أوروبا: الحدود المحصنة*
أما في أوروبا فكانت الأمور مختلفة، إذ كانت توجد على طول الحدود الممتدة من البحر الأسود إلى مصبات نهر الراين شعوب جرمانية كثيراً ما كان الرومان في حالة حرب معها، وكانوا قد طردوا بعضها من مواطنها الأصلية، ولكن الجرمان كانوا خصوماً أشداء. كان أوغسطس قد أمل بتوسيع حدود الإمبراطورية حتى نهر الإلب – لابه- ولكن بات من الواضح أن هذا غير ممكن، خاصة بعد الكارثة الكبرى التي حلت بالجيش الروماني في عام 9 م حيث محيت ثلاثة فيالق عن بكرة أبيها في هزيمة نالت من معنويات الرومان بصورة كبيرة، حتى إنهم لم يسمحوا من بعدها بظهور أرقام تلك الفيالق في لائحة الجيش، وبسبب المشاكل الناجمة عن وجود هذه الشعوب ثم صنع الحدود المحكمة للإمبراطورية.
ولم يكن الهدف من هذه الحدود تبيان أين تنتهي مسؤوليات حكومة، وتبدأ مسؤوليات حكومة أخرى فقط، كما هي الحال في الحدود بين أكثر الدول اليوم، بل كان الغرض منها حماية ما يكمن داخلها وفصله عما يقبع خارجها. كانت الحدود تفصل بين درجتين متباينتين من الثقافة، فضمنها تقع أوروبا اللاتينية المتميزة عن المجتمعات الجرمانية في الشمال وخلف نهر الدانوب، ولم يكن السلاف وصلوا إلى خشبة المسرح بعد. فعلى الجانب الروماني من الحدود كان يسود النظام والقانون والأسواق المزدهرة والمدن الراقية، أي باختصار الحضارة، بينما كانت تنتشر على الطرف الآخر المجتمعات القبلية والتخلف والأمية والبربرية، وكان من المستحيل بالطبع أن تنعزل هاتان المنطقتان انعزالاً كاملاً والحقيقة أن الحركة بالاتجاهين لم تنقطع قط، إلا أن الرومان كانوا ينظرون إلى ماوراء الحدود نظرة حذر ويقظة. وكانوا يقيمون هذه الحدود على عوائق طبيعية كلما أمكنهم ذلك، وكان أكثرها على طول نهري الراين والدانوب، أما في الفجوات الواقعة بين تلك العوائق الطبيعية فكانوا يبنون التحصينات من التراب أو الخشب أو الحجر أحياناً، ويضعون على طولها معسكرات دائمة للفيالق تربط فيما بينها أبراج إشارة ونقاط دفاع أصغر. وكانت الطرق تمتد على طول الحدود بحيث يستطيع الجنود أن يسيروا بسرعة من نقطة إلى أخرى، وكانت هناك أشغال طويلة تمتد بين أعلى الراين والدانوب، وأشغال أخرى في دوبروجا* تمتد حتى البحر. ولكن أبرز تلك الأشغال هو ما يعرف اليوم بسور هادريانس على اسم الإمبراطور الذي بناه، وقد ابتدأ العمل في هذا السور حوالي 122 م في شمال بريطانيا بين نهر التاين ولسان سولواي البحري، وهو مبني من الحجر ويمتد على طول ثمانية أميال رومانية حوالي 120 كم وتحميه من الجانبين خنادق يبلغ عرضها حوالي عشرة أمتار وعمقها ثلاثة، فضلاً عن ستة عشر حصناً، ونقاط دفاع أصغر تبعد الواحدة عن الأخرى حوالي 1.5 كم، وبرجين بين كل نقطتي دفاع، وقد قال مدون سيرة هادريانس إن الغرض من هذا السور كان فصل الرومان عن البرابرة. ولكن هذه الحواجز لم تكن فعالة إلا إذا زودت تزويداً كافياً بالرجال، وقد ضعفت الحامية التي تحرس سور هادريانس مرتين، مرة عند نهاية القرن الثاني ومرة خلال القرن الرابع، فاجتاحته عندئذٍ الشعوب الاسكتلندية والبيكت البربرية التي غزت الإمبراطورية حتى مسافة بعيدة في الجنوب وأعملت فيها النهب والتدمير.
