لقد غير استخدام المعادن عالم البشر على المدى الطويل، بقدر ما غيرته الزراعة تقريباً. إلا أن هذا التغيير حدث ببطء وهو أصعب على التحديد، إذ كان لابد من حدوث أشياء كثيرة قبل الشعور بتأثيراته الكاملة. وقد بقيت الخامات قليلة لزمن طويل، عندما اكتشف الناس كيف يعالجونها، وكان استخدام المعادن في مراحله الباكرة قليلاً ومتفرقاً ولم يكن ذا تأثير كبير. بالرغم من هذا تقع آثاره الأبكر ضمن الحقبة النيوليتية.
كان النحاس أول معدن استغله الإنسان، وقد حدث هذا بين عامي 7000 و 6000 ق.م في موقع الأناضول، حيث كان من السهل إيجاد خاماته، كما أنه ظهر في قبرص وبعض جزر إيجة، وتبين الدلائل انتشار استخدام النحاس رويداً رويداً نحو الغرب إلى حوض المتوسط، ثم إلى إيطاليا وهنغاريا على البر الرئيسي، بالإضافة إلى الجزر البريطانية. في المراحل الباكرة كان النحاس يشغل بعملية التطريق، ولم يكن هذا ممكناً إلا بالخامات النقية جداً، وكانت الخطوة التالية هي سبكه، أي تسخينه إلى أن يصبح سائلاً ثم صبه في قوالب. وأخيراً اكتشف الناس أن الخامات المشوية يمكن تحسينها بالحرارة أيضاً، من أجل الحصول على معدن أنقى، وعندما صارت هذه العمليات معروفة وضع للتعدين نمطه الأساسي الذي سوف يستمر لآلاف السنين. وقد تابع التطور طريقه باكتشاف مصادر جديدة للخامات، وإجراء التجارب عليها، واكتشاف معادن مختلفة وتخصيص استعمالها لأغراض معينة، والحصول على درجات حرارة أعلى لشغلها وتنقيتها، وبمزج المعادن أيضاً للحصول على معادن صنعية أي ما نسميه اليوم سبائك. ويبدو أن أول سبيكة كانت البرونز، وهو مزيج من القصدير والنحاس، ويكفي مزج مثل واحد من القصدير مع عشرة أمثال من النحاس للحصول على نوع جيد منه. كان البرونز على درجة عظيمة من الأهمية، ومن هنا أتت تسمية عصر البرونز. لقد بقي الناس يعتقدون لزمن طويل أنه صنع واستخدم للمرة الأولى في بلاد الرافدين قبل عام 3000 ق.م بقليل، وكان من المعروف أنه كان يصنع في الصين بعد ذلك بحوالي ألف سنة. ولكن أشياء مصنوعة من البرونز في شمال شرق تايلاند قد أُرّخت مؤخراً بعام 3600 ق.م، أي أنها أبكر ما اكتشف في العالم. وما زلنا بحاجة إلى أدلة أكثر قبل أن يتفق العلماء على تحديد أول مجتمع قديم استخدم البرونز، ولكن النقطة الأساسية هي أن عصر البرونز كان مرحلة في تطور المجتمع البشري تمكن فيها الإنسان من تلبية حاجاته الأساسية للمعادن عن طريق هذا المعدن المزيج. إن البرونز معدن أفضل بكثير من النحاس، إذ يمكن أن تصنع منه شفرات أكثر حدة بكثير وأطول عمراً، أما النحاس فهو أضعف حتى من الصوان من هذه الناحية، ويمكن سبكه في قوالب بسهولة أكبر، وبالتالي صنع أشكال أكثر تنوعاً. وقد أضفى اكتشافه بالطبع أهمية على أماكن وجود القصدير أيضاً، والتي كانت أحياناً في مناطق توضع النحاس نفسها.
