كانت التغيرات في الولايات المتحدة أسهل على التقييم، لم يكن ثمة شلك في النمو المتزايد لقوة أمريكا وثروتها، ومنذ أواسط الخمسينيات كانت تنتج أكثر من نصف البضائع المصنعة في العالم.
وقد تجاوز عدد سكانها الـ200 مليون في عام 1968، ولم يكن إلا واحد من كل عشرين أمريكياً مولوداً خارجها ولو أن القلق من الهجرة الهائلة للمتحدثين بالإسبانية من المكسيك ومنطقة الكاريبي سوف يبدأ خلال السنوات العشر التالية، وكان أعداد الأمريكيين الذين يعيشون في المدن وضواحيها أكبر من أي زمن مضى، كما كانوا يعيشون حياة أطولـ وارتفع احتمال أن يموتوا من أحد أنواع السرطان بمقدار ثلاث مرات منذ عام 1900، والمفارقة أن هذا الارتفاع يعتبر علامة أكيدة على تحسن الصحة العامة إذ يشير إلى السيطرة على الأمراض الأخرى.
ولم يعد ثمة شك في عام 1970 في قدرة الجمهورية على دعم قوتها العسكرية الهائلة التي ترتكز عليها سلطة أمريكا العالمية، ولو كانت هناك شكوك كثيرة حول طريقة استخدام تلك السلطة.
ورغم تغير رؤساء الجمهورية استمرت أهمية الحكومة بل ازدادت كزبون أول للاقتصاد الأمريكي، وكان الإنفاق الحكومي محفزاً أساسياً للاقتصاد يحبط دوماً آمال تحقيق ميزانية متوازنة وإدارة قليلة التكاليف.
كانت الولايات المتحدة بلداً ديمقراطياً وتقدمت فيها دولة الرفاهة رويداً رويداً لأن الناخبين كانوا يريدون ذلك، وقد ساهم هذا في إطالة عمر ائتلاف الحزب الديمقراطي، صحيح أن رئيسين جمهوريين قد انتخبا في عامي 1952 و1968 بسبب إنهاك الناس من الحرب، إلا أن اياً منهما لم يتمكن من إقناع الأمريكيين بانتخاب كونغرس جمهوري أيضاً.
ولكن من ناحية أخرى كانت علامات التوتر بادية في الكتلة الديمقراطية قبل عام 1960 قد اجتذب ايزنهاور الكثير من ناخبي الجنوب، وبحلول عام 1970 كان قد ظهر مايشبه حزباً محافظاً وطنياً تحت راية الحزب الجمهورية، فكانت تلك بداية زوال حقيقة ظلت ثابتة في الحياة السياسية منذ الحرب الأهلية، هي تصويت الجنوب المستمر للحزب الديمقراطي وبنسبة راجحة أيضاً.
المشكلة العرقية في أمريكا
لقد انتخب الرئيس كيندي بهامش قابل للجدل من أصوات الناخبين في عام 1960، وأتى انتخابه في البداية بشعور كبير بالتحديد، والحقيقة أن السنوات الثماني من الحكم الديمقراطي الجديد بعد عام 1961 سوف تأتي بتغيرات كبيرة في الولايات المتحدة في الشؤون الخارجية والداخلية على السواء، ولو أنها لم تكن التغيرات التي ارتآها كندي أو نائبه ليندن جونسون عندما استلما منصبيهما.
إحدى تلك التغيرات هي حالة المواطنين السود، ففي عام 1960 أي بعد قرن كامل من التحرر من العبودية بقي السود في أمريكا ومازالوا أكثر فقراً وبطالة واعتماداً على معونات الدولة من البيض، كما ظلت مساكنهم وصحتهم أقل جودة منهم.
وقد كانت هذه السابق مشكلة محلية وجنوبية، ولكنها تحولت إلى مشكلة وطنية بسبب الهجرة، فبين عامي 1940 و 1960، ارتفع عدد السكان السود في الولايات الشمالية بمقدار ثلاثة أمثال تقريباً، وأصبح التجمع الأكبر لهم في ولاية نيويورك. وبات من الواضح أيضاً أن المشكلة لم تكن مشكلة حقوق قانونية ودستورية فحسب، بل كانت مشكلة حرمان اقتصادي وثقافي.
وفي هذه الأثناء كان العالم الخارجي قد تغير، وكانت كثير من الدول الجديدة التي أصبحت أغلبية في الأمم المتحدة مكونة من شعوب ملونة، كما أن الدعاية السياسية الشيوعية كانت تعرف كيف تستفيد من محنة السود في أمريكا.
