عندما توقف القتال كان الكثيرون يظنون أن الأمور يمكن أن تعود إلى حالتها الطبيعية، ولكن هذا الأمر كان مستحيلاً، فقد زال عالم 1914 بلا رجعة أقله في أوروبا، وانهارت أربع إمبراطوريات في أوروبا الشرقية والشرق الأدنى.
كان الجيش الروسي رغم سوء تغذيته ومعداته وأسلحته قد حارب بشجاعة رائعة، بل إنه أحرز انتصاراً كبيراً على النمساويين في عام 1916، إلا أنه في عام 1917 كان قد استنفذ قواه، ولم تعد الصناعة الروسية وحدها قادرة على تلبية حاجات جنودها. وكان أكثر هذا الجيش في بولندا، التي كان واحدة من ساحات القتال الأساسية، وكانت الخطوط الحديدية الروسية قد انهارت في عام 1916، فكانت البلاد تدفع ثمن تأخرها في عملية التصنيع.
ولم يكن الحلفاء قادرين على تزويد روسيا بالعدد والمؤن إلا من خلال مرافئها الشمالية التي تبقى مياهها متجمدة طوال قسم كبير من السنة، أو من فلاديفوستوك التي تبعد ستة آلاف ميل/9600 كم عن الجبهة الأمامية.
وابتدأت في عام 1917 ثورة آذار/مارس بأحداث شغب في العاصمة سببها قلة الطعام، وكان الروس يسمونها ثورة شباط/فبراير، لأنهم كانوا يتبعون حينذاك تقويماً مختلفاً، ثم تمرد الجنود الذين كان يفترض بهم قمع ذلك الشغب، وظهرت حكومة مؤقتة أدت إلى تنحي القيصر عن العرش.
وقد رحب حلفاء روسيا بهذا التغير في البداية، لأن الحكومة الجديدة قالت أنها سوف تتابع محاربتها للقوات المركزية، وكانت حكومة ديمقراطية وبدا أنها حليف أفضل من النظام القيصري السابق. ولكن الشعب كان يريد السلام، وكان الكثيرون يريدون استغلال الثورة للإطاحة بالمظالم السابقة، فكان الفلاحون يطمعون بأراضي النبلاء، وكان القوميات المقموعة راغبة بالاستقلال، وكان بعض العمال راغبين في القضاء على الملكية الخاصة للمصانع.
كان نفوذ الأغلبية الماركسية المتطرفة في الحزب الاشتراكي الروسي أي البلاشفة، نفوذاً قوياً في المدن، فأزاحوا في تشرين الثاني/نوفمبر أي تشرين الأول/أكتوبر في التقويم القديم الحكومة المؤقتة من السلطة، ثم لزمهم عامان أو ثلاثة أعوام أخرى لكي يثبتوا أقدامهم في مواجهة الغزو الأجنبي والحرب الأهلية ومعارضة الجماعات الثورية الأخرى إلى أن نجحوا في النهاية، وهكذا أصبحت روسيا أول دولة في العالم ذات حكومة ماركسية ومكرسة رسمياً لدعم قضية العمال في العالم كما يراها البلاشفة.
أما الدولة النمساوية الهنغارية فكانت بحلول أيلول/سبتمبر 1918 قد بدأت بالتمزق بفعل الثورات، وبعد أسابيع قليلة أدت الثورة في ألمانيا بفيلهلم الثاني إلى التنحي عن السلطة، وكانت الثورات قد اندلعت قبل ذلك بوقت طويل في الإمبراطورية العثمانية في أراضيها العربية، وعندما انتهت الحرب لم يبق منها إلا تركيا نفسها، وسوف تنشأ في الأراضي العثمانية السابقة في الشرق الأدنى وشبه الجزيرة العربية سلسلة من الدول العربية الجديدة، فضلاً عن تركيا جديدة.
أما من الأراضي السابقة لألمانيا والدولة النمساوية الهنغارية وروسيا فقد ظهرت ثلاث دول جديدة في البلطيق هي لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، ودولة جديدة اسمها تشيكوسلوفاكيا، وجمهورية نمساوية جديدة، وهنغاريا أصغر بكثير من السابق، كما بعثت بولندا وولدت دولة سلافية جنوبية جديدة سوف تسمى لاحقاً يوغوسلافيا تضم مملكتي صربيا ومونته نيغرو (الجبل الأسود) السابقتين، وقد استغرقت التفاصيل سنوات عديدة لكي تستقر، ولكن حقيقة تقسيم أوروبا الشرقية إلى وحدات جديدة كانت أمراً محسوماً منذ أن كانت رحى الحرب دائرة.
