رغم تقلب السياسة في الصين كان فيها تيار ثابت وواضح نحو إرخاء التشدد في بعض قطاعات الاقتصاد، منذ وفاة ماو في عام 1976 وخلال بضع سنوات بدأت تسمع التحفظات حول إنجازاته في التصريحات الرسمية، وأصبحت الشخصية المهيمنة في حكم الشيوخ هذا هي شخصية تنغ سياو بينغ الذي ارتبط اسمه بالتحرر الاقتصادي.
وصار التحديث يقدم شيئاً فشيئاً على الاشتراكية ولو أن الشعارات الماركسية الطنانة ظلت على حالها، كما لم يكن ثمة احتمال في أن يتنازل الحزب الشيوعي عن شيء من سلطته السياسية، وفي الثمانينيات بدأت سياسات تنغ تعطي أخيراً تغيرات بارزة في الأداء الاقتصادي للصين.
ولكن هذه التغيرات لم تتم عن طريق إفلات السيطرة على الأمور، بل إن زعماء الصين كانوا مصممين على إبقاء قبضتهم محكمة، لقد ساعدهم في كسب تأييد الناس ودعمهم استمرار قواعد الانضباط الاجتماعية القديمة، وارتياح الملايين للتخلي عن الثورة الثقافية، والسياسة الاقتصادية القائمة على إعادة توزيع المكاسب على الفلاحين بعكس الماركسية كما ظل ينادى بها في موسكو حتى عام 1980.
وحصل تحول أساسي في السلطة من الوحدات الريفية التي أنشأت في الخمسينيات والتي لم تعد لها أهمية عملية، إلى المزرعة العائلية التي عادت بحلول عام 1985 لتصبح الشكل السائد من الإنتاج الزراعي في أكثر أنحاء الصين.
وصار الكثير من الصينيين يرون أن بلادهم باتت تتمتع باحترام ومكانة جديدين، ومن العلامات اللافتة على ذلك الزيارة الرسمية التي قامت بها الملكة إليزابيث الثانية في عام 1985، والتي جاءت بعد نجاح المفاوضات مع المملكة المتحدة والبرتغال حول عودة سيادة الصين على هونغ كونغ وماكاو.
ولكن المصاعب بدأت تظهر خلال سنوات قليلة، إذ ارتفع الدين الخارجي ارتفاعاً كبيراً وبلغ التضخم في نهاية العقد معدلاً سنوياً قدره حوالي 30%. وازداد الغضب بسبب انتشار الفساد، كما كان من المعروف وجود انقسامات ضمن القيادة نفسها.
وبدأ الراغبون بإعادة تثبيت السيطرة السياسية يكسبون المزيد من النفوذ، وراحوا يناورون لاستمالة تنغ سياو بنغ، كانت سياسة التحرر الاقتصادي قد دفعت المراقبين الغربيين إلى توقعات متفائلة للغاية وغير واقعية بأن يتبعها تحرر سياسي، وكانت التغيرات الجارية في أوروبا الشرقية وفي الصين نفسها أيضاً تغذي هذه الآمال، إلا أن هذا الوهم مالبث أن تلاشى.
في الأشهر الأولى من عام 1989 كان سكان المدن يشعرون بالضغوط الناجمة عن التضخم الحاد وبالإجراءات التقشفية التي فرضت لمعالجة أمره. وفي هذه الأجواء تعالت مطالب الطلبة من جديد بالإصلاح السياسي. وقد شجعهم وجود متعاطفين مع التحرر بين الأقلية الحاكمة، فطالبوا بأن يفتح الحزب والحكومة حواراً مع اتحاد الطلبة، وهو تنظيم رسمي شكل حديثاً، حول مواضيع الفساد والإصلاح.
