من أهم الشعوب القديمة التي اشتغلت بالتجارة فينيقيو بلاد الشام، لقد كان لهم تاريخ طويل ومضطرب، وكانوا يزعمون أنهم قد وصلوا إلى صور في حوالي عام 2700 ق.م، وهو أمر مستبعد. ولكن الشيء الأكيد هو أنهم قد ثبتوا أقدامهم على ساحل لبنان الحالي في الألف الثانية ق.م، عندما كان المصريون يشترون منهم خشب الأرز. لقد كان هذا الشريط الساحلي الضيق هو قناة الاتصال التاريخية بين أفريقيا وآسيا، أما من ورائه فتقع أرض داخلية ضحلة فقيرة بالموارد الزراعية تقطعها الهضاب الممتدة من الجبال إلى البحر، بحيث كان من الصعب على المستوطنات الساحلية أن تتحد فيما بينها. ومثل عرب البحر الأحمر، صار سكان هذه المستوطنات بحارة لأن جغرافية بلادهم قد دفعتهم للتطلع نحو الخارج وليس نحو الداخل.
كان الفينيقيون ضعافاً في بلادهم، خضعوا لسيطرة قوى عديدة الواحدة تلو الأخرى، فليس من قبيل الصدفة إذن أنهم لم يبرزوا إلا بعد أن كانت أيام ازدهار مصر وميقينية والإمبراطورية الحثية قد ولت، أي أنهم قد ازدهروا أثناء تراجع سواهم، فتمتعت المدن الفينيقية بيبلوس* وصور وصيدون** بعصرها الذهبي القصير بعد زمن طويل من انقضاء سيادة المينويين في التجارة. وكانت الكتاب القدامى ومنهم كتاب العهد القديم يشددون على سمعة الفينيقيين كتجار ومستوطنين، وقد بقيت الأصبغة الفينيقية مشهورة ومطلوبة حتى الأزمنة الكلاسيكية. ولابد أن تكون الحاجة التجارية قد حفزت الابتكار لديهم، وإن أبجديتهم هي جد قديم لأبجديتنا، ولو لم يتبق لنا أدب فينيقي هام. كانت التجارة اختصاصهم، وراحوا يتخذون لأنفسهم مراكز ومستوطنات أو محطات تجارية كان غيرهم قد تاجر في بعضها، حتى صارت هناك في النهاية نحو خمس وعشرين مستوطنة على طرفي البحر المتوسط. كانت أولاها لارنكا الحالية بقبرص عند نهاية القرن التاسع ق.م، وكان أبعدها غرباً تقع مباشرة خلف مضيق جبل طارق في موقع مدينة قادش، بل إنهم قد تبادلوا البضائع مع الناس البدائيين في كورنوول***. ربما كان تأسيس هذه المستوطنات انعكاساً لأزمنة مضطربة حلت بالمدن الفينيقية من بعد استقلالها المثمر القصير عند بداية الألف الأولى. وفي القرن السابع سويت صيدون بالأرض وأخذت بنات ملك صور إلى حريم الملك الآشوري، وبذلك لم يبق من فينيقيا سوى مستوطناتها.
كان الفينيقيون والميقينيون تجار حضارة، أما المينويون فكانوا ذوي أصالة حقيقية، لأنهم لم يكتفوا بالأخذ من مراكز الثقافة الراسخة الكبرى، بل أعادوا صنع ما أخذوه قبل أن ينشروه من جديد. إلا أن هذه الشعوب كلها، الوسيطة منها والمبدعة، قد ساهمت في تشكيل عالم ما فتئ يتغير بسرعة. سوف يدفع البحث عن المعادن المستكشفين والمنقبين إلى أصقاع أبعد وأبعد، حتى إلى المجاهل البربرية في شمال أوروبا وغربها، ومابرحت التجارة تفعل فعلها البطيء، فتفتت الانعزال وتغير علاقات الشعوب بعضها ببعض وتفرض على العالم أشكالاً جديدة. ولكن ليس من السهل دوماً أن نربط هذا الأمر بالغليان الإثني في بحر إيجة أو بالتاريخ المضطرب للبر الآسيوي منذ الألف الثانية ق.م فيما بعد.
