الاستمرارية
لذلك فإن السجلات التاريخية أقل تفككاً وتشويشاً مما قد نخالها للوهلة الأولى، والحقيقة أن أشياء كثيرة استمرت طوال ألف سنة من دون انقطاع يذكر، بالرغم من مرور فترات من الهيجان والغزو بين وقت وآخر، ومع أن الحكام والسلالات كانوا يتبدلون، فقد بقيت للعرش الإمبراطوري مهابته، ولو أن انتداب السماء كان يسحب من الرجل أو السلالة التي تحمله في مرحلة ما. وبقيت مكانة الخدمة المدنية بالأخص رفيعة لايرقى إليها الشك، ولما كان أفرادها يختارون دوماً بناء على جدارتهم وموهبتهم فلم يكن لها من نظير في العالم كله من حيث فعاليتها وبراعتها. لقد أعاد أباطرة السوي والتانغ امتحانات الدخول التي استهلها الهان، ومن خلال تلك الامتحانات ضمنت الإدارة لنفسها قالباً فكرياً محافظاًَ جداً، ومن أن هذا الأمر قد شكل عقبة كبيرة على المدى البعيد، فقد أعطى المثقفين في الصين نظرة للعالم استمرت بلا تغيير حتى قرن مضى، ويدل هذا على أنها ظلت قادرة على تلبية حاجات الصين لزمن طويل.
لقد عمق نظام الامتحان الهوة بين النخبة الحاكمة المتعلمة والجماهير غير المتعلمة، ومع تقدم الإمبراطورية بالعمر على مدى القرون الطويلة طرأت على بنيتها الاجتماعية تغيرات عديدة، فكان هناك بالإجمال تراجع مستمر في أهمية الأرستقراطية ولكن ليس في ثروتها، وصارت مضطرة للتنازل عن سلطاتها السياسية والإدارية للموظفين المدنيين المحترفين. كما كانت هناك أعداد متزايدة من التجار لابد من أخذهم بالحسبان مع تطور التجارة وتوسع المدن وازدياد عدد سكانها، ثم إن بعض العقائد الجديدة المختلفة عن العقيدة الكونفوشية الرسمية للإداريين والنبلاء كانت تحظى بالأهمية بين حين وآخر، بل إن بعض كبار المجتمع أيضاً قد تحولوا إلى الطاوية والبوذية عندما انهارت سلالة الهان فسنحت الفرصة للأخيرة بالتغلغل في الصين. وكانت بوذية مهايانا أشد خطراً من أي قوة أيديولوجية قبل المسيحية، لأنها تدعو إلى نبذ القيم الدنيوية على العكس من الكونفوشية، وهي لم تستأصل على نحو كامل قط بالرغم من الاضطهاد الذي أصابها على عهد التانغ، وكانت هجماتهم عليها في الأرجح لأسباب مالية وليست إيديولوجية. ولكن الكونفوشية وجدت نفسها مضطرة للتصالح مع البوذية بعد الضرر المادي الكبير الذي ألحقته بها، ولا تجد في الحقيقة ديانة أجنبية غيرها كان لها مثل ذاك الأثر القوي في حكام الصين إلى أن جاءت الماركسية، حتى إن بعض الأباطرة كانوا بوذيين.
أما الفلاح فكانت حياته بعيدة جداً عن تأثير تلك الأفكار الدينية والفلسفية، كان يعيش حياته بين براثن الحروب والمجاعات، لذلك تراه يتحول إلى السحر والخرافة. وإن القدر الزهيد الذي نعرفه عن حياته ليشير إلى أنها كانت قاسية لاتحتمل بل رهيبة في بعض الأحيان.
