إن من أهم القرارات التي اتخذت خلال الحرب العالمية الثانية قرار تأسيس منظمة دولية جديدة. وقد ولدت منظمة الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو في عام 1945، وكانت بنيتها تشبه بنية عصبة الأمم، فكانت الهيئتان الأساسيتان فيها هما مجلس صغير وجمعية عامة كبيرة، كان فيها في البداية ممثلون دائمون عن إحدى وخمسون دولة.
أما مجلس الأمن فلم يكن فيه إلا خمس أعضاء دائمين هم: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وبريطانيا وفرنسا والصين، وكان أعضاؤه الآخرون يختارون بالتناوب من بين الدول الأخرى الأعضاء في الأمم المتحدة، وكانت له سلطات أوسع من مجلس عصبة الأمم، خاصة بسبب خوف السوفييت من أن تغلبهم أصوات الآخرين في الجمعية العامة.
ونتيجة لذلك منح الأعضاء الدائمون سلطة النقض (الفيتو) من أجل الدفاع عن مصالحهم الأساسية، ولم يرض هذا الأمر جميع الدول الصغيرة، ولكن كان لابد من تبنيه إذا أريد للمنظمة أن تعمل أصلاً.
وسرعان ما بدا نفوذ الجمعية العامة واضحاً كمكان للنقاش، وللمرة الأولى صار الجمهور العالمي مرتبطاً بعضه ببعض عن طريق المذياع والسينما ثم التلفزيون، وصار يتوقع من الدول ذات السيادة أن تقدم حججاً مقنعة لتصرفاتها، وقد لزمه وقت أطول بكثير لكي يصبح له تأثير فعال في العديد من مشاكل العالم.
اجتمعت الجمعية العامة للمرة الأولى في لندن في عام 1946، وقد نشب الشجار على الفور، فعندما قدمت شكاوى من استمرار وجود الجنود السوفييت في أذربيجان الإيرانية والتي احتلت أثناء الحرب رد الروس فوراً بمهاجمة بريطانيا لأنها أبقت قوات لها في اليونان.
وخلال أيام قليلة استخدم أول فيتو وكان سوفييتياً، وسوف يتكرر هذا الأمر كثيراً، وسرعان ماتحولت الأداة التي تخيلتها القوى الأخرى وسيلة استثنائية لحماية المصالح الخاصة إلى أداة مألوفة في الدبلوماسية السوفييتية. ومنذ عام 1946 بدا أن الاتحاد السوفييتي يتنازع في الأمم المتحدة مع كتلة غربية غير متبلورة بعد، وقد ساهم هذا كثيراً في تحويل المظاهر إلى واقع.
القوى العظمى
كان المسؤولون والشعب في الولايات المتحدة أقل ارتياباً بالعالم في عام 1945 مما صاروا عليه فيما بعد، بينما كان الاتحاد السوفييتي يبدي قدراً أكبر بكثير من الريبة والحذر. ولم تبق هناك في الحقيقة قوى عظمى في عام 1945 عدا عن هاتين القوتين، فرغم الأوهام التي ظهرت في التركيب القانوني لمجلس الأمن كانت بريطانيا ترزح تحت ضغط كبير جداً، وكانت فرنسا بالكاد تنهض من كابوس الاحتلال وتنهشها الانقسامات الداخلية، ولم تكن الصين قد بلغت مرتبة القوة العظمى قط في الأزمنة الحديثة. أما ألمانيا واليابان فكانتا محتلتين ومخربتين ولو أن دمار الثانية كان أقل بقليل من الأولى، لذلك كان الأمريكان والروس يتمتعون بتفوق عظيم على جميع منافسيهم، وكانوا هم المنتصرين الوحيدين، وهو وحدهم حصلوا على مكاسب إيجابية من الحرب.
كان الاتحاد السوفييتي قد اكتسب وضعاً أقوى مما بلغته روسيا القيصرية في أي يوم من أيامها، ولو أنه دفع الثمن باهظاً. وكان لديه درع أوروبي واسع أكثره مكون من أراضي سوفييتية وبقيته مقسمة إلى دول ضعيفة وصديقة له، كما كانت له حاميات في شرق ألمانيا، وهي منطقة صناعية كبرى.
أما وراء هذا الدرع فتقع يوغوسلافيا وألبانيا، وهما الدولتان الشيوعيتان الوحيدتان اللتان نشأتا منذ أيام الحرب من دون مساعدة الاحتلال السوفييتي، وكانت كلتاهما حليفتين لموسكو في عام 1945، والأهم من هذا أن الهيمنة الإستراتيجية السوفييتية في أوروبا الوسطى لم يكن يواجهها أي من الحواجز القديمة التي كانت تواجه سلطة روسيا.
ولم يكن بإمكان بريطانيا وفرنسا المنهكتين أن تتصديا للجيش الأحمر، فلم يكن ثمة قوة توازن قو السوفييت إذا ماعاد الأمريكيون إلى بلادهم، وكانوا قد بدؤوا بالعودة في عام 1945.
وكانت الجيوش الروسية تقف أيضاً على حدود تركيا واليونان، حيث كانت انتفاضة شيوعية قد ابتدأت كما كانت تحتل شمال إيران، وفي الشرق الأقصى كانت تحتل جزءاً كبيراً من أراضي الصين في سين كيانغ فضلاً عن منغوليا وشمال كوريا وقاعدة بورت آرثر البحرية، وكانت قد أخذت من اليابان النصف الجنوبي من جزيرة سخالين وجزر الكوريل.
