كان الغزاة الجدد يتحدثون أشكالاً من اللغة اليونانية، وقد تقسموا إلى أحزاب غازية كثيرة ومجموعات صغيرة من المستوطنين، وساعدت اللغة العلماء على اقتفاء بعض تحركاتهم، وبالأخص تحركات الشعب الذي بات مسيطراً على جنوب شبه جزيرة البيلوبونيز والذي سمي فيما بعد لاكونيا. دعي هؤلاء بالدوريين، الذين تابعوا تقدمهم من البر الرئيسي فاستوطنوا رودس وكوس وكريت وغيرها من الجزر، ويستدل على أماكن تقدمهم من خلال لهجتهم. وتشير الأدلة اللغوية إلى أن إيونيا*أي الساحل الجنوبي الغربي لآسيا الصغرى، كانت على الأرجح مستوطنة من قبل مجموعة مختلفة عنهم هي جماعة من الأخائيين الذي فروا من وسط اليونان والبيلوبونيز بعد أن طردهم الدوريون. لقد كانت هجرات الشعوب توسع العالم الإغريقي إذاً، ولكن يبدو أن الوافدين الجدد في بعض الأماكن، خصوصاً في سهل الأتيك، لم يكونوا هم المسيطرين – إذا حكمنا ثانية من خلال اللغة- ولو أن الحكم الميقيني قد اختفى. والحقيقة أن تلك الشعوب القبلية لم تصل إلى حوض بحر إيجة بهوية إغريقية، بل إنها صارت إغريقية بحكم وجودها هناك واشتراكها بخبرة واحدة ضمن تلك المنطقة.
من الصعب أن نرتب الأحداث بحسب تسلسل زمني معين، أو نعرف تفاصيلها وأسبابها، حتى عام 700 ق.م تقريباً، إلا أن نتيجتها واضحة، وهي أن المتحدثين باللغة اليونانية قد تشتتوا في جماعات عديدة نشأت منها في زمن لاحق عشرات المدن الإغريقية حول بحر إيجة. كانت لاكونيا وسهل الأتيك تتميزان بوجود مناطق تضم مدناً عديدة تحت حكم واحد، أما الجماعات الأخرى فكانت كلها صغيرة، بل صغيرة جداً، ومستقلة. أي أنها ذات حكم ذاتي autonomous -وهي كلمة يونانية- وليست أجزاء في إمبراطورية آخرين. وقد نمت بعض تلك المدن خلال عصور الظلام حتى صار فيها عشرة آلاف شخص أو أكثر، وكان فيها عادة مكان مرتفع أو Acropolis كمركز للمدينة ومكان لمقامات آلهتهم وهي فكرة نشأت في آسيا قبل ذلك بقرون عديدة، وكان يحكمها في العادة ملوك كان أولهم على الأرجح زعماء جماعات محاربة أو عصابات من القراصنة، ثم حلت محلهم فيما بعد مجالس مكونة من أهم أصحاب الأراضي.
* ومنها أتت تسمية اليونان بالعربية – المترجم نقلاً عن الموسوعة البريطانية
الإغريق الأوائل
عند نهاية القرن الثالث عشر تدمرت المراكز الميقينية الكبرى، ربما يفعل الزلازل، كما كانت قد بدأت غزوات شعوب بربرية جديدة لبر اليونان، فانهارت الحضارة الميقينية، واختفت الكنوز الملكية ولم تبن القصور من بعدها. إلا أن الحياة استمرت، فقد بقيت الشعوب المتأصلة متمسكة بأرضها في بعض الأماكن لقرون عديدة، بينما جاءت في مناطق أخرى موجات جديدة من المهاجرين استغلت السكان كعبيد في الأرض أو طردتهم من أوطانهم. وكان أولئك الغزاة يتقدمون من الشمال منذ نحو عام 1200 ق.م، ولم يستقروا دوماً في الأراضي التي خربوها، ولكنهم أطاحوا بالبنى السياسية القائمة وسوف يبزغ المستقبل من ملكيتهم وليس من المؤسسات الميقينية. إن الصورة مشوشة، وقد انتهى ما يمكن أن نسميه العصور المظلمة لبحر إيجة بين عامة 1000 و 700 ق.ك.
لقد ورثت الأزمنة اللاحقة عن ميقينية أساطير وتقاليد انتقلت شفاهاً من خلال الشعراء، وورثت بالأخص اللغة، وهي شكل بدائي من اليونانية كانت تلك الأساطير تغنى بها، ولهذا السبب صار الناس بعد مئات السنين ينظرون إلى الماضي ويرون في الأخائيين أول الإغريق الحقيقيين. إننا في الحقيقة لا نعرف إلا القليل عما حدث في عهد خلفائهم، ولكننا نعلم بالتأكيد أن تقهقراً كبيراً قد حصل. فقد هبط عدد السكان، كما يبدو أن الكتابة قد انقرضت. ولكن هذا لا يعني أن صانعي الفخار قد توقفوا عن صنعه أو الحدادين قد توقفوا عن شغل المعادن أو الفلاحين عن حراثة الأرض، لأن البشرية كانت قد جمعت رأس مال كبير من الثقافة يسمح للمجتمع بتحمل الضغوط الشديدة. صحيح أن المجتمعات قد تنحدر من ذراها بل قد تنهار أحياناً، إلا أنها تساهم عادة في التراكم البطيء لميراث الجنس البشري بأكمله وفي معرفته وخبرته الجماعية، بحيث يغدو الانكفاء الكامل وغير العكوس إلى البربرية مستبعداً إلا في مناطق صغيرة.