أما في القارة الأوروبية فرغم أن الحدود على نهر الراين كانت قصيرة نسبياً فقد كانت تحرسها ثمانية فيالق، في عهد أوغسطس كان أفراد الجيش جنوداً متطوعين يخدمون خدمة طويلة وصاروا يأتون من المقاطعات بصورة متزايدة، وكثيراً ما كانوا من البرابرة، ولم تقتصر خدمتهم على الوحدات الخاصة ذات الخلفية المحلية مثل الرماة المهرة في جزر البليار بإسبانيا والخيالة المدرعة الثقيلة في مقاطعات الدانوب بكل كانوا يخدمون أيضاً في فيالق المشاة التي كانت قلب قوة روما العسكرية. وكان هناك في العادة ثمانية وعشرون فيلقاً تبلغ حوالي 160.000 رجل بالإجمال، تخدم كلها على طول الحدود أو في المقاطعات البعيدة مثل إسبانيا ومصر، وكان هناك نفس هذا العدد من الرجال تقريباً في الوحدات الاحتياطية والمختصة كالخيالة. إن الخدمة الطويلة في المناطق نفسها قد جعلت الفيالق أقل حركة مع مرور الزمن، فكانت مدن الحاميات تضم مجموعات كبيرة من الأتباع وعائلاتهم والذين يصعب عليهم أن يتنقلوا من مكان لآخر. إلى أن الشبكة الداخلية للطرق ظلت تؤمن لقواد الإمبراطورية ميزات كبيرة في تحريك قواتهم بسرعة، وقد تغير توزيع وحدات الجيش رويداً رويداً بصورة تعكس الاحتياجات الإستراتيجية، ففي بداية القرن الثالث كان نصف فيالق الراين قد نقل، بينما تضاعف حجم الجيش على الدانوب بمقدار الثلثين.
* the limes
* منطقة في رومانيا بين البحر الأسود والدانوب
ضغوط البرابرة
بعد عام 200 م بقليل كان ضغط الشعوب الجرمانية على الحدود في تصاعد مستمر وباتت تطالب بعبور تلك الحدود والاستقرار ضمن أراضي الإمبراطورية. ولاريب أن بعضهم قد اجتذبتهم الحضارة والثروة، ولكن كانت هناك أيضاً قوة أخرى هامة تؤثر عليهم، وهي ضغط شعوب لشعوب أخرى من الشرق نحو الغرب نتيجة تغيرات في آسيا الوسطى إما طبيعية كالمناخ أو سياسية مثل مضايقة أباطرة الهان في الصين لشعب الهسيونغ نو الذي سوف يعرفه الأوربيون لاحقاً باسم الهون، فكانت تجري إذاً عملية دفع للشعوب نحو الغرب، وفي نهاية السلسلة كانت القبائل الجرمانية التي صار محتماً عليها أن تصطدم بحدود الإمبراطورية الرومانية.
يبدو أن البرابرة لم يكونوا قادرين على حشد أكثر من عشرين أو ثلاثين ألف رجل في ميدان المعركة مرة واحدة، ولكن هذه الأعداد كانت أقوى من قدرة الإمبراطورية في القرن الثالث، وكان من المستحيل عليها أن تصدهم إلى الأبد بسبب الضغوط والمشاغل التي كانت تؤرقها في أماكن أخرى. وقد سمح أولاً لبعض قبائل الراين بالإقامة في الأراضي الرومانية، حيث جندوا عندئذٍ للمساعدة في حماية الحدود من القادمين الجدد.