وقد ظهرت ثورات الفلاحين أولاً على عهد الهان، ثم صارت حقيقة راسخة في تاريخ الصين تعود لتتكرر على نحو منتظم مثل تعاقب السلالات، وكان الإداريون يقمعون الفلاحين إما لحساب الحكومة الإمبراطورية التي تحاول جمع الضرائب لتمويل حملاتها في الخارج، أو لحساب مصالحهم الخاصة كمضاربين بالحبوب، ولهذا كان الفلاحون يلتجئون إلى الجمعيات السرية، وهي موضوع آخر يتكرر في الصين. وكانت ثوراتهم تأخذ عادة أشكالاً دينية، وتجد فيها جميعاً خطاً مستمراً يظهر بأشكال عديدة، ويرى العالم دوماً منقسماً إلى صنفين من الناس، صنف الأخيار وصنف الأشرار، صنف الصالحين وصنف الآثمين، ويؤمن مع ذلك بقدوم عصر من السعادة والعدل بعد هذا الصراع المديد، وكان هذا الخطر، يهدد بنية المجتمع أحياناً، ولكن نادراً ما كتب للفلاحين النجاح لزمان طويل.
كان التغير في مجتمع الصين يسير إذاً على نحو بطيء جداً، ورغم جميع الابتكارات الثقافية والإدارية لم تتبدل حياة الناس في أسلوبها أو مظهرها بصورة كبيرة على مدى القرون، وكان قدوم السلالات ورحيلها يعزى إلى مفهوم انتداب السماء، ورغم إنجازاتها الفكرية الكبيرة تبدو حضارة الصين في مراحلها الباكرة منطوية على ذاتها ومكتفية بذاتها ومستقرة إلى حد الجمود. إلا أن التغيرات كانت تحدث بالفعل، ولو ببطء شديد، من تلك التغيرات النمو المتزايد للتجارة والمدن، فقد صارت الدولة تستغني عن سخرة الفلاح وتلجأ بدلاً منها إلى فرض الضرائب على هذه الموارد التجارية الجديدة. كما أن السلالات المختلفة راحت توسع السور العظيم الذي ابتدأته سلالة الهان وتعيد أحياناً بناء أجزاء منه، وإنه مايزال حتى اليوم مشهداً عجيباً يذهل الناظرين، وهو أعظم بكثير من التحصينات الدفاعية التي بناها الرومان على حدودهم. وقبل بدء حقبة التانغ مباشرة اكتمل أيضاً بناء نظام كبير من الأقنية يربط وادي اليانغ تسي كيانغ بوادي النهر الأصفر في الشمال، وبمدينة هانغ تشو (خنسة) في الجنوب. وقد استخدم الملايين من العمال في هذا المشروع وغيره من مشاريع الري الكبرى، وهي أعمال تضاهي في ضخامتها أهرام مصر وكاتدرائيات أوروبا الكبرى التي شيدت في العصور الوسطى.
البيروقراطية
كان توسع الأراضي قد اقتضى توسيع الإدارة أيضاً، وقد استمرت تلك الإدارة الموسعة رغم مرور البلاد بفترات كثيرة من التفكك، وهذا دليل على قوتها، وبقيت حتى النهاية واحدة من أبرز مؤسسات إمبراطورية الصين وأصدقها تعبيراً عنها. وعندما انهارت سلالات الصين وحلت محلها دويلات صغيرة متنافسة خسرت البلاد الوحدة التي كانت قد حققتها، وكانت لطبقتها الإدارية الكفء الفضل في انتشالها من حقبة التراجع تلك وإعادتها إلى سبيل النهوض والتقدم، وقد ضمن هذا الجهاز أُصُر البلاد عن طريق الإيديولوجية فضلاً عن الإدارة، لأن موظفيه كانوا يدربون على الأعمال الكونفوشية الكلاسيكية ويمتحنون فيها، فضمنوا بذلك اقتران الثقافتين الأدبية والسياسية في الصين بصورة لا مثيل لها في أي بلد آخر.
