إن أكبر انقلاب في السياسة العالمية، بعد عام 1945 هو انتهاء الإمبراطوريات الأوروبية، عند نهاية الحرب كانت الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والهولندية والبرتغالية والبلجيكية قائمة بعد، بينما اختفت الإيطالية بين عامي 1941 و 1943 ولكن بعد ثلاثين عاماً صارت المساحة التي يحكمها الأوروبيون من العالم أقل مما كانت عليه قبل أربعة قرون كاملة.
وقد سببت عملية تفكيك الإمبراطوريات ارتباكات وتوترات كبيرة لدى القوى الأوروبية، وكانت تنطوي على مخاطر جمة، وإنه لمن أعظم إنجازات القرن أن حقبة إزالة الاستعمار قد تم اجتيازها من دون حرب عالمية أو صراعات محلية واسعة.
الشرق الأوسط الجديد
لقد حصلت آخر امتدادات الإمبراطوريات القديمة بين الحربين العالميتين، عندما منحت عصبة الأمم الفرنسيين والبريطانيين انتدابات على قسم كبير من الشرق الأدنى والأوسط كمرحلة أولى قبل أن تتحول إلى دول.
وكان يبدو أن مستقبل المنطقة يكمن في تشكيل بنى مؤسسة على فكرة القومية الأوروبية، وأن هذا الترتيب قد يكون حلاً لمسألة من سيخلف الدولة العثمانية أي كيف يجب تنظيم العالم العربي. ولكن الحقيقة أن القومية لم تكن إلا سراباً.
كان البريطانيون والفرنسيون قد اتفقوا أثناء الحرب على أن تقلص تركيا إلى مساحتها الحالية تقريباً وأن يثبت الفرنسيون أقدامهم في سوريا العثمانية ويثبت البريطانيون أقدامهم في العراق، ولكن هذا الترتيب جعل من الصعب عليهم أن يقرروا ماذا يجب أن يعطوا للحكام العرب.
والتعقيد الآخر كان إعلان الحكومة البريطانية في عام 1917 أنها تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، وقد أرضى هذا الإعلان الصهاينة، ولكن لم يكن من الواضح ما إذا كانت بريطانيا تقصد بذلك دولة قومية يهودية، كما بدا أنه يتعارض مع الوعود المقدمة للعرب.
بين عامي 1918 و1939 كان الشعور الوطني من النمط الأوروبي أكثر تقدماً في مصر، حيث راح المثقفون وعامة الشعب في المدن يتظاهرون بصخب ضد الاستعمار الغربي، وراح البريطانيون يرجون قبضتهم رويداً رويداً، وقبلوا في عام 1936 ألا يتركوا حاميتهم في منطقة قناة السويس إلا لعدد محدد من السنين.
أما في بقية أنحاء العالم العربي فكانت المتاعب تأتي من عدد من الأسر الحاكمة والمتنافسة عادة من النمط التقليدي، كما وجد الفرنسيون أنفسهم مضطرين لمعالجة أمر الوطنيين في مدن سوريا ولبنان، وبذل البريطانيون قصارى جهدهم للتخلص من انتداباتهم بسرعة، وقد سبب لهم انتدابهم على فلسطين أكبر قدر من
خريطة الشرق الأوسط الحالية
إقامة إسرائيل
في عام 1914 كان يعيش في فلسطين حوالي 90.000 يهودي، ومنذ بداية الانتداب كان السكان العرب يبدون تخوفهم من الهجرة اليهودية، وكان العرب يهاجمون البريطانيين إذا سمحوا بالمزيد من اليهود، واليهود يهاجمونهم إذا تحدثوا عن الحد من هجرتهم.
وسرعان مابدأت الحكومات العربية الجديدة في الجوار بالاهتمام بهذه المسألة، وقد حصلت أحداث شغب وقتل وأعمال إرهابية ضد المستوطنات اليهودية، واقترح البريطانيون في عام 1936 تقسيم فلسطين، ولكن العرب رفضوا هذا الاقتراح في ذلك الحين كان هتلر قد استلم السلطة في ألمانيا، وكان اليهود في ألمانيا وأوروبا الوسطى يخشون الاضطهاد ويرغبون بالقدوم إلى فلسطين، التي كان بعضهم يسميها منذ ذلك الحين إسرائيل.
مع اقتراب حرب 1939 واجه البريطانيون انتفاضة عربية واسعة تمكنوا من قمعها، ولكنهم أثناء معالجتهم لها وضعواً حداً مطلقاً لعدد اليهود الذين سيسمح لهم بدخول فلسطين في المستقبل. وكانت علاقات بريطانيا بالدول العربية عندئذٍ قد بلغت درجة لاسابق لها من التعقيد والصعوبة.