لاريب أن الوضعية القانونية والسياسية للسود قد تبدلت تبدلاً جذرياً نحو الأفضل، وكان الصراع من أجل الحقوق المدنية قد ابتدأ في الخمسينيات، وأهم تلك الحقوق هو القدرة على ممارسة حق التصويت من دون عقبات، وكان هذا الأمر متوفراً دوماً بصورة شكلية ولكن ليس بصورة عملية في بعض ولايات الجنوب، وقد حكمت المحكمة العليا بأن الفصل العرفي في المدارس العامة أمر مخالف للدستور ويجب إنهاؤه حيث وجد ضمن فترة معقولة، فوسعت هذه القرارات الموضوع وصارت خطراً على التقاليد الاجتماعية في الكثير من الولايات الجنوبية، ولكن بحلول عام 1963 كان الأطفال السود والبيض يذهبون إلى بعض المدارس العامة معاً في كل ولاية من ولايات الاتحاد، ولو أن الاندماج مازال بعيداً عن الاكتمال.
واستهل كيندي أيضاً برنامجاً من الإجراءات بلغ بها خليفته مرحلة النضج التي تجاوزت موضوع التصويت إلى مهاجمة التمييز والحرمان بمختلف أنواعه. إلا أن التشريعات بدت عاجزة عن تخفيف الفقر والاستياء المترسخين بين السود، فانفجرت هذه المظالم بشكل أحداث شغب وحرق متعمد فيما سمي أحياء الغيتو في المدن الأمريكية الكبرى في أواخر الستينيات لقد كانت هذه المناطق تتصف بالفقر وببيوتها ومدارسها التعيسة، وكانت هذه علامات على وجود خلل عميق ضمن المجتمع الأمريكي، كما ازدادت بشاعة هذا الظلم بتأثير الغنى المتزايد الذي كان يحيط به.
وقد بذل ليندن جونسون جهوداً أكبر حتى من جهود كيندي لإزالتها، وهو الذي خلفه في الرئاسة عندما اغتيل في عام 1963، لقد كان جونسون مؤمناً بالمجتمع العظيم الذي كان يدعو إليه ويرى فيه مستقبل أمريكا، وربما كان واحداً من أعظم الرؤساء المصلحين في أمريكا، ولكنه تعرض لفشل مأساوي لأن الحرب الكارثية في آسيا قد طغت على فترة رئاسته
أمريكا 1961
السياسة الأمريكية في آسيا
كانت السياسة الأمريكية في جنوب شرق آسيا تفترض أن الهند الصينية ضرورية لضمان الأمن في الحرب الباردة، وأنه لابد من الاحتفاظ بجنوب فيتنام في المعسكر الغربي كيلا تنقلب على الغرب دول أخرى حتى البعيدة منها مثل الهند وأستراليا.
وكان الرئيس كيندي قد بدأ بدعم المساعدات العسكرية الأمريكية بواسطة مستشارين، وقد بلغ عددهم 23.000 في جنوب فيتنام عندما توفي، وكان الكثيرون منهم منخرطين في القتال في ساحة المعركة، وسار الرئيس جونسون على نفس النهج، إذ كان يؤمن بضرورة أن يبين سلامة التعهدات الأمريكية.
ولكن الحكومات المتتالية في سايغون كانت ضعيفة لايعتمد عليها وفي بداية عام 1965 نصح جونسون بأن جنوب فيتنام قد ينهار ما لم تقدم أمريكا مساعدة إضافية، وسرعان ما أرسلت أولى وحدات القتال الأمريكية إلى هناك بصورة رسمية.
وهكذا خرجت المشاركة الأمريكية في الحرب عن السيطرة، وبحلول عيد الميلاد عام 1968، كان وزن القنابل التي ألقيت على شمال فيتنام أكبر من وزن ما ألقي على ألمانيا واليابان معاً خلال الحرب العالمية الثانية كلها، كما كان عدد القوات الأمريكية التي تخدم في الجنوب قد تجاوز 500.000 رجل.
وكانت النتيجة كارثة شاملة، فقد خربت تكاليف الحرب الباهظة ميزانية المدفوعات الأمريكية واستهلكت الأموال التي كانت الحاجة ماسة إليها في مشاريع الإصلاح الداخلية، وتعالت صيحات الاحتجاج المريرة داخلياً مع ارتفاع أعداد الضحايا وفشل محاولات التفاوض في الوصول إلى أي نتيجة.وازداد الحقد وازداد معه خوف العناصر المحافظة في أمريكا.
ولم يقتصر الغضب على الشباب الذين كانوا يتظاهرون احتجاجاً وارتياباً بحكومتهم، أو على المحافظين الغاضبين الذين روعتهم الحالات المتكررة من تدنيس الرموز الوطنية والتهرب من الخدمة العسكرية.
لقد غيرت حرب فيتنام طريقة نظر الأمريكان إلى العالم الخارجي، وأدرك الذين يفكرون بينهم أن الولايات المتحدة رغم قوتها لاتستطيع الحصول على كل نتيجة تبغيها، فما بالك أن تحصل عليها بكلفة معقولة. وكان هذا هو أول أفول الوهم الذي يرى في أمريكا قوة لاحدود لها.