إن الشيء الوحيد الذي كان يميز أفراد هذه الطبقة الإدارية عن سائر أفراد المجتمع من حيث المبدأ إنما هو تعليمهم، وهو أشبه بحيازة شهادة جامعية في أيامنا، وكان أكثرهم يأتون بالأصل من طبقة النبلاء أصحاب الأراضي، ولكنهم ينفصلون عن هذه الطبقة، ومتى انتخبوا لمنصبهم عن طريق الامتحان صاروا يتمتعون بمكانة لا تعلو عليها إلا مكانة عائلة الإمبراطور، فضلاً عن المزايا المادية والاجتماعية الكثيرة. وكان يتوجب عليهم القيام بمهمتين أساسيتين كل سنة، هما جمع بيانات عدد السكان وسجلات الأراضي التي يعتمد عليها نظام جبي الضرائب في الصين، أما مهامهم الأخرى فهي قانونية وذات طبيعة رقابية، إذ كانت الشؤون المحلية تترك بيد نبلاء المقاطعة تحت إشراف حوالي ألفي حاكم مقاطعة من الطبقة الإدارية. وكان كل حاكم يعيش في مجمع رسمي هو السراي، مع موظفيه وسعاته وخدمه وخدم بيته من حوله، وكانوا يخضعون لجهاز دولة يقوم بمراقبتهم وتوجيههم ورفع التقارير عن أعمالهم، وقد حكمت هذه الإدارة عندما كانت في أقصى اتساع لها منطقة أكبر بكثير من الإمبراطورية الرومانية.
كانت هذه البنية تتمتع بقوة محافظة عظيمة، وقد ضمن نظام الامتحانات أن تنفذ سلطة الحكومة بحسب مبادئ مثالية متفق عليها، وكان من الصعب جداً على رجل لا يمتلك بعض الثروة أن يقوم بأود نفسه خلال الدراسات الطويلة اللازمة لتحضير الامتحان، إذ إن الكتابة بالأشكال التقليدية وحدها تحتاج إلى سنوات طويلة لإتقانها، ورغم هذا فإن مبدأ التنافس قد ضمن ألا تبقى المواهب محصورة تماماً بعائلات النبلاء الغنية والقديمة، لذلك كان الطبقة الحاكمة في الصين تستمد أفرادها من ذوي الجدارة ولو بصورة محدودة. وكانت تحدث حالات من الفساد وشراء المناصب من وقت لآخر، ولكن علامات التراجع هذه لاتظهر في السجلات عادة إلا في المراحل الأخيرة من حكم السلالة، وكان إداريو الإمبراطورية في أكثر الحالات يبدون استقلالاً واضحاً عن خلفيتهم، وكانوا نظرياً رجال الإمبراطور، ولم يكن يسمح لهم بأن يمتلكوا أراض في المقاطعة التي يخدمون فيها، أو يخدموا في مقاطعتهم، أو يكون لهم أقرباء في نفس الفرع من الحكومة. ولم يكونوا يمثلون طبقة ما، بل كانوا نخبة منها تجند بصورة مستقلة وتتجدد وتترقى عن طريق المنافسة، وهم الذين جعلوا الدولة حقيقة واقعية، وكان بعضهم يرتقون هذا التسلسل الهرمي حتى أعلى مستوياته فيصبحون مستشارين للإمبراطور، ولم يكن ينافسهم في الأهمية إلا الخصيان الذين يعملون في البلاط. فكثيراً ما كان الإمبراطور يؤمنون لهؤلاء على سلطات كبيرة لأنهم غير قادرين على تأسيس عائلات، وكانوا هؤلاء هم القوة السياسية الوحيدة الناجية من قيود العالم الرسمي.
ولم يكن هناك في الصين ثمة تمييز بين الحكومة والمجتمع كما في أوروبا، بل كان الرجل الواحد يجمع أدواراً عديدة مثل الإداري والعالم والنبيل، بينما كانت هذه الأدوار في أوروبا تتوزع على أفراد مختصين في الحكومة وفي سلطات المجتمع غير الرسمية. وفضلاً عن ذلك كان جمع الأدوار في الصين يتم ضمن إطار من الإيديولوجية هي من المجتمع بمنزلة القلب من الجسد، ولا تكاد تجد مثل هذا الترتيب إلا في الإسلام. ولم يكن الحفاظ على القيم الكونفوشية بالأمر اليسير، لأنه لا يلبى بالكلام وحده، لقد حافظت الإدارة على تلك القيم عن طريق ممارستها سيطرة أدبية تشبه السيطرة المديدة التي كانت لرجال الدين في الغرب، ولم يكن في الصين كنيسة تنافس الدولة، وكانت مبادئها محافظة إلى أبعد الحدود، ومهمتها الملحة هي الحفاظ على النظام القائم وعلى تماسك المجتمع، وقد تقوم ببعض الأشغال العامة الكبرى بين الحين والآخر، وأما معاييرها السائدة فهي الانتظام وترسيخ المبادئ ذاتها في كافة أنحاء تلك الإمبراطورية الهائلة والمتنوعة، والتي يتميز فيها حكام المقاطعات عن الشعب الذي تحت رعايتهم من كل ناحية حتى من ناحية اللغة، والحقيقة أنها قد نجحت في بلوغ هذه الأهداف نجاحاً باهراً.