وبعد ذلك عبر القوط، وهي عائلة جرمانية أخرى من شعوب نهر الدانوب في عام 251 م وقتلوا إمبراطوراً في معركة، وبعد خمس سنوات عبرت شعوب الإفرنج نهر الرين وسرعان ما راحت مجموعة أخرى هي الألمان تغير حتى ميلانو جنوباً. وفي تلك الأثناء تابع القوط مسيرتهم إلى اليونان ثم راحوا يضايقون إيطاليا وآسيا الصغرى من البحر.
وكان هذا زمناً عصبياً بالنسبة لروما، فبينما كانت هجمات البرابرة مستمرة بدأت مرحلة جديدة من الحرب الأهلية والنزاعات على الخلاقة، وقد قتل عدد من أباطرة القرن الثالث على يد جنودهم، ومات أحدهم على يد القائد العام لقواته. ثم ذبح الغاليون هذا الأخير بعد أن وشى به أحد ضباطه. وحتى الناس البعيدون عن هذه الأحداث العنيفة أصابتهم الضرائب الباهظة والانحسار الاقتصادي والتضخم الفظيع، ولم يعد الوجهاء المحليون يرغبون بالخدمة في مجالس المدن أو في الإدارة لأن هذه المناصب صارت تعني أنهم سيجلبون على أنفسهم كراهية الشعب بسبب جبي تلك الضرائب، وكثيراً ما كانت ضرائب عينية جراء تفاقم الأزمة المالية. كما أن هناك علامات أخرى على التدهور هي إعادة بناء الأسوار الدفاعية حول المدن ، ولم تكن هناك حاجة لتلك الأسوار على عهد الأباطرة الأنطونيين، أما الآن فحتى أسوار روما قد تم ترميمها، كما بنيت في القرن الثاني تحصينات حول مدن لم تحصن من قبل قط.
ديوقليتيانس وقسطنطين
لقد تغير طالع روما في نهاية القرن الثاني عندما جاءتها سلسلة جديدة من الأباطرة الأكفاء، وكان أول من قلب التيار رجلاً من مقاطعة إليريا هو أورليانس الذي سماه مجلس الشعب تسمية تليق به هو محيي الإمبراطورية الرومانية، ولكنه اغتيل حين كان على وشك غزو فارس، إلا أن خلفاءه كانوا هم أيضاً عسكريون أكفاء مثله، فبعد عشر سنوات من موت أورليانس ارتقى العرش رجل آخر من إليريا هو ديوقليتيانوس، الذي أعاد صنع قوة الإمبراطورية القديمة ومجدها ظاهرياً على الأقل، كما أنه بدل طريقة عملها. وكان ديوقليتيانوس ذا أصول متواضعة وتفكير تقليدي جداً، وكان ينظر لدوره نظرة عالية جداً، فقد اتخذ اسم جوبيتر وهو رب الأرباب عند الرومان أي زفس عند الإغريق، ويبدو أنه كان يرى نفسه مثل إله يحمل العالم المتحضر بمفرده.
وحاول ديوقليتيانوس أن يقدم علاجات أكثر عملية لمشاكل الإمبراطورية، فجرب أن يضبط الأسعار والأجور من أجل إيقاف التضخم ولكنه محاولته هذه انتهت بكارثة. إلا أن أهم خطوة اتخذها كانت خطوة ربما لم ير هو نفسه نتائجها البعيدة، إذ أنه قد مهد الطريق أكثر من أي رجل آخر لتقسيم الإمبراطورية إلى كيانين شرقي وغربي سوف يسير كل منهما في سبيله. وقد تجادل الناس كثيراً حول ما إذا كانت هذه النتيجة حتمية أم لا. كانت روما قد صهرت جزءً كبيراً من إمبراطورية الاسكندر في الشرق المتهلّن بالعالم الإغريقي الغربي الذي لم يزره ذلك الفاتح الكبير قط، ولكن بقيت هناك دوماً فروق واضحة بين الاثنين، إلا أن الضغوط لم تظهر إلى أن تبدت مصاعب القرن الثالث. وبات من المستحيل معالجة مشاكل الغرب مع وجود الحاجة لموارد الشرق الغني ضد البرابرة والفرس. في عام 285 م جرب ديوقليتيانس أن يحل المشاكل عن طريق تقسيم الإمبراطورية على طول خط يمتد من الدانوب إلى دلماتيا*، وعين إمبراطوراً شريكاً له على النصف الغربي يحمل مثله لقب أوغسطس، وكان لكل منهما مساعد يعني كخليفة له ويسمى قيصراً. ثم تبعت ذلك تغيرات أخرى، فزالت سلطات مجلس الشيوخ القليلة الباقية، ولم تعد عضويته إلا لقباً فخرياً، كما قسمت المقاطعات السابقة إلى وحدات أصغر يحكمها رجال معينون من قبل الإمبراطور، وأعيد ترتيب الجيش ووسع كثيراً وأعيد التجنيد الإلزامي وسرعان ما صار هناك حوالي نصف مليون رجل جاهز للقتال.