وراحت الملصقات والتجمعات تنادي بقدر أكبر من الديمقراطية، وشعرت القيادة بالخطر ورفضت الاعتراف باتحاد الطلبة لأنها خشيت أن يكون نذيراً بحركة جديدة مثل حركة الحراس الحمر، فحصلت المظاهرات عندئذٍ ومع اقتراب الذكرى السنوي السبعين لحركة الرابع من أيار/مايو راح الطلاب يستحضرون ذكراها من أجل أن يضفوا على حملتهم صبغة وطنية واسعة.
ولم يقدروا على استثارة تأييد كبير في الريف ولا في المدن الجنوبية، إلا أن التعاطف الواضح من المراكز العليا في الحزب قد شجعهم على بدء إضراب جماعي عن الطعام حظي بتعاطف وتأييد شعبيين واسعين في بكين.
يبدو أن أعلى أعضاء الحكومة بمن فيهم تنغ سياو بنغ قد شعروا بتخوف شديد وكانوا يعتقدون أن الصين تواجه أزمة كبرى، وكان بعضهم يخشون ثورة ثقافية جديدة ، وكان ابن تنغ سياو بنغ مصاباً بإعاقة بسبب الأذى الذي أصابه على يد الحراس الحمر أثناء تلك الثورة، كما كان آخرون يشعرون بالخوف بسبب الأحداث الجارية في الاتحاد السوفييتي.
فأعلنت الأحكام العرفية في 20أيار/مايو ، وبعد تردد قصير تم قمع الحركة بلا رحمة. لقد كان زعماء اتحاد الطلبة مخيمين في بكين في ساحة تيان آن من، حيث أعلن ماو قبل ثلاثين سنة تأسيس جمهورية الصين الشعبية، وكانت هناك صورة ضخمة له معلقة على إحدى بوابات المدينة المحرمة القديمة وكأنه ينظر إلى الرمز الذي يحمله المحتجون، وهو تمثال شامخ من الجص لآلهة الديمقراطية التي توحي عمداً بتمثال الحرية في نيويورك.
وفي الثاني من حزيران/يونيو دخلت أولى الوحدات العسكرية ضواحي بكين، فأزاحت المقاومة والحواجز، وبعد يومين فرقت الطلاب والمتعاطفين معهم بنار البنادق والغاز المسيل للدموع وبسحق وحشي للمخيم تحت جنازير الدبابات التي اكتسحت الساحة. واستمر القتل والاعتقالات الجماعية بضعة أيام، وربما بلغ عدد المعتقلين الكامل عشرة آلاف، وقد جرت أكثر هذه الأحداث أمام نظر العالم بفضل وجود المصورين الذين كانوا ينقلون أخبار مخيم المتظاهرين لمشاهدي التلفزيون، ولقيت شجباً واستنكاراً عالميين.
ولكن المعنى الحقيقي لهذه الحادثة مازال غير واضح، مثلما كانت الحال دوماً في الصين، من الواضح أن زعماءها شعروا أنهم يواجهون خطراً جسيماً، إلا أن الجماهير الريفية لم تتعاطف مع المحتجين، وقد تلت ذلك تغييرات في الهرم الحاكم ومحاولات حثيثة لفرض السياسة التقليدية، كما تم كبح التحرر الاقتصادي وبدأت تسمع الشعارات الماركسية الجديدة مرة ثانية، وكان من الواضح على الأقل أن الصين لاتسير على درب أوروبا الشرقية أو الاتحاد السوفييتي، الذي كان موته أبلغ علامة على نهاية حقبة كاملة.
نهاية الحرب الباردة
كان عام 1980 عام الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وقد استغل فيه المرشح الجمهوري رونالد ريغان مخاوف الأمريكيين من الاتحاد السوفييتي، وعندما استلم منصبه كرئيس جمهورية ورث عجزاً هائلاً في الميزانية، وسوف يزيده، وخيبة آمال الناس بالمبادرات الأخيرة للروس في أفريقيا وأفغانستان والتي كانت تبدو مبادرات ناجحة، كما استغل خوفهم مما اعتبروه انقلاباً في توازن الأسلحة النووية الذي كان سائداً في الستينيات.