كانت كل سلالة تمر بدورة الصعود حتى الأفول، وتبدأ فترة التراجع عادة بعجز السلالة عن حماية حدودها من الغزوات البربرية الجديدة الآتية من الخارج، وبالضيق والمجاعة وثورات الفلاحين في الداخل، فتؤدي هذه كلها إلى تعطل نظام جبي الضرائب وتداعي القانون والأمن أيضاً، فيظهر عندئذٍ قادة عسكريون محليون يديرون ممالك صغيرة على حسابهم. ولكن هذه الفترات من الفوضى لم تعد بعد القرن العاشر تخرج عن السيطرة إلى حد يجعل الناس يشكون بالمبدأ الأساسي، وهو أن الصين يجب أن يحكمها الإمبراطور كبلد واحدة، صحيح أن الصين في أواخر عهد السونغ انقسمت إلى دولة شمالية يحكمها البرابرة ودولة جنوبية يحكمها الصينيون، ولكنها لم تتفكك قط إلى وحدات صغيرة حتى القرن العشرين.
الحضارة الصينية
بالرغم من تلك التأثيرات الأجنبية إذاً، كان المثقفون الصينيون في أزمنة الهان يعتبرون بلدهم مركز العالم ومقر الحضارة الحقة، ولاريب أن هذه الثقة بحضارتهم هي من أسباب لامبالاتهم بما كان يجري في البلاد الأخرى، إلا أن هناك أسباباً غير هذه، منها بُعد أرض الصين عن الحضارات الأخرى، الذي كان دوماً عاملاً هاماً أمن للصين الحماية من تخريب القوى الخارجية، ولكنه في الوقت نفسه جعل تجاربها الثقافية ضيقة ومحدودة وحكامها قليلي الاهتمام بالعالم الخارجي. كما أن الصين كانت مكتفية بذاتها من الناحيتين الاقتصادية والتقنية، فهي غنية بالموارد الطبيعية كما كانت زراعتها وتقنيتها في عصر الهان قادرتين على استغلال بيئتها استغلالاً ناجحاً، والحقيقة أنه لم يكن هناك في العلام بلد أكثر منها تطوراً. إن آخر الأشياء الجديدة التي أتتها من الخارج قبل الأزمنة الحديثة إنما هو نبات الأرز، وقد دخلها في عصور قديمة جداً إما من جنوب شرقي آسيا أو من الهند.
وأتت حقبة الهان بمزيد من التطورات والابتكارات، فقد صنع علماء الهان أول بوصلة مغناطيسية وكان لها قرص مدرج وإبرة ولكنها لم تكن تستخدم للإبحار بل لتوجيه المعابد توجيهاً صحيحاً عند بناءها. كما ابتكروا أول طريقة لرسم الخرائط على أساس شبكة من الخطوط المتقاطعة، واخترعوا آلات لتسجيل الزلازل وأدوات للحرفيين لقياس سماكة الأشياء ذات تدريجات عشرية. إلا أنك عندما تستعرض اليوم ابتكارات تلك المرحلة فإن أكثر ما يبهرك بينها هو اكتشاف الصينيين لطريقة صنع الورق، التي أعلن عنها في ورشات الإمبراطور في عام 105 للميلاد وسوف تكون أهمية هذا الاختراع عظيمة جداً للجنس البشري بأكمله، ولو أن طريقة صنعه لم تصل إلى الغرب إلا بعد قرون عديدة. لقد كان الورق أرخص من ورق البردي والرق، ولو أنه أسرع بلاء من الأخير كما أنه أسهل صنعاً.