إن اقتراب الحرب في أوروبا قد زاد أهمية قناة السويس لدى بريطانيا، إذ صارت لها الآن مصلحة جديدة هي استمرار تدفق النفط من العراق عن طريق خط الأنابيب المار عبر شرق الأردن وفلسطين إلى حيفا؛ وكان محكوماً على محاولات العدالة والإنصاف أن تفشل.
وعندما اندلعت الحرب جلبت معها أزمة كبيرة، ولم تكن الحكومة البريطانية هي الوحيدة التي حدت من دخول اليهود الهاربين من برنامج القضاء عليهم على يد الألمان، ولكنها كانت تحكم فلسطين حيث يريد الكثيرون منهم أن يذهبوا، وكان من السهل على الدول الأخرى أن تطالب بحقهم في ذلك. وقد أضيف إرهاب الصهاينة الآن إلى عنف العرب، كما ازداد ضغط أمريكا لأن أصوات الناخبين اليهود كانت هامة لدى السياسيين الأمريكان، وإن الانتصار في الحرب قد زاد الأمور تفاقماً، لأن الروس تبنوا القضية الصهيونية إذ رأوا فيها طريقة لتسبب المتاعب لخصمهم في الحرب الباردة ولتوسيع نفوذهم في المنطقة.
وطرح البريطانيون الموضوع على الأمم المتحدة التي وافقت على مشروع تقسيم صوت عليه كل من الولايات المتحدة وروسيا، ولكن العرب لم يقبلوا به، وتصاعد العنف، وأعلنت بريطانيا أخيراً أنها سوف تتخلى عن فلسطين، فغادرتها في يوم 15 أيار/مايو 1948، أي بعد يوم واحد من إعلان اليهود تأسيس دولة قومية جديدة هي دولة إسرائيل.
وعلى الفور هاجمتها مصر وجيرانها العرب الذين قالوا أنهم يريدون حماية العرب الفلسطينيين، ولكن إسرائيل نجت وانتصرت، إلا أن انتصارها هذا قد تركها محاطة بأعداء مهزومين وتواقين للانتقام، كما صارت لديهم الآن مظلمة جديدة استفادوا منها كثيراً من الناحية الدعائية، هي هجرة 700.000 عربي فلسطيني هربوا من إسرائيل كي لايعيشوا تحت حكم اليهود، وبدا اليهود الآن مضطهدين بدورهم، مع أن الكثير من العرب الفلسطينيين قد عادوا إلى إسرائيل في عام 1949.
ثم حصلت خلال السنوات القليلة التالية ثلاثة تبدلات كبرى غيرت موقف العرب من جميع النواحي ماعدا عداءهم المستمر لإسرائيل، أول تلك التبدلات هو تفاقم الحرب الباردة، فقد كانت روسيا تتدخل في سياسات المنطقة منذ زمن طويل، وانضمت إليها الآن الولايات المتحدة.
والتبدل الثاني هو الارتفاع الحاد في استهلاك النفط في الدول الصناعية الكبرى وفي إنتاجه خاصة في الحقول الهائلة الجديدة المتكشفة في الخليج الفارسي وشبه الجزيرة العربية وليبيا، أما التبدل الثالث فهو تبدل سياسي مقعد وطويل أزاح السيطرة الاستعمارية من العالم الإسلامي وأطاح بالكثير من الملوك المسلمين المتمسكين بالتقاليد ووضع محلهم أنظمة ثورية راديكالية.
كان الخمسينيات عقداً من التطورات الكبيرة، فقد اضطر الفرنسيون للتخلي عن لبنان وسوريا بعد صراع، واعترفوا بالاستقلال الكامل للمغرب وتونس، وأطيح بملك مصر في عام 1952 وفي عام 1954 بدأت ثورة شاملة ضد المستوطنين الأوروبيين في الجزائر الفرنسية وكان عددهم يربو على المليون، وكان البريطانيون قد سحبوا حاميتهم من السويس عندما بزغ في مصر رجل قوي هو جمال عبد الناصر، الذي بدا أنه القائد المصلح المناهض للاستعمار الذي كان العرب ينتظرونه.
وقد تآمر البريطانيون والفرنسيون والإسرائيليون على الإطاحة به في عملية السويس في عام 1956، التي كانت آخر مغامرة على النمط القديم للاستعمار، ولكنها منيت بالفشل مع أن المصريين أصيبوا بهزيمة كارثية، بينما راح نجم عبد الناصر يعلو ويزداد تألقاً.
ونالت الجزائر استقلالها أخيراً في عام 1962 من بعد معاناة رهيبة، وكانت ليبيا قد استقلت أيضاً وتخلصت من ملكها فراحت تتنافس مع سوريا ومصر والمملكة العربية السعودية على قيادة العالم العربي.
واستعدت الحكومتان المصرية والأردنية لمهاجمة إسرائيل من أجل تصحيح التوازن، إلا أن الإسرائيليين سبقوهم إلى الهجوم في عام 1967 فألحقوا بالجيوش العربية هزيمة كبرى، ومنحهم هذا النصر حدوداً أسهل على حمايتها وأعلنوا أنهم سوف يحتفظون بها، فلم يعد هناك مفر من نشوب حرب رابعة.