ولاريب أن هذه الترتيبات قد حسنت الأوضاع لفترة من الزمن، ولكن كانت لها أيضاً نقاط ضعف. إن تلك الآلية التي أريد منها تأمين الخلافة السلسة لمنصبي أوغسطس لم تعمل إلا مرة واحدة عندما تنازل ديوقليتيانس وزميله عن العرش في عام 305 ، وانسحب إلى قصره الكبيرة في سبليت على ساحل كرواتيا التي مازالت آثاره تحيط بجزء كبيرة من المدينة الحالية هناك. لقد اقتضى كبر حجم الجيش فرض المزيد من الضرائب على سكان الإمبراطورية الذين تناقصت أعدادهم. ولكننا نرى على المدى البعيد أن خطوة عظيمة الأهمية قد اتخذت؛ فرغم أن خلفاء ديوقليتيانس لم يلتزموا بتقسيم الإمبراطورية حسب المخطط الذي وضعه، ورغم حصول محاولات أخرى لحكمها كوحدة واحدة، فإن كل إمبراطور في المستقبل كان مضطراً عملياً لتقيل مقدار كبير من الانقسام بين الشطرين.
وثمة جانب آخر من جوانب مجهود الإصلاح هذا، هو زيادة التشديد على سلطة الحاكم الفريدة والإلهية تقريباً، وهي في الحقيقة ناحية شرقية، وتدل على أن الناس لم يعودون يثقون بالإمبراطورية ثقة كاملة ولا يشعرون بالولاء لها كما في السابق، وسوف يكون هذا التطور على أهمية كبيرة لمستقبل المسيحية وفأل شر لتقاليد التسامح الديني للإغريقية الرومانية القديمة. لقد أعيد إحياء مسألة تقديم المسيحيين للقرابين للإمبراطور، وفي عام 303 م بدأ ديوقليتيانس آخر اضطهاد عام للمسيحية، ولكنه لم يدم طويلاً بعد تنازله عن العرش الذي حدث بعد ذلك بسنتين، ولو أنه استمر في مصر وآسيا فترة أطول بقليل منه في الغرب.
والمفارقة هي أن المسيحية كانت في ذلك الحين على عتبة أولى انتصاراتها العالمية الكبرى بفضل عمل الإمبراطور الذي يمكننا اعتباره أهمهم جميعاً، ألا وهو قسطنيطين الذي نادى به جيشه إمبراطوراً في مدينة يورك في إنكلترا عام 306 م والذي أعاد توحيد الإمبراطورية في عام 324م بعد عقدين من الحرب الأهلية. كان قسطنطين قد قرر أن يرى ما إذا كان إله المسيحيين سيساعده، وليس ثمة ما يدعو للشك بصدقه وإخلاصه الديني، إذ يبدو أنه كان دوماً يتوق لعبادة توحيدية وظل لزمن طويل يعبد إل الشمس الذي كانت عبادته مرتبطة بعبادة الإمبراطور. وفي عام 312 م تراءت له رؤيا عشية معركة هامة جعلته يأمر جنوده أن يضعوا على تروسهم حروفاً ترمز للمسيحية كطريقة لإظهار تبجيله لإله هذه الديانة. وقد ربح قسطنطين المعركة بالفعل، وسرعان ما شمل تسامح الإمبراطور وعطفه المسيحية، فراح يمنح الهبات للكنائس، ولو أن نقوده بقيت سنوات طويلة تحمل رمز الشمس، وبدأ يشارك في شؤونها الداخلية عن طريق التحكيم في الخلافات الكنسية الهامة عندما تطلب منه ذلك الأطراف المتنازعة، وإننا نشعر في أعماله بأنه يتحول رويداً رويداً نحو اعتناق المسيحية.