وقد تحسن النقل أيضاً خلال أزمنة الهان وتحسنت معه المواصلات، فظهرت في القرن الأول ق.م الدفة المثبتة بمؤخرة السفينة لتوجيهها بدلاً من المجداف الكبير المتدلي من أحد طرفيها، ولم تعرف السفن الأوربية هذه الدفعة إلا بعد حوالي اثني عشر قرناً، وعلى عهد سلالة الهان السابقة ظهرت أيضاً عدة الحصان التي تغطي صدره، فصار بالإمكان جر أحمال أثقل بكثير من السابق. وبعد نهاية السلالة بقليل سوف يبدأ الصينيون باستعمال الركاب، وهو اختراع ذو أهمية كبيرة في الحرب لأنه يعطي الفارس مقداراً أكبر من الأمان والسيطرة على فرسه، أما النشابية، وهي قوس مثبتة على هيكل خشبي ذي أخاديد تستخدم لتوجيه السهام، فقد اخترعت على عهد الهان، وكانت انجازاً تقنياً هاماً جداً لأنها أقوى من أقواس البرابرة وأكثر دقة منها، وكان البرابرة عاجزين عن تقليدها إذ لم يكن أحد غير الصينيين يعرف طريق صنع الأقفال البرونزية اللازمة لها.
إن هذه الاختراعات كلها شواهد على غنى حضارة الهان، وقد كانت تلك بداية حقبة مجيدة، لأن علوم الصينيين ورياضياتهم سوف تنتج خلال الألف سنة التالية فيضاً من الأفكار الجديدة هو أغزر بكثير مما ظهر في أوروبا. ويبدو أن حياة الحكام والأغنياء في الصين على عهد الهان كانت حياة رائعة، وأنها عرفت الكثير من الأشياء المبتكرة الجميلة والمصنوعة من الحرير والخشب الملون، ولو أن أكثرها قد هلكت. وعندما ابتدأ إحراق القصور خلال العقود المضطربة الأخيرة من عمر السلالة ضاعت مجموعات فنية لاتقدر بثمن. ولكن بالرغم من هذا بقي مقدار كبير من المصنوعات الجميلة لأن الهان كانوا يدفنون الأغنياء والنبلاء مع الكثير من مقتنياتهم أو مع نماذج لها، وقد تم مؤخراً اكتشاف هام لبدلات متقنة الصنع من حجر اليشب دفن فيها أميرة وأمير من سلالة الهان. وتجد على عهد سلالة الهان اللاحقة أن المصنوعات البرونزية، وبالأخص تماثيل الأحصنة، تدل على تطور جديد في فن سبك البرونز، وهو واحد من أقدم الفنون في الصين، كما كان الخزافون يبتكرون أصنافاً جديدة من الميناء الملونة لأعمالهم الخزفية البديعة.