وقد حدثت في عام 1973 وفي هذه المرة هجم أعداء إسرائيل في لحظة غير مؤاتية لها ، كما صار على العالم الصناعي أن يعمل حساباً أكبر لأقوى الدول العربية، أي الدول المنتجة للبترول وهي دول صغيرة ولكنها ذات ثروات طائلة، وقد سبب قرارها برفع أسعار بترولها أزمة اقتصادية دولية بين ليلة وضحاها، وبدأ العالم يخشى حدوث ركود اقتصادي مثل الذي حدث في الثلاثينيات، فبدا عندئذٍ أن إسرائيل قد لاتستطيع الاعتماد على الشعور بالذنب في أوروبا والولايات المتحدة تجاه معاملة هتلر ليهود أوروبا.
اسرائيل وفلسطين
انسحاب الاستعمار من آسيا
كانت انتصارات اليابانيين بين عامي 1941-1942 ضربة حاسمة في وجه هيمنة البيض، خاصة عندما استسلم 70.000 جندي بريطاني وأسترالي وهندي أمامهم في سنغافورة، ولم تقتصر الخسارة على الأراضي بل إن مكانة البيض المعنوية قد ضاعت هي الأخرى.
لقد كانت مناصرة اليابانيين للمشاعر المناهضة للبيض مثل الشعار القوي الذي يقول آسيا للأسيويين، من العوامل التي منعت عودة الاستعمار، والمفارقة أن مقاومة الزعماء المحليين لليابانيين كانت عاملاً آخر في ذلك.
ولم يستعد الفرنسيون سلطتهم في الهند الصينية ولا الهولنديون سلطتهم في إندونيسيا في عام 1945 إلا بفضل الوصول السريع للقوات البريطانية، وسوف يخسر كلاهما سيطرتهما خلال بضع سنوات من جديد إذ كانت حقبة الثورات ضد الاستعمار قد ابتدأت، وقد استفادت هذه الثورات من المنافسة بين القوى الكبرى مثلها مثل ثورات الأمريكيتين قبل قرن ونصف القرن، إلا أن المنافسة كانت هذه المرة منافسة الحرب الباردة، كما أن الثورات قد قام بها السكان الأصليون ضد الدخلاء وليس المستوطنون البيض وأحفادهم.
وكان انسحاب الاستعمار يتم أحياناً من دون الحاجة إلى الثورة، إن أهم معلم في هذه القصة هو رحيل البريطانيين عن الهند في عام 1947، لقد منح هذا الرحيل الحكم الذاتي لشبه قارة مكونة من 400 مليون نسمة، وحطم على الفور الوحدة السياسية الوحيدة التي تمتعت بها شعوبها.
فظهرت دولة الهند ذات الأغلبية الهندوسية ودولة باكستان المسلمة، والتي انقسمت فيما بعد مرة ثانية، عندما انفصلت عن بنغلادش في عام 1971 لتشكل دولة منفصلة، وقد ترافق ذلك بسفك كبير للدماء. وأصبحت بورما جمهورية مستقلة في عام 1948، وفي العام التالي انتهى القتال الذي كان مستمراً في إندونيسيا منذ عودة الهولنديين بظهور جمهورية أندونيسيا الجديدة، ومنحت أراضي ملقا البريطانية السابقة حريتها بشكل اتحاد مستقل في عام 1957.
الهند الصينية
كان الفرنسيون في ذلك الحين قد غادروا الهند الصينية، المكونة من كمبوديا ولاوس وجمهوريتين فيتناميتين، ولعبت الحرب الباردة ومصالح القوى الكبرى دوراً كبيراً في إطالة آلام المخاض لولادة النظام الجديد.
لقد لعب الشيوعيون دوماً دوراً هاماً في حركات الاستقلال في الهند الصينية، وكان هذا الدور أقل أهمية في كمبوديا ولاوس منه في فيتنام أي القسم الجنوبي والساحلي من الهند الصينية، حيث قاومهم الفرنسيون مقاومة شديدة حتى عام 1954.
وقد هزمت في ذلك العام حامية فرنسية في دين بين فو في معركة ضارية، فكانت تلك هزيمة معنوية لاتقل أهمية عن الهزيمة في سنغافورة قبلها باثني عشر سنة وهي التي حطمت إرادة الفرنسيين في الدفاع عن إمبراطوريتهم، فانسحبوا عندئذٍ تاركين وراءهم فيتنام الشمالية الشيوعية تسعى لتقويض فيتنام الجنوبية غير الشيوعية.
وراحت الولايات المتحدة تقدم العون للجنوب، بينما راحت روسيا والصين تقدمان العون للشمال
الهند الصينية