طوال أكثر من ربع قرن أي من عام 431 ق. إلى عام 404 ق.م احتدم صراع كبير تخللته هدنات قصيرة في كافة أنحاء العالم الإغريقي، وسمي هذا الصراع حرب البيلوبونيز لأن أحد طرفيه كان مكوناً من رابطة دول شبه جزيرة البيلوبونيز، التي تتزعمها اسبرطة ضد أثينا. لقد تورطت جميع الدول الإغريقية تقريباً في مرحلة أو أخرى من هذا الصراع، ولم تعرف اليونان قبله حرباً على هذا المدى الواسع، وقد دفعت هذه الحرب ثوقديديس إلى كتابة دراسته التاريخية من أجل تفسير سبب نشوبها، ويتفق المؤرخون منذ ذلك الحين على أنها كانت نقطة تحول في تاريخ الحضارة.
وليس اندلاع هذه الحرب غريباً بالنظر إلى ريبة الإغريق وحساسيتهم، فقد كان السخط يتزايد على سيادة أثينا، وكانت اسبرطة تقود المعارض ضدها فيما يمكن أن نسميه "الحرب الباردة" استمرت 40 سنة. وكان قد اندلع في عام 460 ق.م اقتتال استمر سنوات عديدة، ثم بقيت كل من أثينا واسبرطة مضطرتين لقتال الحلفاء والأتباع المنشقين، ويبدو أن الكثير من الأثينيين كانوا يعتقدون أن نشوب حرب أخرى قد بات أمراً محتماً. كانت أثينا تريد حيازة قصب السبق بين الدول الإغريقية، وكان هذا أمراً لابد من حسمه، وكان الاسبرطيون يخشون نوايا الأثينيين ويحظون بتعاطف الإغريق المعارضين للنظم الديمقراطية التي مافتئت أثينا تزداد تأييداً لها، ثم كانت هناك أيضاً غيرة من ثروة أثينا وسلطتها التجارية، وخاصة بين أهل كورنتس، وهي مثلها مدينة تجارية كبيرة. والحقيقة أن الحرب قد ابتدأت عندما ثارت كركيرا (كورفو الحالية) التابعة لكورنتس واستغاثت بمساعدة الأثينيين، فبدت هذه لبعض الأثينيين فرصة لا تفوت، لأن كركيرا واقعة على طريق هامة جداً نحو الغرب، وكانت السفن في تلك الأزمنة تحاول أن تبقى على مرأى من اليابسة، فكانت لها بالتالي ميزة إستراتيجية هامة. وعندما لبى الأثينيين نداء الكركيريين اشتكى الكورنتسيون إلى الاسبرطيين، كما اشتكت مدن أخرى من طغيان أثينا، إلا أن الزعيم الوطني والمهيج للدهماء بركليس الذي كان يسيطر على أثينا قد ألح على أهل مدينته ألا يقدموا تنازلات، بل قال هم أن أثينا نموذج يحتذى لليونان كلها. وهكذا ابتدأ الاسبرطيون في عام 431 ق.م ما سموه حرب التحرير.
كان حلفاء الأثينيين والاسبرطيين موزعين في كافة أنحاء العالم الإغريقي تقريباً، ولكن يمكنك أن تقول بصورة عامة إن إيونيا والجزر كانت إلى جانب الأثينيين، بينما كانت شبه جزيرة البيلوبونيز إلى جانب الاسبرطيين وكانت المستوطنات تتبع أحياناً مدنها الأصلية وأحياناً أخرى لا تتبعها. أي أن الحرب كانت في الحقيقة بين البحر والبر. كان الإسبرطيون يغزو أرض أثينا في كل فصل من فصول الحملات الحربية، فينسحب الأثينيون إلى ما وراء أسوار مدينتهم، ويتركون أراضيهم عرضة للتخريب والاحتلال، ولكنهم كانوا يؤمنون الغذاء عن طريق البحر، ويقومون بعمليات عسكرية تمتد لمسافات بعيدة. وهكذا ظلت الحرب تسير في طريق مسدود لزمن طويل، لقد عانى الأثينيون في إحدى المرات من الطاعون معاناة رهيبة، ولكن لم يستطع أن يهزمهم الجيش الإغريقي الذي تعوزه أساليب الحصار ومهارات الهندسة المعروفة في جيوش فارس. ومات بركليس في عام 429 ق.م فعقد السلم لبضع سنوات عام 421 ق.م، إلا أن الأثينيين عادوا وحركوا الحرب من جديد فخططوا لحملة كبيرة ضد سيراكوزا (سرقوسة)* وهي أغنى المدن المؤيدة لعصبة البيلوبونيز، ولكن حملتهم انتهت بكارثة فقدوا فيها نصف جيشهم وأسطولهم بأكمله، وفوق هذا فإنها جعلت الإسبرطيينن يطلبون مساعدة الفرس، فمول هؤلاء عندئذٍ أسطولاً لمساعدة المدن التي أرادت رفع نير أثينا، مقابل وعد بعودة سيطرتهم السابقة على المدن الإغريقية في آسيا، وفي هذه المرة تدمر أسطول الأثينيين بعد سنوات طويلة من الاقتتال وعانوا من الحصار والمجاعة، فأكرهوا على الاستسلام.