* جبيل الحالية
** صيدا الحالية
*** في أقصى جنوب إنكلترا
الميقينيون*
قبل ذلك ببضعة قرون كانت الثقافة الكريتية قد أثرت تأثيراً كبيراً في البر الرئيسي لليونان، وكانت تعيش فيه بقايا شعوب نيوليتية سماها الإغريق اللاحقون Pelasgoi ، بقيت موزعة في شمال بحر إيجة حتى عام 500 ق.م. ولكن كان قد حل محلها عندئذٍ أو غزاها شعب اعتبره الإغريق اللاحقون أجدادهم وكانوا يسمونهم ”الأخائيين”. كان الأخائيون قد وصلوا إلى سهل الأتيك وشبه جزيرة البيلوبونيز في نحو عام 2500 ق.م، وكانوا يتحدثون لغات هندية أوروبية، وكانوا رعاة غنم يحبون الحرب ويعرفون استخدام العربات، ويبدو أنهم أعطوا الرجال أهمية أكبر بكثير من النساء في المجتمع، كما كانت أصنامهم مختلفة جداً عن أصنام الديانات المتمحورة حول آلهة أنثوية كانت سائدة في الشرق الأدنى وبحر إيجة قبل وصولهم مباشرة، وكانوا برابرة بالقياس إلى الكريتيين.
لقد كان بين مستوطنات الأخائيين مستوطنة واقعة في واد بشبه جزيرة البيلوبونيز هي ميقينية، التي صارت مركز حضارة، كانت ميقينية أكثر تقدماً بكثير من كل ما ظهر قبلها في اليونان، إلا أنها أقل تقدماً من حضارة كريت المينوية، وكانت تدين لها بالكثير. وقد ظهرت هذه الحضارة في نحو عام 1600 ق.م، وانتشرت خلال خمسة أو ستة قرون في الجزء الأكبر من بر اليونان، وفي نحو عام 1300 ق.م كان الملوك الحثيون في الأناضول يكتبون إلى ملك ميقينية كرجل بارز يحرصون على التعامل معه. ولم تكن ميقينية ذات إدارة كبيرة وأرشيف معقد مثل الإمبراطوريات الشرقية، بل ربما كان لملوكها مجالس يستشيرونها مكونة من الزعماء. وتظهر الرقم التي وجدت في بيبلوس في غرب البيلوبونيز وجود ما يشبه طبقة من الموظفين وهي علامة على التأثير المينوي، ولكن ربما كان أكثر منطقية أن نعتبر المجتمع الميقيني أشبه بمجموعة من الأملاك الكبيرة، إحداها تابعة لملك من درجة بارزة من المكانة والقوة تجعل الآخرين يقبلون به سيداً عليهم، أي ربما لم يكن تنظيمها أكثر من تنظيم قبلي أو عائلي مطور قليلاً وتحت زعامة ملوك.
لم تترك الحضارة الميقينية أشياء كثيرة، عدا عن بعض الأبنية الباهرة وأغراضاً ذهبية متقنة. ولقد صار أولئك البرابرة بمرور القرون ”ميقينيين”، وكانوا أعلى حضارة من الـPelasgoi ، إلا أن الشيء الأساسي الذي بقي يميزهم إنما هو قدرتهم القتالية. وقد انتشرت مهارات ميقينية الباهرة إلى كثير من جزر بحر إيجة عندما حلت سيادة المقينيين التجارية محل سيادة المينويين في حوالي عام 1400 ق.م. وكانت صادراتهم الفخارية تحل أحياناً محل الصادرات المينوية، كما وجدت في ميقينية خرزات مصنوعة في بريطانيا من كهرمان البلطيق، وربما صارت هذه الشعوب غنية بفضل التجارة فاكتسبت أهمية تفوق حجمها، بينما كانت القوى العظمى مثل مصر والإمبراطورية الحثية تعاني من المصاعب في عصر سادت فيه هجرات الشعوب.
* أو الميسينيون the Mycenaeans وتسمية ميقينية أقرب إلى اللفظ اليوناني Mukenai وهي المتعمدة في المنجد في الأعلام