أدوات برونزية وحديدية
إننا لا نعلم كيف حدث هذا التطور، ولكن ربما لاحظ بعضهم أن النحاس عندما يترك في فرن الخزف يذوب، ويمكن بالتالي صبه في قوالب. تتطور التقنية دوماً بفضل نتائج جانبية، أي أن نتائج ثانوية لتطور ما تصبح خطوات أساسية في تطور آخر، فمقالي الطبخ الحديث الذي لا يلتصق الطعام بها مثلاً قد صنعت بالاستفادة من المعرفة بالمواد المقاومة للحرارة والناتجة عن بناء صواريخ الفضاء.وعندما تلاحظ نتائج ثانوية ما يبدأ الخبراء بإجراء التجارب عليها، فتعطي هذه التجارب نتائج جانبية أخرى. لقد قال بعض العلماء مؤخراً إن عملية تنقية الخامات المعدنية لم تكتشف بطريق المصادفة، بل كانت نتيجة ما نسميه اليوم أبحاثاً وتجارب مقصودة، فإذا كان الأمر صحيحاً فهو دليل واضح على أن البشر كانوا صانعي تغيير بصورة مقصودة منذ العصر النيوليتي.
لقد اكتشف الذهب أيضاً واستخدم منذ زمن باكر، والأرجح أنه كان يوجد في العالم القديم بشكل توضّعات قريبة من سطح الأرض، فكان الحصول عليه أسهل منه في أزمنة لاحقة، لكن استخدامه ظل محصوراً بأمور الزينة تقريباً، بعكس النحاس الذي استفيد منه لصنع الأسلحة والأدوات عدا عن صنع أغراض الزينة، ولم يكن هذا الأمر ممكناً باستخدام الذهب. وحتى البرونز نفسه كان أقل أهمية للأسلحة والأدوات من معدن الحديد. في الحقيقة أن استغلال الحديد يدخل في حقبة التاريخ وليس ما قبل التاريخ، لأنه لم يظهر إلا بعد أن كانت الحضارات الأولى قد ثبتت أقدامها، كما أن استعماله لم ينتشر بشكل واسع إلا بعد عام 1000 ق.م، أي في زمن متأخر جداً. لقد عاش جميع مستخدمي الحديد بعد بداية الحضارة ولو لم يكونوا متحضرين، أي أنهم عاشوا في الحقبة التي نعتبرها عادة حقبة التاريخ وليس ما قبل التاريخ. ولكن من المنطقي أن نتناول موضوع الحديد هنا، لأن قدومه هو فعلاً تتمة قصة التعدين في الأزمنة الباكرة، كما أن علماء ما قبل التاريخ مازالوا يتحدثون عن "عصر الحديد" و ثقافات عصر الحديد وهي تعابير لا تدل على حقبة معينة من الزمن، بل على مرحلة من الثقافة المادية. ويمكننا اعتبار عصر الحديد ذروة الحقبة النيوليتية ونهايتها معاً، ولو أن الشعوب التي تستخدمه قد عاشت لزمن طويل إلى جانب شعوب أخرى لا تستخدم إلا الأدوات الحجرية.