وقد أعاد ريغان معنويات مواطنيه خلال السنوات الخمس التالية عن طريق أعمال قيادية بارزة وأكثرها تجميلية، وجرت حادثة تحمل رمزياً في يوم توليه لمنصبه هي إطلاق الإيرانيين سراح الرهائن الأمريكان، فكانت تلك خاتمة حادثة مهينة ومحبطة، كما أنه أنهى الحرب الباردة.
لقد أثار انتخاب ريغان العداء والشكوك بين القادة المحافظين في الاتحاد السوفييتي، إذ بدا أن الرئيس الجديد قد يطرح جانباً الخطوات الواعدة نحو نزع الأسلحة، بل ربما أكثر من ذلك، وقد أبدت الإدارة الأمريكية نزعة عملية واضحة في الشؤون الخارجية، بينما كانت التغيرات الداخلية الجارية في الاتحاد السوفييت تمهد الطريق لمزيد من المرونة.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر توفي ليونيد بريجينيف بعد أن ظل أميناً عاماً للحزب طوال ثماني عشرة سنة، وجاء بعده خليفتان لم يستمرا إلا فترة وجيزة قبل أن يستلم المنصب في عام 1985 رجل في الرابعة والخمسين كان أصغر أعضاء المكتب السياسي، ألا وهو ميخائيل غورباتشوف.
كانت خبرة السيد غورباتشوف السياسية كلها تقريباً في حقبة ما بعد ستالين، ومازال تأثيره على بلاده وعلى تاريخ العالم بحاجة لتقييم صحيح، وكانت دوافعه الشخصية وتفاعل القوى التي دفعته إلى الخلافة،إلا أنه كان بلا ريب تأثيراً هائلاً. وسرعان مابينت أعماله وخطاباته مقاربة جديدة للأمور.
وقد اعتبر نهجه في الغرب نهجاً تحررياً، إذ لم يكن مصطلحات تعبر عن الكلمتين اللتين طالما استخدمهما أي الغلاسنوست (الانفتاح) والبيريسترويكا (إعادة الهيكلة)، وسوف يؤدي هذا إلى نتائج عميقة وحادة، فها هو ذا أخيراً زعيم سوفييتي يعترف بأن اقتصاد بلاده لم يعد قادراً على دعم قوته العسكرية السابقة والتزاماته نحو حلفائه في الخارج، ولا على تحسين مستويات المعيشة في الداخل ولو ببطء، ولا على تأمين التجدد التقني الذاتي.
وفوق كل هذا كانت الحكومات الأمريكية تعد مواطنيها بمشروع جديد من الإجراءات الدفاعية في الفضاء الخارجي هو أشبه مايكون بالعجائب، ورغم أن آلاف العلماء قالوا أنه غير واقعي فإن الحكومة السوفييتية لم تكن قادرة على مواجهة التكاليف المترتبة على منافسة مشروع كهذا، لقد بات الاتحاد السوفييتي بحاجة للتحديث من جديد، وسوف تترتب على ذلك نتائج هائلة.
وسرعان ما ظهر النهج الجديد لغورباتشوف في لقاءاته مع ريغان التي كان أهمها في أيسلندا في عام 1986، فتجدد النقاش حول تخفيض الأسلحة كما تم التوصل إلى اتفاقيات حول مواضيع أخرى، خاصة موضوع انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان حيث كانت غائصة في مستنقع من حرب العصابات، وقد غادرتها عام 1989.
أما الولايات المتحدة فكانت تعاني من عجز هائل في الميزانية واقتصاد واهن، ولكن هذه الأزمات غابت عن الأنظار في خضم البهجة العارمة الناتجة عن التبدلات المتسارعة في المشهد الدولي.
