أن هذه القصة تمتد إلى أزمنة لاحقة.
في عام 1500 م كانت بعض البلدان قد سارت شوطاً أكبر من بعضها الآخر نحو خلق دولة حقيقية، وإذا كان الحكم المركزي هو المقياس، فربما كانت أكثر مملكة متقدمة في أوروبا في ذلك التاريخ هي إنكلترا.
لقد ظل بعض النبلاء حتى القرن الخامس عشر يعتبرون الحرب استثماراً طيباً لجمع الثروات عن طريق أسر السجناء ثم إعتاقهم مقابل فدية، كما ظلت مبادئ الفروسية تدفعهم أحياناً إلى الصراع دفاعاً عن مصالحهم رغم فداحة الثمن، إلا أن تلك الأيام كانت تولي بسرعة، وكانت الحرب تتحول إلى شأن قومي، أي أنها تستدعي بالضرورة موارد دولة كبيرة لتمويلها