يتفق أكثر العلماء على أن شغل الحديد قد ابتدأ في آسيا الصغرى، مثل شغل النحاس، ولكن هناك اختلافات كثيرة حول تحديد ذلك المكان. لا ريب أن بداية شغل الحديد في هذا الجزء من العالم تفسر بتوفر خاماته المعدنية، فضلاً عن تنامي خبرة شغل المعادن الأخرى. إن تنقية الحديد تحتاج إلى حرارة أعلى بكثير من النحاس، وكان الناس في الأناضول يعرفون أفراناً حرارتها عالية تكفي لصنع الفخار عن طريق إشعالها بالفحم النباتي ونفخ الهواء فيها. ولكنهم مع هذا لم يستطيعوا الوصول إلى حرارة كافية لصب الحديد في قوالب، مثلما كانوا يفعلون بالنحاس والبرونز، لهذا بقي شغل هذا المعدن لزمن طويل مقتصراً على عملية التطريق دون السبك. لقد انتشر صنع الحديد انتشاراً سريعاً، هناك شعب أوروبي سمي لاحقاً الشعب السلتي كان من أفضل شاغلي الحديد، وكان السلتيون ماهرين في شغل البرونز أيضاً، ولو أن الصينيين احتفظوا باللقب لزمن طويل، ولكن استخدام الحديد كان معروفاً قبل ذلك في مناطق كثيرة، وأول شعب استخدمه بشكل كبير هو شعب الأناضول اسمه الشعب الحثي. كان الحثيون يحكمون إمبراطورية كبيرة في الشرق الأدنى في حوالي عام 1500 ق.م، أظهروا أن النصر العسكري أيسر بكثير لمن يمتلك الأسلحة الحديدية، لأن السيف الحديدي أقوى بكثير من السيف البرونزي، فما بالك الخنجر النحاسي أو الفأس الحجرية.
إلا أن تأثير الحديد في تغيير التاريخ كان أكبر من خلال استخدامه في الزراعة، فالأدوات الحديدية أفضل من أية أدوات أخرى لحراثة الأرض، لأنها مكنت من الحفر بصورة أسهل وأعمق، فأمنت بالتالي كميات أكبر من الطعام، ونتجت عن ذلك محاصيل أفضل. كما أمكن زراعة نباتات أعمق جذوراً، وصار قطع الأشجار أسهل أيضاً. ولكن تأثير الحديد بقي لزمن طويل بطيئاً جداً كما كان غالياً جداً، وقد ظلت المحاريث الخشبية هي السائدة في روسيا لمئة سنة خلت، ومازالت الملايين منها تعمل في كافة أنحاء العالم اليوم.
وتغير شغل الخشب أيضاً بفعل المعادن، كانت الأدوات النحاسية والبرونزية قد مكنت من شغل الخشب على مستوى يجوز لنا أن نسميه "نجارة"، بينما سار به الحديد خطوة أخرى إلى الأمام. لقد أمن الحديد للناس أغراضاً أكثر للاستعمال والمتعة، وزاد من إمكانية التخصص في المهارات المختلفة. كانت أهمية المناطق الحاوية على خامات المعادن تزداد بشكل مستمر، وعندما نصل إلى عصر الحضارة يصبح بر أوروبا أكثر أهمية للعالم الخارجي من أي وقت مضى بسبب ذلك، ويزداد اهتمام الغرباء بها. لقد بقيت الشعوب الأوروبية لزمن طويل شعوباً متخلفة بالقياس إلى الشعوب الأخرى، ولكن قارتهم كانت غنية بخامات يسهل استخراجها وغابات كثيفة خلّفها تراجع الجليد يمكنها أن تؤمن الوقود. وكان المنقبون من الشرق الأدنى قد بدؤوا يبحثون عن المعادن في أوروبا قبل عام 3000 ق.م بزمن طويل، وبعد ألف سنة سوف تكون فيها مناطق عديدة مختصة بالتعدين، خاصة في إسبانيا واليونان ووسط إيطاليا، وسرعان ما ستصبح أوروبا منطقة تصنيع كبرى عدا عن كونها منتجة للخامات. وقد كان للتعدين بعض التأثيرات البيئية الضارة أيضاً، إذ يبدو أن استنفاذ الخشب لم يبدأ بإزالة الأشجار من أجل الزراعة، بل بقطعها من أجل الحصول على الفحم اللازم لصهر المعادن. ولكن هذه القصة تصل بنا إلى مرحلة متقدمة جداً بالنسبة لعصر ما قبل التاريخ، وهي بداية موضوع هائل، هي قصة صعود أوروبا رويداً رويداً حتى صارت في النهاية مسيطرة على العالم بفضل استغلال مواردها المعدنية والتقنية.