وكبر التفاؤل مع ظهور علامات الانقسام المتزايد ضمن الاتحاد السوفييتي وصعوبة إصلاحه لشؤونه، لقد عجز ريغان عن إقناع مواطنيه بأهمية التركيز على مصالح الولايات المتحدة في أمريكا الوسطى، ولكنه كان على درجة عالية من الشعبية عندما أنهى رئاسته، ولم يتضح للأمريكيين إلا بعد أن ترك منصبه أن هذا العقد قد سبب لهم تراجعاً في دخولهم، والحقيقة أن سياسة ريغان لم تسمح إلا للأغنياء أن يزدادوا غنى.
في عام 1987 أعطت المفاوضات حول الحد من الأسلحة ثمارها في اتفاقية حول الصواريخ المتوسطة المدى، وسوف تتلوها اتفاقيات أخرى، وكانت التوازن النووي قد صمد بالرغم من الصدمات الكثيرة التي مر بها ومن ظهور بؤر جديدة من القوة النووية، وقد بينت القوتان العظميان أنهما قادرتان على تدبير صراعاتهما وأزمات العالم من دون حرب شاملة، ويبدو أنهما كانتا تدركان أن الحرب النووية إن حدثت فيه تحمل خطر إفناء البشرية كلها، ولو لم تدرك هذه الحقيقة الدول الأخرى الساعية للحصول على تلك الأسلحة. وهكذا اتفق الطرفان في عام 1991 على تخفيض جديد وكبير جداً في مخزون الأسلحة الموجودة.
غورباتشوف
الثورة في أوروبا الشرقية
إن هذه التغيرات الواسعة في المشهد العالمي كانت لها نتائج واسعة أيضاً، كان يبدو في نهاية عام 1980 أن قبضة السوفييت على أوروبا الشرقية مازالت محكمة تماماً، ولكن وراء هذه الصورة كانت تجري منذ زمن طويل تغيرات اجتماعية وسياسية ضمن دول حلف وارسو.
كانت تلك الدول كلها تبدو متشابهة للوهلة الأولى، فالحزب الشيوعي هو السلطة العليا في كل منها، والوصوليون يبنون حياتهم ومسيرتهم المهنية من حوله مثلما كان الأمر في عصور أقدم حين كان الطامعون بالمال والسلطة يتحلقون حول الملوك والسادة. وكان في جميع هذه الدول خاصة في الاتحاد السوفييتي نفسه، ماض فظيع لم يقم أحد بفحصه والحديث عنه من أجل كشف عيوبه ونقدها، بل ظل ينوء بكلكله على الحياة الفكرية ويفسدها.
أما اقتصاد أوروبا الشرقية فقد حصل فيها استثمار في الصناعات الثقيلة والبضائع الرأسمالية أدى في البداية إلى نمو سريع، كان أنشط في بعضها منه عن بعضها الآخر، ثم جرت ترتيبات تجارية مع الدول الشيوعية الأخرى قيدت نشاطها على المستوى الدولي، وقد هيمن عليها الاتحاد السوفييتي وجمدتها محاولات التخطيط المركزي، فصارت تزداد عجزاً عن تلبية حاجات شعوبها إلى بضائع تعتبر عادية في أوروبا الغربية.
وبقي الإنتاج الزراعي منخفضاً فظلت المردودات الزراعية في أكثر دول أوروبا الشرقية تعادل نصف إلى ثلاثة أرباع مردودات الغرب فقط، وفي الثمانينيات كانت كلها بدرجات مختلفة في حالة من الأزمة الاقتصادية ربما باستثناء ألمانيا الشرقية، التي كان الإنتاج المحلي الإجمالي السنوي للفرد فيها 9.300 دولار في عام 1988 مقال 19.500 دولار في ألمانيا الغربية.