ومنذ عام 320 م لتعد الشمس تظهر على نقوده وصار على جنوده أن يحضروا المواكب الكنسية، وفي عام 321 م جعل يوم الأحد عطلة عامة، ولكنه قال إن هذا كان توقيراً لإله الشمس، كما بنى الكنائس وشجع معتنقي المسيحية عن طريق منحهم الجوائز والوظائف. وأخيراً أعلن أنه مسيحي، ولو أنه لم يتنكر رسمياً للديانات والعبادات القديمة قط ، ولم يتلق قسطنطين المعمودية إلا عندما كان على سرير الموت، مثل كثيرين من المسيحيين الاوائل. ولكنه في 325 م ترأس أول مجمع مسكوني للكنيسة في نيقيا، والمجمع المسكوني هو الذي يحضره الأساقفة من كافة أرجاء العالم المسيحي، فكانت هذه بداية التقليد الذي يمنح الأباطرة سلطة دينية خاصة والذي سوف يستمر حتى القرن السادس عشر. لقد ساهم قسطنطين أيضاً مساهمة أخرى كبيرة في المستقبل عندما قرر أن يجعل عاصمته في بيزنطية، وهي مستوطنة إغريقية قديمة عند مدخل البحر الأسود سوف تعرف بالقسطنطينية. وكان يرغب أن يبني هناك مدينة تضاهي روما نفسها، لكنها غير ملوثة بالديانة الوثنية، وسوف تظل القسطنطينية عاصمة إمبراطورية طوال ألف سنة ومركزاً للدبلوماسية الأوروبية لخمسمائة عام أخرى. إلا أن أعمق الآثار التي تركها قسطنطين في تشكيل المستقبل إنما هو جعل الإمبراطورية مسيحية، إذ إنه كان يؤسس أوروبا المسيحية من دون أن يعلم، وقد قبل بحق أنه يستحق لقبه أي قسطنطين الكبير بسبب أهمية أعماله لا بسبب دوافعه أو شخصيته.
كانت الأخطار الخارجية على الإمبراطورية الشرقية تبدو في أيام قسطنطين أقل منها على الإمبراطورية الغربية، وقد ساهمت أعماله في زيادة الانقسام الثقافي بين الشطرين. كان الشرق أغنى بالسكان وقادراً على إطعام نفسه وجمع كميات أكبر من الضرائب ومن المجندين، أما الغرب فقد صار أفقر وتراجعت مدنه وصار يعتمد على استيراد الحبوب من أفريقيا وجزر المتوسط، وأضحى في النهاية معتمداً على تجنيد البرابرة للدفاع عن نفسه؛ كما ازداد تألق القسطنطينية رويداً رويداً حتى صارت تضاهي روما بل تفوقها بهاء. والأهم من كل هذا أن المسيحية ساهمت في تشديد الانفصال بين منطقتين اثنتين، فأصبح هناك غرب يتحدث اللاتينية فيه جماعتان مسيحيتان كبيرتان إحداهما رومانية -يرأسها أسقف هو بابا روما- والأخرى أفريقية، وازداد ابتعادهما عن الكنائس الناطقة باليونانية في آسيا الصغرى وسوريا ومصر التي كانت كلها أكثر تقبلاً للتأثيرات الشرقية وأشد تأثراً بالتقاليد الهلنستية.
