يقبل أكثر علماء البيولوجيا اليوم شكلاً من أشكال نظرية تفسر التطور "بالاصطفاء الطبيعي"، ويتفق الكثيرون منهم – ولكن ليس كلهم – على أن التطور يعمل من خلال البيئة، بحيث تشجع بيئة معينة بينما تعيق بقاء سلالات أخرى. ثم تنتقل تلك الرسائل الجينية التي بقيت إلى الجيل الثاني، أما الأخرى فلا تنتقل لأن البيئة تستأصلها قبل انتقال الميراث الجيني. فهناك مثلاً آليات معينة لحفظ حرارة الجسم في بعض الأنواع تسمح لها بالاستمرار في العيش ضمن المناخ البارد –كما هي حال البطريق- أما الأنواع الأخرى التي لا تمتلك تلك الآليات فإنها لا تقدر على العيش في ذلك المناخ، لا تجدها إلا خارجها، هذا إذا وجدت أصلاً.
قد يبدو هذا الأمر بعيداً عن قصة البشرية، ولكنه ضروري لفهم جذور قصتنا الكامنة في الماضي السحيق. لقد بقي التطور البيولوجي زمناً طويلاً يسير ببطء عجيب ضمن الإمكانيات التي تتيحها البيئات المختلفة للمتعضّيات ثم للحيوانات المختلفة. وكان العامل الحاسم في توفير تلك البيئات المختلفة هو المناخ. فمنذ حوالي أربعين مليون سنة بدأت نهاية حقبة مناخية طويلة كانت موائمة للزواحف الكبيرة، وأشهرها الديناصورات. كان العالم يبرد عندئذٍ ، وراحت الظروف المناخية الجديدة تقلص بيئة تلك الزواحف الكبيرة التي أدت في النهاية إلى اختفائها – ويعتقد البعض أن هناك عوامل أخرى غير المناخ قد لعبت دورها أيضاً – إلا أن الظروف الجديدة كانت ملائمة لسلالات أخرى من الحيوانات كانت موجودة من قبل، ومنها ثدييات كان أجدادها الصغار جداً قد ظهروا قبل ذلك بحوالي مائتي مليون سنة. لقد ورثت تلك الثدييات الأرض أو جزءاً كبيراً منها، ثم مرت سلالاتها بتطور فيه الكثير من الانقطاع وحوادث الاصطفاء، حتى تطورت إلى عائلات الثدييات التي تعيش اليوم، ومنها عائلتنا.
ولكن هذه لم تكن نهاية قصة المناخ كعامل انتقاء في التطور، بل بقيت تحدث تقلبات عظيمة في درجات الحرارة، ولو أنها كانت تستغرق مئات آلاف بل ملايين السنين لكي تأخذ كامل مجراها. لقد مرت الأرض بدرجات قصوى من التجمد من ناحية والجفاف من ناحية أخرى. قضت على بعض خطوط التطور الممكنة، في حين ظهرت بالمقابل في أزمنة وأمكنة غيرها ظروف موائمة سمحت لبعض الأنواع بالازدهار وشجعت انتشارها في مواطن جديدة. كانت تلك عملية طويلة للغاية، وكان المناخ يهيئ خلالها خشبة المسرح لتاريخ البشرية، حتى قبل ظهور الكائنات التي سوف يتطور منها البشر، وكان يشكل عبر الاصطفاء الميراث الجيني النهائي للبشرية نفسها.
منذ حوالي خمس وخمسين مليون سنة كانت الثدييات البدائية على نوعين أساسيين: أحدهما يشبه القوارض وقد بقي على الأرض، في حين سكن النوع الآخر الأشجار، وبذلك انخفض التنافس بين العائلتين على موارد الطبيعة. ثم استمرت سلالات من كل منهما لتصبح في النهاية الكائنات التي نعرفها اليوم.
تسمى المجموعة الثانية الآن اللّيموريّات prosimians ونحن من بين أحفادها، لأنها كانت أجداد الرئيسات الأولى* . إن السلالات التي بقيت في المرحلة التالية من تطور الليموريات هي السلالات الجينية الأكثر ملائمة لتحديات الغابة ومخاطرها.
من فصيلة الليموريات
كانت الغابة بيئة خطرة قد لا تنفذ أشعة الشمس إليها إلا قليلاً، لذلك صار للتعلم أهمية قصوى، وقد زالت السلالات المعرضة للحوادث في تلك الظروف، بينما استمرت تلك التي استطاع ميراثها الجيني أن يستجيب ويتأقلم مع أخطار الظلام الدامس والأشكال الغامضة وصعوبة التثبت بالأيدي.
من تلك الأجناس التي ازدهرت – من الناحية الوراثية- أنواع ذوات أصابع طويلة سوف تتطور إلى الأصابع التي نعرفها، وإلى الإبهام الذي يستطيع مقابلة الأصابع الأخرى فيسهل الإمساك بالأغصان، ثم بالأدوات في مرحلة لاحقة. وتطورت أنواع غيرها نحو الرؤية الثلاثية الأبعاد وتراجع حاسة الشم وشكل الوجه القريب من الشكل البشري. ولا حاجة بنا هنا إلى تتبع تفاصيل هذه القصة أكثر من هذا، فهي في غاية التعقيد ومازالت موضع أخذ ورد بين المختصين، ولكنها الخلفية الضرورية لفهم إحدى نتائج التطور، ألا وهي ظهور الفرع الأساسي من عائلة الرئيسات الذي ينتمي إليه البشر، أي فرع البشريات.