تسويات السلام
من بين معاهدات عام 1919 كانت أهمها هي المعاهدة التي عقدت مع ألمانيا، وكانت عملية التسوية كلها من صنع قادة القوى المنتصرة، أي بريطانيا وفرنسا وخصوصاً الولايات المتحدة. لقد نظر الأوروبيون إلى الرئيس الأمريكي دروولسون نظرة مثالية لأنه أعلن عن تأييده لمبادئ القومية والديمقراطية.
ولكن الفرنسيين كانوا يريدون قبل كل شيء ضمانة ضد انتعاش قوة ألمانيا وقيامها بغزو جديد في المستقبل، وكانوا البريطانيون حريصين على إعادة توازن واقعي للقوى في أوروبا. وكانت النتيجة سلسلة من الأعباء التي فرضت على ألمانيا عقاباً لها كما أنها اضطرت لإعادة الإلزاس واللورين وخسرت قسماً كبيراً من أراضيها في الشرق، ومجموعة من المحاولات المتفرقة وغير المنظمة لتسوية الحدود من أجل مراعاة مطالب الشعوب التي نشأت على أرض الواقع من الإمبراطوريتين الروسية والنمساوية الهنغارية.
إلا أن الولايات المتحدة لم تصدق في النهاية على معاهدة فرساي مع ألمانيا، كما أن روسيا لم تكن ممثلة في أي من مفاوضات السلام، وكانت هاتان الحقيقتان نذيري شؤم للمستقبل.
ليس من الغريب أن أوروبا الجديدة لم ترض الجميع، بل إن بعضهم كان ينفر نفوراً عميقاً، ومع ذلك بدا أنها سوت مسائل كثيرة كانت تؤرق الناس طوال القرن السابق، فقد صار بالإمكان التفكير على الأقل بإمكانية تحرر الشعوب المقموعة في أوروبا من الحكم الأجنبي، وكان هذا هو الهم الأكبر لقوميي القرن التاسع عشر.
من المؤسف أن إرضاء بعض القوميين يؤدي دوماً إلى إغضاب بعضهم الآخر، فقد تم إحياء بولندا، ولكن الكثيرين من مواطنيها لم يكونوا بولنديين، وربما وافق التشيك والسلوفاك على العيش معاً في جمهوريتهم الديمقراطية الجديدة، ولكن الألمان في الأراضي التشيكية كانوا يفضلون البقاء تحت حكم الهابسبرغ، وربما رضي السلاف الجنوبيون والرومانيون بالتخلص من حكم المجريين، ولكن هؤلاء شعروا بالمرارة جراء فقدانهم لأراضيهم، وسرعان مارح الكروات يتشكون من معاملة الصرب لهم في دولة يوغوسلافيا الجديدة.
عصبة الأمم
كان من دواعي التفاؤل المحاولة التي جرت من أجل تنظيم الحياة الدولية بصورة جديدة، وغير مسبوقة، فقد تأسيس عصبة الأمم مركزها في جنيف كخطوة أولى نحو تنظيم سلوك الدول المستقلة ذات السيادة، وتدين هذه العملية بالكثير للرئيس ودرو ولسون الذي دفع بحماسة حلفاءه إلى تبنيها، مع أنه فشل بعد ذلك بإقناع مواطنيه بالانضمام إليها، وبدأت العصبة تتدخل ببعض النجاح في نزاعات بين الدول ربما كانت ستؤدي لولاها إلى الصراع المسلح، كما أنها تبنت المشاكل الاقتصادية ومآسي اللاجئين، الذين كان الملايين منهم يشكلون متطلبات شديدة على أوروبا الوسطى والشرقية والشرق الأدنى بمواردها المحدودة والمثقلة أصلاً.
لقد كان تحطيم الإمبراطوريات وانتصار المطالب القومية المقموعة، منذ زمن طويل، وخلق عصبة الأمم هي أبرز ملامح النظام الدولي الجديد، ولم يلاحظ الناس في البداية أن مستقبل أوروبا قد حددته قوة خارجية للمرة الأولى منذ أن هددها الأتراك في القرن السادس عشر.
فقد انهار القادة العسكريون الألمان قبل عام مما توقع خصومهم لأنهم كانوا يعلمون أنهم سيخسرون الحرب متى ألقت أمريكا بثقلها الكامل في الميزان، وهكذا انقضت أيام السيطرة السياسية الأوروبية على شؤون العالم، وكانت أكثر الدول الموقعة على معاهدة فرساي دولاً غير أوروبية، وراحت الحركات القومية الجديدة تهدد مابقي من الإمبراطوريات الاستعمارية.
وكانت اليابان أيضاً قوة كبيرة منتصرة، وسوف يسمع الكثير عن مطالبها خلال السنوات القليلة القادمة ، وأخيراً فإن قوة أوروبا الاقتصادية قد أصيب إصابات فادحة وبليغة بسبب الحرب، وعلى هذه الخلفية القائمة سوف تواجه القارة خطراً جديداً وكبيراً.