في آذار/مارس 1968 كان الرئيس جونسون قد استنتج أن الولايات المتحدة لايمكنها أن تكسب الحرب، فجد من حملة القصف وطلب من الشمال أن يبدأ المفاوضات، كما أنه أعلن بصورة درامية أنه لن يرشح نفسه لفترة رئاسية ثانية.
وبعد أربع سنوات فقط من إعادة انتخاب جونسون بأكثرية ديمقراطية هائلة تم انتخاب رئيس جمهوري هو ريتشارد نيكسون، الذي سرعان ما بدأ في عام 1969 بسحب القوات البرية من فيتنام، وافتتح في عام 1970 مفاوضات سرية مع شمال فيتنام، مع أنه حدد قصف الشمال بل زاده شدة. ولم تعترف الولايات المتحدة بأنها تخلت عن حليفتها ولكنها كانت في الواقع مضطرة لذلك، وبعد مفاوضات صعبة تم توقيع وقف إطلاق النار في باريس كانون الثاني/يناير من عام 1973.
لقد كلفت فيتنام الولايات المتحدة مبالغ طائلة و57.000 قتيل، كما أصابت مكانتها إصابة فادحة وقوضت نفوذها الدبلوماسي وخربت سياساتها الداخلية وأحبطت جهود الإصلاح فيها، فضلاً عن أنها أفسدت اقتصادها. ولم تنجح أمريكا بالحفاظ على جنوب فيتنام إلا بصورة متقلقلة ولفترة وجيزة بالرغم من المعاناة الرهيبة التي ألحقتها بشعوب الهند الصينية.
وقد حصد الرئيس نيكسون فوائد الارتياح الذي حصل في الداخل، وتدل على اعترافه بمدى تغير العالم منذ قضية كوبا جهوده التي لا سابق لها في تأسيس علاقات طبيعية مع الصين، فقد زارها في شباط/فبراير 1972 لكي يبني جسراً يحاول به أن يربط ما وصفه بـ16.000 ميل واثنين وعشرين سنة من العداء، وكان بإمكانه أن يضيف و 2.500 عام من التاريخ، فصار بذلك أول رئيس جمهورية أمريكي يزور البر الرئيسي لآسيا.
وبعد أشهر قليلة سوف يكون أول رئيس جمهورية أمريكي يزور موسكو، ثم تبعت هذه الخطوة الاتفاقية الأولى على الحد من التسلح، وهكذا زال تماماً التقسيم السابق والبسيط للعالم إلى قطبين متعاكسين الذي ساد خلال الحرب الباردة ثم جاءت تسوية الأمور في فيتنام، وزال الجنوب على الفور ومن خضم الحرب الأهلية التي اندلعت في البلاد، ولكن الشعور بالارتياح في الولايات المتحدة للخروج من هذا المستنقع كان كبيراً جداً فلم تهتم كثيراً بدقة التزام الفيتناميين الشماليين بشروط السلام.
ثم حصلت فضيحة سياسية أكرهت نيكسون على الاستقالة، وواجه خليفته كونغرساً مرتاباً بالمغامرات الخارجية ومزمعاً على إحباط أي مغامرة جديد، ولم تحدث أي محاولة للمحافظة على الضمانات التي قدمت لنظام جنوب فيتنام، وبحلول ربيع عام 1975 كانت جميع المساعدات الأمريكية لسايغون قد انتهت.
وكما كان الأمر في الصين في عام 1947، أوقفت الولايات المتحدة خسائرها على حساب الذين اعتمدوا عليها ولو أن 117.000 فيتنامي قد غادر مع الأمريكان، وربما كان المتشددون في موضوع السياسة الآسيوية على حق منذ البداية في أن شيء يمكنه أن يضمن مقاومة أنظمة ما بعد الاستعمار للشيوعية إلا معرفتها أن الولايات المتحدة مستعدة للقتال من أجلها إذا اقتضى الأمر. إلا أن تحسين العلاقات مع الصين كان أهم من فقدان فيتنام.
بنهاية السبعينيات كانت أمريكا وحلفاؤها مرتبكين وقلقين، وكان الوضع صعب التفسير، لقد كان الأمريكيون قلقين مما اعتبروه ضعفاً عسكرياً أصاب بلادهم خاصة في مجال الصواريخ، وكانت القيادة التقليدية لرئيس الجمهورية في مجال الشؤون الخارجية قد تقوضت بسبب الريبة التي أحاطت بالسلطة التنفيذية.
وعندما انهارت كمبوديا ثم تبعها جنوب فيتنام بدأت تسمع أسئلة حول انحسار سلطة أمريكا وإلى أي حد يمكن أن يصل، فإذا لم تعد الولايات المتحدة راغبة في القتال من أجل الهند الصينية، فهل يمكن أن تقاتل من أجل تايلاند؟ أو من أجل إسرائيل؟ أو من أجل حتى برلين؟