* منطقة ساحلية في كرواتيا على بحر الأدرياتيك
نهاية الإمبراطورية في الغرب
لقد حكم أبناء قسطنطين الإمبراطورية حتى عام 361، ولكنها سرعان ما تقسمت من جديد فصار يحكمها إمبراطوران شريكان، ولم ينضم الشرق والغرب بعدها تحت حكم رجل واحد إلا مرة واحدة. كان هذا الرجل هو الإمبراطور ثيودوسيوس، الذي منع أخيراً عبادة الآلهة الوثنية القديمة، فوضع بذلك وزن الإمبراطورية بأكمله في كفة المسيحية وانقطع عن الماضي الروماني القديم.
إلا أن الأمور في أيامه ما برحت تتدهور في الغرب بصورة متسارعة، إلى أن اختفت الإمبراطورية الغربية في عام 500.
ولم يحدث زلزال ويبتلع المجتمع فجأة، أي أن الدولة الرومانية لم تزل من الوجود، بل إن الذي اختفى هو جهازها في الشطر الغربي، أو بالأحرى ما بقي منه. في القرن الرابع كانت علامات التراجع واضحة في الإدارة الإمبراطورية الغربية، وازدادت المطالب على مواردها المتناقصة، ولم تحدث فتوحات جديدة يمكن أن تساعد في دفع تكاليف الدفاع عنها. ومع ارتفاع الضرائب صار الناس يغادرون المدن ويحاولون العيش في الأرياف حيث يمكنهم أن يكتفوا بذاتهم ويهربوا من الضرائب. إن نقص المال هذا قد أفقر الجيش فجعله أكثر اعتماداً على المرتزقة البرابرة، وكلف هذا الأمر الدولة المزيد من المال، كما أنها كانت مضطرة لتقديم التنازلات للبرابرة بينما كانت حدودها خاضعة لضغوط موجات جديدة منهم.
وفي الربع الأخير من القرن الرابع هجم شعب بدوي شديد الشراسة من آسيا هو شعب الهون على الشعوب القوطية التي كانت تعيش على ساحل البحر الأسود والقسم الأسفل من الدانوب وراء الحدود الرومانية، ورتبت الإمبراطورية الشرقية بصورة سلمية استقرار اللاجئين منهم ضمن حدودها، ولكن أحد تلك الشعوب وهم شعب الفيزيغوط -القوط الغربيون- انقلبوا على الرومان وقتلوا في عام 378 م إمبراطوراً في معركة أدريانوبل، وسرعان ما تدفق المزيد والمزيد منهم ضمن أراضي الإمبراطورية حتى صاروا مثل إسفين يفصل القسطنطينية عن الغرب. وبعد سنوات قليلة عادوا يتحركون من جديد ولكن نحو إيطاليا هذه المرة، وكان الذي أوقفهم قائداً عسكرياً فانداليا يعمل في خدمة الإمبراطورية، ومنذ عام 406 م صارت الإمبراطورية تستخدم قبائل البرابرة كحلفاء foederati وهي كلمة تدل على البرابرة الذين لا يمكن مقاومتهم ولكن يمكن إقناعهم بالمساعدة. وكان هذا أقصى ما بوسع الإمبراطورية الغربية أن تفعله لحماية نفسها، وسرعان ما تبين أنه لم يعد كافياً.