لقد جرى هذا الصراع إذاً على نطاق واسع لم تعرف اليونان مثله من قبل لأن صد غزوات الفرس السابقة كان عبارة عن معركتين في البحر ومعركتين على البر، كما أن الحروب بين الدول الإغريقية لم تكن أكثر من حملات صيفية قصيرة تنتهي بمعركة بين جيشين من الهبليت. إلى أن لحرب البيلوبونيز هذه أهمية كبرى في نتائجها عدا ضخامتها، يقول ثوقيديدس أنها امتدت فترة هائلة من الزمن، وسببت للإغريق مآسي لم يعهدوها قط، ولم يكسب أحد من هذه الحرب إلا الفرس. لقد حاول الاسبرطيون المنتصرون في البداية إرهاب الدول الإغريقية الأخرى عن طريق قوتهم العسكرية، مثلما كان الأثينيون قد سيطروا عليها من خلال قوتهم البحرية، ولكنهم اضطروا لمحاربة تحالفات أخرى بدورهم، وعندما هزم جيش اسبرطة الشهير في لوكترا في عام 371 ق.م بات من الواضح أن اسبرطة ليست بأقدر من أثينا على السيطرة على المدن الإغريقية وفرض نوع من الوحدة عليها. والحقيقة أن الحرب قد بينت أن أقوى الدول الإغريقية عاجزة عن التمتع بالسيادة المطلقة على الباقيات، فلا كان الإغريق بقادرين على أن يبتعد بعضهم عن شؤون بعض، ولا على قبول سيادة إحدى دولهم على الأخريات. فربما كان وحدة الإغريق مستحيلة ما لم تفرض فرضاً عن طريق الغزو، ولكن لم تكن أي دولة بينهم تملك القوة الكافية لذلك. وكان الكثير منها قد فقدت اكتفاءها الذاتي منذ زمن طويل، وصارت لها مصالح تجارية كثيرة اضطرتها لدخول السياسة في كافة أنحاء العالم الإغريقي من أجل رعايتها. فأثينا مثلاً لم تكن تستطيع العيش من دون استيراد الحبوب وتصدير الخمر والزيت والمصنوعات.
لقد وضعت الحرب أيضاً عبئاً ثقيلاً على الشؤون الداخلية للجماعات الإغريقية، ولكن ينبغي علينا أن نكون حذرين في تقدير هذا الأمر، لأن ما نعرفه عن تاريخ بعضها أكثر بكثير مما نعرفه عن بعضها الآخر. في أثينا أدت الحرب الطويلة إلى التخصص بين الجنود والبحارة فازداد بالتالي استخدام المرتزقة، وظهرت فروق اجتماعية جديدة بسبب التجارة، لأن التجار صاروا أغنياء. وتفاقم الشعور بالظلم بين الفلاحين الذين يرون أراضيهم تخرب المرة تلو الأخرى أثناء المعارك. كما سبب الهجوم على السياسيين الذين تسببوا بهذه الكوارث مرارة كبيرة، وقد ساهمت كل هذه الأشياء في إحداث ثورة وضعت الأوليغرشية محل الديمقراطية لفترة من الزمن. إلا أن الأمر كان أعمق من حلول نظام سياسي محل نظام سياسي آخر، لأن المفهوم القديم لدولة المدينة كوحدة مكونة من مواطنين يشتركون بصورة متساوية في جميع نشاطاتها لم يعد مناسباً للمستوى الذي بلغته الحياة في الدولة.
لقد زالت دولة المدينة في النهاية، ومابرح الناس منذ ذلك الحين يتساءلون عن السبب، إلا أن هناك حقيقة أخرى ربما كانت أهم من هذا السؤال. لقد نظرت العصور اللاحقة إلى اليونان القديمة ورأت فيها نجاحاً هائلاً مهما كانت إخفاقاتها السياسية، وكان الناس يرونها كياناً واحداً لأنهم لم يعرفوا عنها الأشياء الكثيرة التي نعرفها اليوم، كما أنهم لم يعرفوا التقسيمات التي يضعها العلماء الآن بين الأزمنة والأمكنة المختلفة. وقد كانت تلك غلطة مثمرة، لأن الفكرة التي شكلها الناس عن اليونان لا تقل أهمية عن حقيقتها. سوف يُعاد شرح معنى التجربة الإغريقية وتفسيرهاً كثيراً، وسوف تُكتشف اليونان القديمة ويُفكر فيها مراراً، فتُبعث لتحيا بأشكال مختلفة طوال أكثر من ألفي سنة. وسوف يعود الأوروبيون إليها المرة تلو الأخرى لتأمل معانيها، وليس هذا إلا اعترافاً واجباً لها، لأن الحضارة الإغريقية كانت رغم سحاباتها أعظم امتداداً لسيطرة الإنسان على مصيره حتى ذلك الزمان. ولم تتوقف أوروبا قط عن جني فوائد رأس المال الذي وضعته اليونان، ومن خلال أوروبا بلغت ثمار تلك الوديعة العالم بأسره.