كان بريجينيف يصر على أن التطورات الجارية في دول الكتلة الشرقية قد تستدعي تدخلاً مباشراً من أجل حماية المصالح السوفييتية كما حدث في تشيكوسلوفاكيا في عام 1968، وربما كانت هذه نظرة واقعية للأمور واعترافاً بالأخطار التي يشكلها الاضطراب والانشقاق في أوروبا الشرقية على الاستقرار الدولي.
أما الدول الغربية فلم تكن التغيرات الداخلية الجارية فيها تشكل خطراً على السلام، إذ كانت تزداد غنى وازدهاراً باطراد وكانت قد ابتعدت عن ذكريات أواخر الأربعينيات وعن احتمال حدوث خراب في مجتمعاتها,
وبحلول عام 1980 كانت قد حصلت تغيرات ثورية في إسبانيا والبرتغال، فلم تبق ثمة دكتاتورية إلى الغرب من الخط الواصل بين مدينتي ترسيتا *وشتيتن**بل كانت الديمقراطية قد انتصرت في كل مكان، وظلت ثورات العمال الصناعيين ضد السلطة السياسية مقتصرة طوال ثلاثين عاماً على ألمانيا الشرقية وهنغاريا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا، وكلها دول شيوعية واللافت أنه عندما حدثت اضطرابات طلابية في باريس في عام 1968 وحطمت أعمال الشغب التي قاموا بها هيبة الحكومة، لم تتحرك الطبقة العاملة في باريس، ومع ازدياد الوعي في الكتلة الشرقية للفروق الحادة عن الغرب ظهرت فيها جماعات منشقة وتمكنت من الاستمرار بل حتى من تقوية مواقعها بالرغم من القمع الشديد.
وقد ساعدت اتفاقية هلسنكي لعام 1975 في ذلك، وكذلك البث الإذاعي والتلفزيوني الآتي من ألمانيا الغربية، وشيئاً فشيئاً بدأ بعض المسؤولين الإداريين والمختصين بالاقتصاد وحتى بعض أعضاء الحزب يشكون بمبدأ التخطيط المركزي.
إلا أن مفتاح الاستقرار في الشرق ظل الجيش السوفييتي، ولم يكن ثمة ما يدعو إلى احتمال حدوث تغير أساسي في أي من دول حلف وارسو مادام هذا الجيش موجوداً هناك لدعم الحكومات الخاضعة للاتحاد السوفييتي.
الدور الرائد لبولندا
لقد ظهرت أولى بوادر التغيير في الثمانينيات في بولندا، لطالما كان البولنديون يتطلعون إلى الكنيسة الكاثوليكية في روما لتأييدهم والتعبير عنهم، وقد ازدادت ثقتهم بها بعد أن جلس على الكرسي البابوي رجل بولندي في عام 1978.
وكانت الكنيسة الكاثوليكية تؤيد العمال الذين احتجوا في السبعينيات على السياسة الاقتصادية وتدين معاملتهم على يد السلطات، ثم جاء عام 1980 الذي كان عام متأزم في بولندا حصلت في سلسلة من الإضرابات بلغت ذروتها في صراع ملحمي في مركز بناء السفن بمدينة غدانسك دانتزيغ وبرزت من خلال ذلك نقابة عمالية جديدة تنظمت بصورة عفوية هي نقابة التضامن، فأضافت مطالب سياسية إلى الأهداف الاقتصادية للمضربين، ومنها المطالبة بنقابات عمالية حرة ومستقلة.
وكان زعيم نقابة التضامن هذه رجلاً بارزاً ذا شخصية جذابة ومثيرة هو ليش فاليسا، الذي سجن مراراً وكان كاثوليكياً ورعاً وعلى صلة وثيقة برجال الكنيسة البولندية، وكانت بوابات مركز بناء السفن هذا مزينة بصور البابا وقد أقام المضربون صلوات في الهواء الطلق.