التواريخ الرئيسية في القرون الأخيرة من الإمبراطورية الغربية
212 م كركلا يمنح المواطنة لجميع سكان الإمبراطورية الأحرار تقريباً
249 م بداية أول اضطهاد عام للمسيحيين
285 م ديوقليتيانس ينظم الإمبراطورية في نظام جديد هو النظام الرباعي
313 م مرسوم ميلانو يعيد للمسيحيين أملاكهم وحرية العبادة
330 م تكريس القسطنطينية كعاصمة
376 م القوط يعبرون الدانوب
406 م الفاندال والسويف يعبرون الراين
409 م الفاندال والألان والسويف يغزون إسبانيا
410 م انسحاب الفيالق من بريطانيا، الغيزيغوط ينهبون روما
412-414 م الفيزيغوط يغزون غاليا وإسبانيا
420 م الجوت والأنكلوسكسون يرسون في بريطانيا
429-439 م الفاندال يغزون شمال أفريقيا ويفتحون قرطاجة
455 م الفاندال ينهبون روما
476 م خلع آخر إمبراطور في الغرب رومولس أوغسطولس
وراحت الشعوب البربرية تتجول على طول الغرب اللاتيني وعرضه، ففي عام 410 نهب القوط روما نفسها، وكان هذا حدثاً فظيعاً جعل القديس أوغسطينس وهو أسقف أفريقي وأعظم آباء الكنيسة يكتب كتاباً (وهو أحد تحف الأدب المسيحي) وهو مدينة الله*، لكي يشرح كيف يسمح الله بحدوث شيء كهذا. وأخيراً بلغ الفيزيغوط في تقدمهم أكيتانيا في جنوب غربي فرنسا، ثم توصلوا إلى تفاهم مع الإمبراطور الذي أقنعهم بمساعدته في معالجة أمر شعب بربري آخر هو شعب الفاندال الذي كان قد اكتسح إسبانيا في ذلك الحين. ودفع الفيزيغوط بالفاندال في النهاية عبر مضيق جبل طارق، فاستقر الفاندال في شمال أفريقيا حيث جعلوا عاصمتهم في قرطاجة التي أقاموا فيها، ومنها عبروا المتوسط في عام 455 م لينهبوا روما مرة ثانية.
ولكن رغم فظاعة هذه الغارة فإن ضياع أفريقيا كان هو المصيبة الكبرى لأن القاعدة الاقتصادية للإمبراطورية الغربية قد تقلصت وصارت محصورة بجزء من إيطاليا. ومن الصعب أن نقول متى انتهى الإمبراطورية الغربية بالتحديد، لأن ملامحها كانت تتلاشى رويداً رويداً وقد استمرت الأسماء والرموز فيها حتى النهاية. وعندما صد الهون أخيراً عن الغرب في معركة كبيرة قرب تروا وهي مدينة على نهر السين بفرنسا الحالية، في عام 451 م كان الجيش الروماني مؤلفاً من فيزيغوط وإفرنج وسلتيين وبرغنديين، وكلهم برابرة تحت قيادة ملك فيزيغوطي، وفي عام 476 م قتل رجل بربري آخر الإمبراطور الأخير في الغرب فمنحته الإمبراطورية لقب "نبيل" وكانت الإمبراطورية الغربية قد حل محلها عدد من الممالك الجرمانية، ولو بقيت بعض الأشياء رومانية في الظاهر، ويعتبر عام 476 عادة تاريخاً مناسباً لنهاية قصة الإمبراطورية التي بدأت على عهد أوغسطس. إلا أن التاريخ لا يعرف النهايات الواضحة البسيطة، وإن الكثيرين من البرابرة الذي كان بعضهم قد تعلموا على يد الرومان قد اعتبروا أنفسهم الأمناء الجدد على ما بقي من سلطة روما، وظلوا يعتبرون إمبراطور القسطنطينية سيدهم الأعلى.
