كان الرومان يحبون أن يهنئوا أنفسهم على اتباعهم ما يسمونه mos maiorum وهي عبارة لاتينية يمكن ترجمتها بأساليب أجدادنا. وكانوا يبدون ولعاً دائماً بالتقاليد ويحبون الحفاظ على الأساليب القديمة في أداء الأمور، وكانت الديانة الرومانية بالدرجة الأولى عبارة عن المحافظة على الاحتفالات التقليدية وأدائها بالصورة اللائقة. وحتى عندما يفعل الرومان شيئاً جديداً كان يحبون أن يكسوه بثوب قديم، ومن نتائج ذلك أن أسماء مؤسسات الجمهورية وفكرة أن الدولة جمهورية وليست ملكية قد ظلت تستخدم بعد أن فرغت من محتواها بزمن طويل.
والمواطنة الرومانية مثال على ذلك. فقد كان المواطنون الأوائل كلهم رجالاً، وكانوا فلاحين في جميع الحالات تقريباً، وكان لهم حق التصويت والحصول على العدالة أمام المحاكم وواجب الخدمة في الجيش. ثم حصلت ثلاث تغيرات هامة مع مرور القرن: أولها حقوق المواطنة صارت تمنح بالتدريج لأناس كثيرين خارج أراضي روما الأصلية. وثانيها أن الحروب الفونية أفقرت الفلاح الإيطالي، فقد صارت الجندية تبعد الجنود الرومان عن بيوتهم وعائلاتهم فترات أطول فتقع فريسة للفقر، كما أن الحروب خربت الريف الإيطالي تخريباً فظيعاً، وعندما عاد السلام أخيراً كان أصحاب الأراضي الصغيرة عاجزين عن تأمين معيشتهم هناك. ومن ناحية أخرى كان رجال آخرون قد جمعوا ثروات طائلة خلال تلك الحروب، فراحوا يشترون الأراضي لزراعتها ضمن أملاك كبيرة، وكانوا أحياناً يستخدمون العبيد وهم جزء من غنائم الفتوحات، للعمل فيها. فبات المواطن الفلاح يميل للانتقال إلى المدينة بحثاً عن معيشته، ويتحول إلى ما يسميه الرومان "بروليتاريا" أي رجلاً تنحصر مساهمته في الدولة بإنجاب الأطفال. وقد أثر هذان التغيران على السياسة، لأن تلك الأعداد المتزايدة من المواطنين الفقراء هي أصوات انتخابية يمكن شراؤها أو تملقها أو ترهيبها على يد السياسيين المتلهفين للوصول إلى مناصب تتيح لهم الحصول على الغنائم الثمينة التي تؤمنها الفتوحات في الخارج.
وهناك تغير ثالث في وضع المواطن نشأ من الحرب أيضاً، هو أن الجندية باتت مهنة احترافية دائمة بدلاً من أن تعتمد على مواطنين يسلحون ويجندون عند الأزمات الطارئة. ومن معالم هذا التطور أن ملكية الأرض لم تعد شرطاً للخدمة العسكرية، وكانت القوة البشرية التي يستمد منها الجيش أفراده تتقلص بالتدريج، لهذا أتيح لمن لا أملاك لهم أن يخدموا فيه، فتوفرت عندئذٍ أعداد كافية من المتطوعين من بين الفقراء المستعدين للخدمة مقابل أجر، ولم يعد التجنيد الإلزامي ضرورياً. صحيح أن المواطنة شرطاً للخدمة العسكرية في البدء، ولكن في النهاية سمح لغير المواطنين بالانخراط في الجيش أيضاً، وأخيراً صاروا ينالون حقوق المواطنة مكافأة لهم على خدمتهم.
وبالتدريج انفصل الجيش الروماني بهذه الطريقة عن الجمهورية، فصارت الفيالق المشهورة التي يتألف منها تنظيمات دائمة، وازداد شعور جنودها بالولاء لرفاقهم وقادتهم، ومنذ القرن الأول ق.م كان كل فيلق يحمل رمز العقاب على راية ترمز إلى شرف الفيلق واتحاده، وهو مزيج من الوثن الديني والشارة العسكرية.
كانوا المواطنون يزدادون فقراً إذاً وصارت أصواتهم تشترى، كما أتيح للسياسيين أن يفوزوا بثروات هائلة بالأراضي الجديدة إذ عينوا فيها حكاماً أو قادة عسكريين، وأضحى الجيش قوة لا تقهر تقريباً في ميدان القتال، وبات ولاءه لذاته وقواده أكبر منه لمجلس الشيوخ. وكانت هذه كلها تطورات سياسية بطيئة ولكن حاسمة، وقد استمرت حوالي قرنين مبدلة من طبيعة الجمهورية ولو بقيت المظاهر الخارجية على حالها. في تلك الأثناء كانت روما تزداد غنى بصورة واضحة، ولم يقتصر هذا على الغنائم والعبيد المتوفرة نتيجة الفتوحات للأفراد القلائل الذين كانوا في المكان المناسب في الوقت المناسب، بل إن المواطنين الفقراء استفادوا أيضاً بصورة غير مباشرة، لأن فرض الضرائب على المقاطعات الجديدة قد أعفاهم من دفع ضرائبهم. وكانت تقام ألعاب مكلفة لتسليتهم، كما بذل بعض الثروة الجديدة في تجميل روما وغيرها من المدن الإيطالية، وكانت تظهر تغيرات أخرى في تلك المدن مع زيادة الاتصال بالشرق، خاصة في المدن الإغريقية التي كان المثقفون الرومان يربون أصلاً على احترامها كجذور لثقافتهم. ومع اتساع عملية التهلن وصلت إلى الغرب عادات ومعايير جديدة تظهر في الأشياء اليومية مثلما تظهر في الفن والحياة الفكرية، فقد يبدو شغف الرومان بالاستحمام مثلاً واحداً من أكثر الأشياء المميزة لهم، ولكن الحقيقة أنهم تعلموا هذه العادة من الشرق الهلنستي.