لقد خلف جندرة كبتا ابنه الذي زاد الإمبراطورية اتساعاً باتجاه الجنوب، إلا أن الرجل الذي أكمل هذه العملية إنما هو آشوكا، ثالث أباطرة الموريا، الذي حكم رقعة واسعة لن تعرف الهند أكبر منها تحت حكم واحد حتى تبلغ فيه السلطة البريطانية ذروتها في القرن التاسع عشر. وعلى عهد آشوكا –أيضاً- تبدأ بالظهور وثائق غنية عن الهند، لأنه ترك الكثير من النقوش والسجلات والقرارات والرسائل رعاياه. وتشير هذه الوثائق إلى التأثيرين الفارسي والهلنستي، إذ إن الهند كانت في ذلك الحين أكثر اتصالاً بالعالم الخارجي من الصين، كما أنه خلف في قندهار بأفغانستان كتابات محفورة باللغتين اليونانية والآرامية، وقندهار واحدة من المدن الكثيرة التي سميت على اسم الإسكندر الكبير.
كانت هذه أكثر الحكومات تنظيماً حتى ذلك الزمان، والأهم من هذا هو أن الهند على عهد آشوكا كان قد ترسخ فيها نظام الطبقات المغلقة ترسخاً متيناً، كان آشوكا يحكم البلاد من خلال الإدارة، وكان يساعدها على ما يبدو جهاز كبير من الشرطة السرية أو المخابرات الداخلية. وكان هذا الجهاز يقوم بالواجبات التي نتوقعها منه مثل جبي الضرائب، والحفاظ على الأمن والنظام والإشراف على الري، كما كانت عليه أيضاً مهمة الترويج لمجموعة من المعتقدات، أي ما يمكن أن نسميه أيديولوجية. كان آشوكا بوذياً، ويقال إنه اعتنق البوذية بعد أن شهد معركة دامية رهيبة أثارت الاشمئزاز في نفسه، وقد نصب الكثير من الأعمدة التي ترمز للوصل بين السماء والأرض وعليها نقش رسالته. ولم تكن تلك الرسالة بوذية فقط بل يمكن تلخيصها بكلمة داما Dhamma، وهي مشتقة من كلمة سنسكريتية تعني ”القانون الكوني”، وتوصي بالتسامح الديني واللاعنف واحترام الإلوهية في جميع البشر. والحقيقة أنها أفكار مذهلة بتطورها بالنسبة إلى ذلك الزمان، وكثيراً ما يعتز بها الهنود اليوم رغم أنها تعود لعصر بعيد، ولم توضع تلك المبادئ كقوانين أو مراسيم يجب إطاعتها وتنفيذها، بل يبدو أنها كانت جزءاً من محاولة آشوكا لتسهيل حكم هذه المجموعة الهائلة، والمتقلقلة من الشعوب والعقائد واللغات. تقول إحدى نقوشه ”إن الناس جميعاً أولادي”، ولاريب أن الحكم يسهل كثيراً إذا ما اتفق الناس على هذا، ويلاحظ أن آشوكا لم يبدأ بنصب تلك العواميد إلا قرب نهاية حكمه، بعد عام 260ق.م تقريباً أي عندما كانت فتوحاته قد اكتملت.
لقد قام آشوكا أيضاً بمجموعة من الأشغال العامة التي كان الغرض منها منفعة رعاياه، فبنى خزانات المياه، وحفر الآبار، وجعل محطات للاستراحة على مسافات منتظمة على طول طرق الإمبراطورية، كما زرع أشجار تين البنغال لتؤمن الفيء للمسافرين. إلا أن هذه الأشياء كلها لم تساعد كثيراً في التغلب على انقسامات الهند، بل يبدو على العكس أن ملامحها الدينية قد تعمقت وترسخت في أزمنة الموريا. لقد سارت أفكار الدين وآدابه خطوة أخرى نحو تبلور الديانة الهندوسية عندما بدأت قصيدتا المهابهاراتا والرامايانا تأخذان شكلهما النهائي، وهما ملحمتان كبيرتان ترويان قصص الآلهة والشياطين والمغامرات التاريخية الجريئة، وقد أضيفت إلى ملحمة المهابهاراتا "أغنية الرب" "باغاد غيتا"، التي سوف تصبح النص الجوهري للديانة الهندوسية وسوف تحظى بمكانة تساوي مكانة العهد الجديد في الديانة المسيحية. كما ازدهرت في أزمنة الموريا عبادات أخرى أكثر شعبية وأقرب إلى الخرافة، منها عبادة كرشنا، أكثر آلهة الهند شعبية، وهي عبادة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالباغافاد غيتا لأن هذه القصيدة تدور حول شخصية كرشنا. وازدهرت البوذية أيضاً على عهد آشوكا، وربما بفضل تأييده ودعمه لها، فقد بلغ به حماسه أنه أرسل البعثات التبشيرية إلى أصقاع الأرض، ومنها بعثات إلى مصر ومقدونيا لم تحرز نجاحاً كبيراً، بينما أفلحت غيرها في بورما وسيلان (سيريلانكا)، والحقيقة أن البوذية مازالت هي الديانة السائدة في سريلانكا منذ ذلك الحين.
وسرعان ما راحت إمبراطورية الموريا تتفكك بعد موت آشوكا، وليس سبب هذا التفكك واضحاً ولكن ربما كان أبسط تفسير له هو أنها اتسعت كثيراً حتى باتت أكبر من مواردها. فقد كانت بالأساس دولة تعيش بصورة طفيلية على زراعة محدودة، وغير قادرة على التوسع الكبير مثل كافة الإمبراطوريات القديمة، ولاريب أن إدارتها كانت بدائية ينخرها الفساد والمحسوبية لأنها لم تكن تملك نظاماً عقلانياً لتوظيف الناس والرقابة عليهم. أما مجتمع الهند فقد كان على كل حال مستقلاً إلى حد كبير عن الأنظمة السياسية، ويسير بحسب ترتيبات العائلة والطبقة، ولم يكن الهندي العادي يهتم كثيراً بما يحدث فوق هذين المستويين، ولم تكن إمبراطوريات الهند تحظى بولاء رعاياها إلا عندما تؤمن لهم النظام والعيش الكريم، مثلها مثل إمبراطوريات الصين.
تعتمد الاستمرارية الطويلة في تاريخ الهند إذاً على الدين والطبقة الاجتماعية والعائلة، كما أن الاقتصاد لم يتغير كثيراً، والحقيقة أن حياة الفلاح الهندي لم تعرف تبدلاً هاماً بين أزمنة الموريا ووصول الأوروبيين في القرن السادس عشر، وربما كان هذا أمراً طبيعياً بالنظر إلى مناخ الهند والروتين الذي فرضه عليها. وبالرغم من هذا فقد حدثت بعض التطورات الهامة، منها نمو التجارة التي أمنت للحكومة دخلاً من رسومها، وربما كان هذا سبب العناية ببناء الطرق، كما ترافق نمو التجارة بنمو الجمعيات التجارية والحرفية، التي بلغ من شأنها أن بعضها اعتبرت خطراً على سلطة الملك، وكانت التجارة الخارجية مع أفريقيا، والإمبراطورية الرومانية تنمو باستمرار أيضاً.