وترعرعت الحكومة البولندية فأقدمت على تنازل تاريخي هام عندما اعترفت بنقابة التضامن كنقابة عمالية مستقلة ذات حكم ذاتي، إلا أن الاضطرابات ظلت مستمرة، وازدادت الأزمة عمقاً بحلول الشتاء، وصرت تسمع تهديدات باحتمال تدخل الجيش السوفييتي إلا أنه لم يتدخل، وقد كانت هذه واحدة من أولى علامات التغير في موسكو ومقدمة لكل ما جرى بعد ذلك.
ومابرح التوتر يتصاعد وقد جاء القائد الروسي لقوات حلف وارسو خمس مرات إلى وارسو، وفي المرة الأخيرة خرج راديكاليو نقابة التضامن عن سيطرة فاليسا وراحوا ينادوا بإضراب عام، وأعلنت الأحكام العرفية في 13 كانون الأول/ديسمبر، ثم قمعت الحركة بصورة ضارية ربما بينت أن لاحاجة للغزو السوفييتي.
فتحولت نقابة التضامن عند ذاك إلى العمل السري، وبدأت سبع سنوات من زيادة التدهور الاقتصادي ومن التنظيمات والمنشورات السرية والإضرابات والمظاهرات والإدانات الكنسية المستمرة للنظام. ولكن بعد عام 1985 بدأت التغيرات الجارية في موسكو تعطي تأثيرها على الدول الأخرى في حلف وارسو، وقد بلغت ذروتها في عام 1989.
لقد ابتدأ ذلك العام بقبول الحكومة البولندية بمشاركة الأحزاب والمنظمات السياسية الأخرى بما فيها نقابة التضامن في العملية السياسية، وجرت الانتخابات في حزيران/يونيو وكانت بعض المقاعد فيها معروضة للمنافسة الحرة ففازت بها نقابة التضامن فوزاً ساحقاً.
وسرعان ما شجب البرلمان الجديد الاتفاق الألماني الروسي العائد لشهر آب/أغسطس 1939 وأدان غزو تشيكوسلوفاكيا في عام 1968، ونظم التحقيقات في جرائم القتل السياسي المرتكبة منذ عام 1981 وأعلن فاليسيا في آب/أغسطس أن نقابة التضامن سوف تؤيد حكومة ائتلافية، وأصدر غورباتشوف تصريحاً رسمياً حاسماً بأن هذا الأمر مشروع، وكانت الوحدات العسكرية السوفييتية قد غادرت البلاد في ذلك الحين، وفي شهر أيلول/سبتمبر استلم الحكم ائتلاف تسيطر عليه نقابة التضامن ويرأسه أول رئيس وزراء غير شيوعي، منذ عام 1945، وسرعان ما وعد الغرب بتقديم مساعدات اقتصادية، وبحلول عيد الميلاد كانت جمهورية بولندا الشعبية قد زالت من التاريخ وبعثت جمهورية بولندا التاريخية من قبرها.
لقد قادت بولندا أوروبا الشرقية إلى الحرية، وشعر الزعماء في الدول الشيوعية بالخوف من الأحداث الجارية هناك، كما أن أوروبا الشرقية كلها كانت قد تعرضت بدرجات مختلفة لسيل متنام من المعلومات حول الدول غير الشيوعية، خاصة من خلال التلفزيون، الذي كانت له أهمية بارزة في ألمانيا الشرقية وازدياد حرية التنقل وزيادة الحصول على الكتب والصحف الأجنبية بعد معاهدة هلسنكي.
أي أن الوعي كان قد بدأ بالتغير قبل أن يستلم الرئيس غورباتشوف السلطة، وسرعان ما تبين أنه أطلق تغيرات دستورية ثورية في الاتحاد السوفييتي. لقد كانت الخطوة الأولى هي سحب السلطة من الحزب الشيوعي، فانتهزت هذه الفرصة قوى لمعارضة الجديدة الناشئة خاصة في جمهوريات الاتحاد التي بدأت تطالب بقدر من الحكم الذاتي.