وكانت توجد في الصين حركة شيوعية قوية تسيطر على جزء كبير من البلاد، وهكذا بات بإمكانك في عام 1948 أن تسير من إرفرت شرق ألمانيا حتى شانغهاي من دون أن تطأ أرضاً غير شيوعية.
أما السلطة العالمية الجديدة للولايات المتحدة فلم تكن تعتمد كثيراً على احتلال الأراضي، لقد كان لديها هي الأخرى حامية في أوروبا عند نهاية الحرب، ولكن الناخبين الأمريكيين أرادوا عودتها إلى بلادها بأسرع وقت ممكن. أما القواعد البحرية والجوية الأمريكية حول أوروبا وآسيا فكان أمرها مختلف.
إن القضاء على القوة البحرية اليابانية والحصول على الجزر كقواعد جوية وبناء الأساطيل العملاقة قد حولت كلها المحيط الهادي إلى بحيرة أمريكية، والأهم من هذا أن الولايات المتحدة وحدها كانت تملك القنبلة الذرية. إلا أن الجذور الأعمق لإمبراطوريتها إنما كانت تكمن في قوتها الاقتصادية، ولقد كانت القوة الصناعية الأمريكية الهائلة حاسمة في تحقيق انتصار الحلفاء.
ولم تتأذ الولايات المتحدة من هجمات الأعداء، بل ظلت أرضها ورأسمالها الثابت سليمين، والحقيقة أن مستوى المعيشة فيها قد ارتفع أثناء الحرب التي أنهت مرحلة الركود الاقتصادي، وأخيراً كان منافسوها التجاريين والسياسيين السابقين يرزحون تحت عبء التعافي من الحرب وتكاليفه، بينما تحولت هي إلى دولة دائنة كبرى لها رؤوس أموال تستثمرها في عالم ليس فيه أحد غيرها قادر على تقديمها.
وكان اقتصاد تلك الدول تميل بسبب قلة الموارد فيها إلى الدخول ضمن نطاق الولايات المتحدة، التي أضحى اقتصادها أكبر من أي وقت مضى، وكانت نتيجة ذلك فورة في سلطة أمريكا المباشرة باتت واضحة، حتى قبل أن تنتهي الحرب.
حتى قبل أن يتوقف الاقتتال في أوروبا كان من الواضح أن الروس لن يسمح لهم بالمشاركة في احتلال إيطاليا أو تفكيك إمبراطوريتها الاستعمارية، وأن على البريطانيين والأمريكان أن يقبلوا بالتسوية التي يريدها ستالين لبولندا. ولم يكن الأمريكان مسرورين بدوائر النفوذ الصريحة تلك خارج نطاق قارتهم أما الروس فكانت تروق لهم، ولكن أياً من القوتين لم تبد راغبة بالمواجهة.
وكان الاهتمام الأساسي للقوات الأمريكية بعد النصر هو أن تسرح جيوشها، وقد أوقفت ترتيبات الإعارة والإيجار –المساعدات المادية- حتى قبل استسلام اليابان، فأضعف هذا أصدقاءها الذين لم يكونوا قادرين على تأمين نظام أمن جديد بقواهم الذاتية وحدها. أما الاتحاد السوفييتي فقد مات أكثر من عشرين مليون من مواطنيه ودمر ربع رأسماله الإجمالي، وربما كان ستالين في عام 1945 أقل وعياً لقوة بلاده منه لضعفها.
أوروبا في عام 1945
إلا أن العلاقات بين القوتين العالميتين قد تدهورت بسرعة خلال سنوات قليلة خاصة بسبب الصراعات على أوربا التي كانت بحاجة ماسة لعملية إعادة بناء منظمة. إن كلفة الخراب الحاصل فيها لم تحسب بدقة قط، ولكنه كان خراباً روحياً فضلاً عن ناحيته المادية.
فقد زال المجتمع المتحضر في أنحاء القارة وحلت محله فظائع الترحيل والمذابح الجماعية، وإن الصراعات ضد القوى المحتلة الألمانية قد سببت انقسامات جديدة، فمع تقدم جيوش الحلفاء وتحريرها للبلاد راحت فرق الإعدام تعمل في إثرها وتصفي الحسابات القديمة.
وكان الذين هلكوا في فرنسا خلال عمليات التطهير التي رافقت تحرير البلاد أكثر من ضحايا الرعب الكبير في عام 1793، والأهم من هذا أن الحياة الاقتصادية في أوروبا قد تفككت، وإذا استثنينا روسيا فإن حوالي 15 مليون أوروبي قد ماتوا أثناء الحرب، كما هدمت ملايين المساكن في ألمانيا والاتحاد السوفييتي، وكانت المصانع والاتصالات مخربة والعملات منهارة.
ومع أن ألمانيا الصناعية كانت دولاب التوازن في الحياة الاقتصادية الأوروبية، فقد كانت أول رغبة للحلفاء هي منعها من التعافي. وقد حمل الروس معهم الأدوات والمعدات من الشرق كتعويضات لإصلاح أراضيهم المخربة.
وحمل الاقتصاد السوفييتي عبء قرار ستالين بتطوير أسلحة ذرية وبالاحتفاظ بقوات مسلحة هائلة، ولم تكن السنوات الأولى بعد الحرب بالنسبة للمواطن السوفييت تقل كآبة عن سنوات السباق والتصنيع بعد الثلاثينيات، إلا أن الاتحاد السوفييتي قد تمكن من تحقيق انفجار ذري في أول أيلول/سبتمبر 1949 ثم أعلن رسمياً في آذار/مارس التالي أن لديه سلاحاً ذرياً, وكانت الصورة الدولية عندئذٍ قد تغيرت تغيراً كلياً.