* نشرته دار المشرق ببيروت 2002، ترجمه الخورأسقف يوحنا الحلو
أشياء تبدلت وأشياء استمرت
في نهاية القرن الخامس كان الكثير من البرابرة قد استقروا إلى جانب النبلاء القدامى في مقاطعات غاليا وإسبانيا وإيطاليا وتبنوا الأساليب الرومانية، بل إن بعضهم كان قد تنصر، ولم يقض البرابرة على الماضي الروماني إلا في الجزر البريطانية، لهذا لم تنته قصة الحضارة القديمة في عام 500 م بصرف النظر عما حل بالإمبراطورية. قبل قرون عديدة كان شاعر روماني قد قال عن إحدى فتوحات روما ”إن اليونان الأسيرة قد أسرت فاتحها الهمجي”، ويقصد بهذا وهو على حق أن الحضارة الإغريقية قد اسرت قلوب الرومان الذين استولوا عليها، وقد تكررت الصورة في الغرب عندما انهارت الإمبراطورية الرومانية على يد البرابرة. لذلك استمر تأثير الرومان في التاريخ، ومن خلالهم استمر أيضاً تأثير الإغريق واليهود، وسوف تكون هناك إمبراطورية رومانية مركزها مدينة بيزنطية طوال ألف عام تقريباً، وحتى في عام 1800 كان في أوروبا ثمة شيء اسمه الإمبراطورية الرومانية المقدسة. بل مازال رجال الدين المسيحيون اليوم يرتدون لباساً مأخوذاً من لباس نبلاء الرومان في القرن الثاني الميلادي، ومازالت باريس ولندس وإكستر وكولونيا – كولن- وميلانو وعشرات غيرها من المدن مراكز هامة للسكان مثلما كانت في الأزمنة الرومانية. ولو أنها مرت بقرون ذوى فيها ازدهارها عما كان عليه على عهد الأباطرة الأنطونيين. ومازال قسم كبير من خارطة أوروبا على الشكل الذي رسمه الرومان عندما وضعوا حامياتهم وبنوا طرقهم، وكثيراً ما كانت مستوطناتهم تزيد من تأثير التقسيمات الطبيعية.
ولكن ربما كانت الاستمرارية أوضح اليوم في الأمور غير المادية، وأهم هذه الأمور وأولها هي اللغة، لأن اللغات الأوروبية غنية جداً بالكلمات المأخوذة عن اليونانية واللاتينية، وهما اللغتان اللتان أتى بهما الكتاب المقدس إلى أوروبا للمرة الأولى. كما أن الطرائق التي نستخدمها في حساب الوقت وتقسيمه إنما أتتنا من العالم الإغريقي الروماني، لأن يوليوس قيصر هو الذي تبنى اقتراح رجل إغريقي من الإسكندرية بأن السنة المصرية المؤلفة من 365 يوم مع إضافة يوم واحد كل أربع سنوات هي أفضل من التقويم الروماني التقليدي المعقد، وعلى عهد قسطنطين صارت الفكرة اليهودية عن يوم راحة sabbeth كل سبعة أيام فكرة مقبولة. كما أننا ندين بالطبع للمسيحيين الأوائل بتقسيم التاريخ إلى ماقبل الميلاد وما بعده، وهو تقسيم مازال كل العالم المسيحي وأكثر العالم غير المسيحي يستخدمه اليوم، فبعد عام 500 بقليل قام راهب بحساب تاريخ ميلاد المسيح وأخطأ فيه بمقدار بضع سنوات، ولكن حكمه مازال إلى اليوم أساس التقويم الذي نستخدمه، ويمكنك أن تجد أمثلة لاحصر لها في الرياضيات الإغريقية والقانون الروماني واللاهوت المسيحي وغيرها من المجالات عن أفكار ورثناها من العصور القديمة ومازال لها تأثير تاريخي كبير حتى يومنا هذا. عندما صار الناس في عصور لاحقة ينظرون إلى الماضي أدهشتهم كثرة الأشياء التي يدينون بها للحضارة التي أنتجتهم، فوجدوا فيها الإلهام والوحي، كما وجدوا فيها المحك لتقييم أعمالهم، ولو أن الأوروبيين قد بالغوا أحياناً في إنجازات الإغريق والرومان، وإن لدى أكثر الحضارات عصوراً كلاسيكية تأخذ عنها المعايير التي تقيم بها إنجازاتها اللاحقة. ولقد صارت العصور الكلاسيكية أسطورة عما تستطيع الحضارة الإتيان به وعما ينبغي على الناس أن يفعلوه، ولهذا السبب ما برح الناس اليوم يسيرون بين آثار هذا الماضي العظيم مثل أجدادهم في العصور الوسطى. ومابرح يفتنهم.