إلا أن النتيجة الاقتصادية كانت مروعة، وبات من الواضح أن الانتقال إلى اقتصاد السوق سواء كان بطيئاً أو سريعاً فإنه سوف يفرض على المواطنين السوفييت مشاق أكبر بكثير مما كانوا يتصورون.
وفي عام 1989 كان الاقتصاد السوفييتي قد خرج عن نطاق السيطرة، ومابرح يتدهور، لقد كانت عمليات التحديث طوال تاريخ روسيا تنطلق من المركز إلى المحيط من خلال البنى الدكتاتورية، إلا أن هذا الأمر لم يعد ممكناً الآن، بسبب مقاومة بيروقراطيي الاقتصاد الموجه.
نهاية النظام الشيوعي
مع توافر المزيد من المعلومات عن الاتحاد السوفييتي صار بالإمكان تشكيل أفكار تقريبية عما يجري داخله، وكان من هذه الأفكار أن فقدان الثقة بالحزب والطبقة الحاكمة عميق جداً وأن الانهيار الاقتصادي يطغى على تحرير العمليات السياسية مثل غيمة ثقيلة، وبدأ المواطنون السوفييت يتحدثون عن احتمال نشوب حرب أهلية.
إن ارتخاء القبضة الحديدية قد كشف عن قوة المشاعر الوطنية والمحلية عندما يهيجها الانهيار الاقتصادي والفرص السانحة، فبعد سبعين عاماً من بذل الجهود لصنع مواطنين سوفييت انكشف الاتحاد السوفييت فجأة كمجموعة من الشعوب المتباينة مثلما كانت من قبل. وكان بعضها سريعاً في التعبير عن استيائه من أوضاعه خاصة في جمهوريات البلطيق الثلاث لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، وازدادت مشاكل أذربيجان وأرمينيا تعقيداً بسبب شبح القلاقل الإسلامية الذي كان يلوح في كافة أنحاء الاتحاد، والأسوأ من كل هذا أن البعض صاروا يخشون حدوث انقلاب عسكري.
وكثرت علامات التفكك بينما تمكن غورباتشوف من البقاء في مكانه بل حصل أيضاً على بعض التعزيزات الرسمية لسلطته الإسمية ولكنها ألقت بمسؤولية الفشل على كاهله أيضاً، وفي آذار/مارس 1990 أعاد البرلمان الليتواني تثبيت استقلال ليتوانيا وجرت مفاوضات معقدة جنبت هذه الجمهورية القمع المسلح على يد القوات السوفييتية، ثم تبعتها لاتفيا وإستونيا بشروط مختلفة اختلافاً بسيطاً.
وقبل غورباتشوف تعهدات بأن تضمن هذه الجمهوريات الثلاث استمرار خدمات عملية معينة للاتحاد السوفييتي، ولكن بنهاية العام كانت كل التعهدات قد فات أوانها ولم تعد ممكنة عملياً، وكانت برلمانات تسع جمهوريات أخرى في ذلك الحين قد أعلنت عن نفسها كدول ذات سيادة أو ثبتت قدراً كبيراً من الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي.
فكانت بعضها قد جعلت لغاتها المحلية لغات رسمية وبعضها قد نقلت الوزارات والهيئات الاقتصادية السوفييتية إلى أيدي السلطات المحلية، وراحت الجمهورية الروسية وهي أهم الجمهوريات تدير اقتصادها بصورة منفصلة عن الاتحاد السوفييتي، وعزمت الجمهورية الأوكرانية على تأسيس جيش خاص بها، وقالت في عام 1991 أنها تسيطر على كافة القوات السوفييتية الموجودة على أراضيها وعلى أسلحتها النووية، ووقف العالم يتابع هذه الأحداث بذهول وقلق.
وأدركت بقية دول حلف وارسو بسرعة أن هذا الاتحاد السوفييتي الذي مابرح ينخره الانقسام والشلل لن يتدخل وربما لايقدر أن يتدخل لدعم الكيانات التي اصطنعها في الإدارات الشيوعية.