يدل الفن في عهد الهان إذاً على أن الحضارة الصينية كانت تنظر إلى الماضي وليس إلى المستقبل، وإن هذه الحقيقة لتصح على حياة الفكر أيضاً، فعلى عهد الهان ابتدأ العلماء بتدوين تواريخ السلالات، عندما وضع سو ما تشين أعظم مؤرخي الصين كتابه ”سجلات تاريخية”، وهو عمل يقدره المختصون بهذه الأمور تقديراً عالياً. إلا أن أهم التطورات التي حصلت في أزمنة الهان إنما هو ترسيخ العقيدة الكونفوشية كإيديولوجية رسمية للدولة، وكان هذا انتصاراً لتعاليم ذلك الرجل الحكيم أو ما اعتبر تعاليمه، لقد أراد العلماء أن يصلحوا الأضرار الجسيمة التي حلت بالصين ومكتباتها منذ عهد التسين، إذ كانوا قد تعرضوا لأزمة بشعة وإهانة عميقة في عام 213 ق.م عندما انقلب الإمبراطور على منتقدي نظامه العسكري الاستبدادي، فأحرق الكتب جميعها ولم يبق إلا على الأعمال المفيدة في العرافة (التنبؤ بالغيب) والطب والزراعة والكتب التي تمجد السلالة، وقد هلك أكثر من أربعمائة عالم في ذلك الاضطهاد. أما الآن فقد أعاد الهان اكتشاف النصوص الكونفوشية التي ضاعت على عهد التسين. كان أباطرة الهان راغبين بمصالحة المثقفين إذاً، ولو أن جوهر هذا التحول ليس واضحاً، فأعادوا منصب الأستذة في الدراسات الكونفوشية، وأمروا بتقديم القرابين بانتظام لكونفوشيوس في كافة المدارس الحكومية، وبدؤوا يتقبلون المتقدمين للخدمة المدنية على أساس الامتحان في الأعمال الكونفوشية الكلاسيكية. وقد أدت هذه الأمور كلها إلى تحويل العقيدة الكونفوشية إلى عقيدة رسمية ذات عمر مديد، وضعت نصوصها الأساسية بعد عام 200ق.م بقليل، وظلت من بعدها تتمثل العناصر الفكرية من مدارس أخرى، ولكن مبادئها الأخلاقية بقيت منذ ذلك الحين هي المسيطرة في الفلسفة التي سوف تشكل حكام الصين في المستقبل. وفي عام 58 م أمر بتقديم القرابين لكونفوشيوس في كافة المدارس الحكومية، وأخيراً باتت المناصب الرسمية على عهد التانغ محصورة بالذين تدربوا على تعاليمه، وقد مدت الكونفوشية حكام الصين طوال أكثر من ألف سنة بمجموعة من المبادئ الأخلاقية وبثقافة أدبية تكتسب بالاستظهار العنيد، فنشأت بهذا طبقة إدارية هي من أكثر الإدارات التي عرفها العالم حتى اليوم فعالية وتجانساً إيديولجياً.
إلا أن تأييد العلماء لم يكن كافياً لضمان استمرار سلالة الهان، لأنها واجهت تحديات داخلية وخارجية شديدة، كان أخطرها ثورات الفلاحين المتتالية، إذ تزايد عدد السكان فصار الكثيرون من الفلاحين بلا أرض وغير قادرين على إيجاد المال اللازم لدفع الضرائب وتأمين الطعام، وفي الوقت نفسه عاد البرابرة يهاجمون البلاد من الخارج، وراح القادة المهيمنين على الجيش يغتصبون السلطة في الأراضي التي يسيطرون عليها. أما البرابرة الذين سمح لهم بدخول الحدود على أمل تعليمهم أساليب الحياة الصينية فقد انقلبوا على الذين أدخلوهم أصلاً، وفي عام 221 م تخلى آخر أباطرة الهان عن عرشه لابن أكبر القادة العسكريين، فعادت الصين لتتفكك من جديد.
لقد ضاع الكثير من تراث ثقافة الهان البديعة وخرب خلال القرنين الرابع والخامس عندما عاد البرابرة لمضايقة الحدود، وتفككت الصين مرة ثانية إلى مجموعة من الممالك كان بعضها تحت حكم سلالات بربرية، ولكن قدرة الصين العجيبة على امتصاص الثقافات الأجنبية تظهر بوضوح حتى خلال هذه الأزمة الكبيرة.
واجتذبت أساليب الحياة في الصين البرابرة رويداً رويداً، فخسروا هويتهم واتخذوا لباس الصينيين ولغتهم، وأصبحوا شعباً جديداً من شعوب هذا البلد، والحقيقة أن مكانة الحضارة الصينية بين شعوب آسيا الوسطى كانت عظيمة، وكان جيرانها غير المتحضرين يميلون إلى اعتبارها مركز العالم وقمة الثقافة، مثلما كانت الشعوب الجرمانية في الغرب تنظر إلى روما، بل إن أحد حكام التتر قد فرض عادات الصين ولباسها على شعبه فرضاً بمرسوم أصدره في عام 500م. إلا أن خطر آسيا الوسطى ظل قائماً وراء الحدود، كما ظهرت في القرن الخامس أول إمبراطورية مغولية في منغوليا. ولكن وحدة الصين لم تكن في خطر كبير عندما استلمت سلالة التانغ الشمالية التفويض السماوي في عام 618، ولم يكن الانقسام والغزوات البربرية قد خربت أسس حضارتها التي دخلت عصرها الكلاسيكي.
