كان وجود هذه الدول الجديدة ذات الأصول الأوروبية عاملاً حاسماً في التطور المستقبلي للعالم، ولكن التعبير الأوضح عن هيمنة الأوروبيين إنما كان إمبراطورياتهم الاستعمارية وحكمهم المباشر للشعوب غير الأوروبية. فقد كانت بريطانيا وروسيا تحكمان حوالي ثلث مساحة الكرة الأرضية في عام 1914، وكانت الإمبراطورية البريطانية تضم حوالي 400 مليون نسمة، أي خمس البشرية في ذلك الوقت تقريباً وكان حوالي 35 مليون منهم يعيشون في المملكة المتحدة.
أما الفرنسيون فقد بلغ عددهم رعاياهم في مستعمراتهم 50 مليون، وهو أيضاً أكبر من عدد سكان فرنسا نفسها؛ ثم كانت هناك ملايين غيرها من البشر، ومساحات شاسعة من الأراضي أيضاً خاضعة لقوى أوروبية أخرى. وكانت هذه السيطرة المباشرة على الأرض وسكانها واحدة من أبرز العلامات على أن الأوروبيين كانوا حقاً سادة العالم عند بداية القرن العشرين.
كانت هذه الصورة مختلفة كل الاختلاف عما كانت عليه في عام 1800، ففي عام 1900 كانت البلاد والوحيدة غير الخاضعة لحكم البيض المباشر خارج الأمريكتين هي الصين والإمبراطوريتان العثمانية والفارسية اللتان تقلصتا كثيراً واليابان وحفنة من البلدان الأصغر.
وقد تم الانتقال إلى هذه الحال بسرعة كبيرة، خاصة في الثلاثين سنة الأخيرة في القرن التاسع عشر، فازداد الحديث كثيراً في عام 1900 عن الإمبراطوريات والإمبريالية أو الاستعمار Imperialism ، ويبدو أن هذه الكلمة بدأت تستخدم في اللغة الإنكليزية في خمسينيات القرن التاسع عشر. وكان الجميع متفقين على أن الإمبراطوريات حقيقة بارزة من حقائق العصر، ولو أنهم لم يؤيدوها جميعاً. والحقيقة أن العالم لم يعرف قط قرناً بلغ فيه الاستعمار هذا الحد ولا إمبراطوريات بلغت في المظهر مثل هذا النجاح.
إن الإمبراطوريات موجودة منذ بدايات الحضارة تقريباً، ولكنها كانت تختلف كثيراً فيما بينها باختلاف الزمان والمكان. فيبدو أن المسؤولين في إمبراطورية الصين مثلاً كانوا قانعين بأن تعترف الشعوب الخاضعة لهم بسيادة إمبراطورهم عن طريق أداء الجزية بصورة دورية وإبداء الاحترام والتوقير فحسب، ولو ظل المبدأ الرئيسي هو أن البشري كلها خاضعة له، وليس من الغريب أن تكون للإمبراطوريات الأوروبية في القرن التاسع عشر هي الأخرى ملامحها الخاصة بها.
إن أبرز ملامح تلك الإمبراطوريات هو امتدادها الجغرافي العجيب، وقد صارت بعضها في النهاية تدعي لنفسها الحق في مساحات الجليد الشاسعة في قارة أنتاركتيكا، بينما راحت بعضها الأخرى تتنازع على الأراضي الجافة في الصحراء الكبرى وكلتاهما تبدوان منطقتين منفرتين للوهلة الأولى، ولم يعد هناك مكان في العالم لايهتم به بناة الإمبراطوريات ولايسعون للامتداد فيه.
وتعود بعض أسباب هذا التوسع إلى سهولة الوصول إلى تلك الأنحاء من العالم بفضل جهود الاستكشاف والتقنية والعلم، وبفضل القوة العسكرية العاتية لهذه الإمبراطوريات.
ولم يكن هناك من بين الدول غير الأوروبية إلا دولتان صدتا تلك الموجة الاستعمارية قبل عام 1914 فحافظتا بذلك على استقلالهما، وهما الأثيوبيون الذين تمكنوا من تدمير جيش إيطالي غزا بلدهم في عام 1896، واليابانيون الذين بلغوا درجة عالية في تبني الأساليب الأوروبية من أجل أن يتمكنوا من البقاء.
تبين هاتان الحقيقتان أن الاستعمار في القرن التاسع عشر، كان بالأصل استعماراً أوروبياً، ولم تشارك فيه إلا دولة آسيوية واحدة هي اليابان، أما الإمبراطوريات الصينية والعثمانية والفارسية التي كانت كلها قد قامت بفتوحات عظيمة في الماضي فقد أصبحت في القرن التاسع عشر دولاً خاسرة وكانت تتقلص بدلاً من أن تتسع.
وقد ازداد عدد الدول التي تستحوذ على أراضٍ جديدة، وكانت كلها أوروبية باستثناء الولايات المتحدة واليابان، وكانت بعضها تشيد إمبراطورياتها منذ زمن بعيد، مثل روسيا وبريطانيا وفرنسا، كانت إسبانيا واحدة من الدول الاستعمارية القديمة في أوروبا، ولكن خسارتها تجاوزت مكاسبها خلال القرن حتى خرجت من السباق في نهايته، ولو أنها ضمت بعض الأراضي الجديدة.
ثم كان هناك الشعبان الهولندي والبرتغالي، اللذان برزا في مرحلة أبكر من بناء الإمبراطوريات، وأصبحا الآن في وضع يشبه وضع إسبانيا، أما ألمانيا وإيطاليا اللتان لم يكن لهما وجود بعد عام 1850 فكانتا تكسبان أيضاً أراضي جديدة في الخارج، ومثلهما بلجيكا، التي لم تظهر إلا في عام 1830.
كان هذا العصر إذاً عصر الاستعمار الأوروبي بالدرجة الأولى، ولو أن الولايات المتحدة التحقت به في النهاية، ولكن حالتها كانت حالة خاصة، فقد لايبدو توسع أراضي الولايات المتحدة في القارة الأمريكية عادة كواحدة من حالات امتداد الإمبراطوريات مثل توسع روسيا في آسيا، ولكنه في الحقيقة قد استمر طوال القرن التاسع عشر، كما أنه في الوقت نفسه ينسجم مع النمط العام، أي نمط الاستعمار الذي قامت به شعوب بيضاء أي في أصول وثقافات أوروبية ماعدا اليابان. وكانت هذه أيضاً جزءً من عملية أساسية أخرى كانت تجري في القرن التاسع عشر، هي نمو قوة عالمية جديدة.