كانت ثقافة الصين في عهد التانغ مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمؤسساتها، وكان الصينيون يعتبرون أن العائلة والدولة هما المصدران الوحيدان للسلطة، ولم تتعرض هاتان المؤسستان لتحد يذكر لأن الصين لم تعرف كيانات مثل الكنيسة أو النقابات التي ظهرت في أوروبا حيث أثارت الأسئلة حول مواضيع الحق والحكم وأعطت ثمارها الغنية. لقد كانت الملامح الأساسية للدولة الصينية قائمة منذ عهد التانغ، وسوف تستمر حتى القرن العشرين وتستمر معها نظرتها ومواقفها المميزة لها، وكان لجهود الهان الكبيرة في تماسك الدولة وتدعيمها دور كبير في صنع تلك المواقف، أما منصب الإمبراطور كحامل للتفويض السماوي فقد كان راسخاً منذ أيام التسين، والحقيقة أن مكانته لم تتزعزع رغم تبدل السلالات، لأن تلك التبدلات كانت تفسر دوماً بانتقال التفويض السماوي إلى أيدٍ جديدة ، بل إن السلطة الكامنة في مكانة الإمبراطور كانت تنمو بصورة مستمرة. فبعد أن كان في البدء زعيماً إقطاعياً كبيراً سلطته امتداد لسلطة العائلة أو العزبة تطور رويداً رويداً حتى صار حاكماً يرأس دولة مركزية ذات طبقة إدارية كبيرة، وكان هذا التطور قد ابتدأ منذ زمن بعيد، فلو لم تكن الدولة قوية لما تمكنت من تنظيم تلك الأعداد الكبيرة من البشر على عهد أول أباطرة التسين من أجل ربط أجزاء السور العظيم وبناء حاجز متصل منها ضد البرابرة يربو طوله على 2000 كم، وتقول الأسطورة إن هذا الإنجاز قد كلف حياة مليون شخص، وقد تمكن أباطرة الهان من فرض احتكارهم لسك النقود ووحدوا العملة، وعلى عهدهم تم تأسيس الخدمة المدنية أيضاً.
الديانة في الصين
وبالرغم من توسع اتصالات الصين على هذه الصورة فقد بقيت معزولة عن التأثيرات الخارجية، فلا تجد فيها ما يشبه مثلاً تأثير اليهودية والمسيحية على الحضارة الإغريقية الرومانية، صحيح أن الإسلام تغلغل في تركستان وفي زوايا الإمبراطورية وازدهر فيها إلا أنه لم يصل إلى داخلها. وربما كان التحدي الوحيد لتقاليدها هو الديانة البوذية، التي وصلت إليها على ما يبدو خلال القرن الأول الميلادي عبر الطرق التجارية الآتية من آسيا الوسطى، ولعلها أهم ثقافة استوردتها الصين قبل القرن التاسع عشر. كانت البوذية في جوهرها أقرب ديانة إلى الصين من أي ديانة أخرى قبل المسيحية، لأنها تشدد على الابتعاد عن هذا العالم وليس على أداء الإنسان لواجباته نحو مجتمعه، وربما كان الذين دفعوها إلى الصين هم شعب الكوشانا، لأنهم نشروها في آسيا الوسطى ومن هناك انتقلت إلى شمال الصين خاصة في شكل بوذية مهايانا. ويظهر بوذا هنا بصورة المخلص الذي يستطيع المؤمن أن يتطلع إلى عونه ومساعدته، ولاريب أن هذه الصورة كانت مريحة ومطمئنة في أزمنة الاضطراب والتفكك الاجتماعي. والحقيقة أن في البوذية ما يناسب جميع الناس على اختلافهم، ففيها الخرافة للبسطاء وفيها الأفكار الفلسفية التي تحفز أذهان المثقفين، فضلاً عن أنها تتمتع بأسلوب فني جذاب وجميل.
وانتشرت البوذية رويداً رويداً من قمة المجتمع إلى قاعدته، وراح الطلاب والرهبان يتنقلون بين الصين والهند بحثاً عن تعاليمها، وقد بلغت أعظم انتصارات لها بين القرنين السادس والتاسع، ولكنها كانت في الوقت نفسه تمر بتحولات وتغيرات كثيرة، وقد تطورت في بعض الأحيان إلى شيء مختلف تماما ً عن تعاليم غوتاما الأصلية (أي بوذا). لقد صارت البوذية في كل مكان مزيجاً من المعتقدات المتضاربة والمتناقضة، إلا أنها مرت في الصين بتطورات خاصة، وظهرت فيها طوائف جديدة إحداها حركة التأمل التي عرفت لاحقاً باسمها الياباني زن، وكانت العزوبية عقيدة أساسية في التعاليم البوذية الكلاسيكية، ولكن الصينيين كانوا ينفرون من هذه الفكرة لأن استمرار العائلة وعبادة الأجداد كانا يحظيان بمكانة كبيرة لديهم، وهذا ما دفع بعض رجال الدين البوذيين في الصين إلى التخلي عن مبدأ العزوبية.
لقد ساهمت الدولة في تنظيم شؤون البوذية، فحددت عدد الرهبان والأديرة من أجل منع ثرواتهم من الهروب من نظام الضرائب، ولكن هذا الأمر كان صعب التحقيق. وقد حدثت من وقت لآخر موجات اضطهاد كانت أسوأها في القرن التاسع، وقد منعت خلالها جميع الديانات الأجنبية وتقول المصادر الرسمية أن أكثر من 4600 دير قد دمر وأكثر من ربع مليون راهب وراهبة بوذيين قد خسروا ميزة إعفائهم من الضرائب، بينما كانت الكونفوشية تعيد إحكام قبضتها على المثقفين. وكانت تلك بداية انحسار البوذية في الصين، ولم تبلغ من بعدها مثل تلك القوة قط، والحقيقة أن البوذية لم تبدل الحضارة الصينية، بل أمدتها ببعض العناصر الجديدة وحسب.
لم تؤثر البوذية إذاً على المعتقدات الدينية التي كان أكثر أهل الصين يعيشون بحسبها، كما أن الديانة التقليدية لم تقف منها ولا من غيرها من العقائد موقفاً متشدداً، ولم تكن الدولة تقدم على الاضطهاد إلا عندما يشكل دين جديد خطراً على البنية السياسية أو الاجتماعية. أما الواجبات التي تفرضها التقاليد الصينية فهي تنحصر بأن يقوم الأشخاص المناسبون بأداء طقوس القرابين وبعادة توقير الأجداد، وقد ثبتت الكونفوشية هذه النزعة المتساهلة، وكان مثقفو الصين على درجة عالية من التسامح وأعجب الأوروبيون بهذا الأمر إعجاباً كبيراً، كما أصدر أحد الأباطرة في زمن لاحق على عهد التانغ مرسوماً يسمح بالتبشير بالمسيحية التي وصلت إلى الصين عن طريق المبشرين النساطرة ، وقد يتوقع المرء من هذا أن تزدهر في الصين الأفكار الجديدة الوافدة من الخارج، ولكن الحقيقة أنها لم تزدهر. صحيح أن انهيار المجتمع التقليدي واضطرابه خلال أفول سلالة الهان وما بعده قد دفع الناس إلى البحث عن عقائد ومعتقدات جديدة، مثل ما حدث أثناء انهيار الإمبراطورية الرومانية إلا أن المستفيد من هذا التدهور إنما كان العقائد الشعبية والديانة الطاوية، التي تطورت فصارت مزيجاً من علاج الأمراض عن طريق الإيمان ومن الخرافة والأفكار البوذية.