كان الهنغاريون قد ساروا في طريق التحرر الاقتصادي بسرعة مثل البولنديين حتى قبل التغيرات السياسية الصريحة، إلا أن أهم مساهمة لهم في انحلال أوروبا الشيوعية أتت في آب/أغسطس 1989، عندما سمحوا للألمان القادمين من ألمانيا الشرقية بدخول هنغاريا بحرية كمنفذ للغرب،وقد تم فتح حدود هنغاريا بشكل كامل في أيلول/سبتمبر ثم تبعتها تشيكوسلوفاكيا ومالبث التيار أن تحول إلى طوفان.
وقد علق الروس على هذه الأحداث أنها غير مألوفة، وكانت هذه بداية النهاية لألمانيا الشرقية التي كانت على وشك الاحتفال بأربعين عاماً من النجاح كدولة اشتراكية في احتفال خططت له بعناية كبيرة وتبجحت به أيما تبجح. وفي عشية هذا الاحتفال وأثناء زيارة غورباتشوف الذي أجفل الشيوعيين الألمان إذ بدا أنه يستحث الألمان الشرقيين على انتهاز هذه الفرصة، اشتبكت شرطة مكافحة الشغب بمظاهرات معادية للحكومة في شوارع برلين.
وابتدأ شهر تشرين الثاني/نوفمبر بالمزيد من المظاهرات في مدن كثيرة ضد هذا النظام الذي بات فساده أمراً واضحاً، وفي التاسع من الشهر تم أعظم حدث رمزي، ألا وهو اختراق سور برلين فاستسلم المكتب السياسي للحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية مالبث أن تلا ذلك تدمير بقية السور.
لقد تبين الآن أن الحكومات الشيوعية في كافة أنحاء أوروبا الشرقية ليست لها شرعية في نظر رعاياها، وكانت النتيجة هي المطالبة بانتخابات حرة، فمنح البولنديون أنفسهم دستوراً جديداً وفي عام 1990 أصبح ليش فاليسا رئيساً للجمهورية.
وكانت هنغاريا قبل ذلك بقليل قد انتخبت برلماناً انبثقت عنه حكومة غير شرعية وبدأ الجنود السوفييت ينسحبون من هذا البلد. وفي حزيران/يونيو 1990 أعطت الانتخابات في تشيكوسلوفاكيا حكومة حرة وسرعان ما اتفق على أن تغادرها القوات السوفييتية بحلول شهر أيار/مايو 1991.
أما في بلغاريا فكانت التطورات أقل حسماً لأن أعضاء الحزب الشيوعي تحولوا إلى مصلحين وكسبوا الأغلبية، بينما مرت رومانيا بثورة عنيفة انتهت بقتل دكتاتورها الشيوعي السابق بعد انتفاضة في كانون الأول/ديسمبر 1989 كشفت عن انقسامات داخلية كانت تنبئ بقدوم المزيد من النزاع.
إلا أن التغيرات التي جرت في ألمانيا كانت أهمها على الإطلاق، لقد كشف اختراق السور أن ليس من إرادة سياسية لدعم الشيوعية ولا حتى لدعم الدولة، ولاح فجأة موضوع توحيد ألمانيا، فجرت انتخابات عامة هناك في آذار/مارس 1990 أعطت الأغلبية لائتلاف يسيطر عليه الديمقراطيون المسيحيون وهم الحزب الحاكم في جمهورية ألمانيا الفيدرالية الغربية، فلم يعد ثمة شك بموضوع الوحدة بل بقي أن تحدد تفاصيل العملية وتوقيتها.
ففي تموز/يوليو 1990 انضمت ألمانيا الشرقية والغربية في اتحاد مالي اقتصادي واجتماعي، وفي تشرين الأول/أكتوبر أصبت الجمهورية الألمانية الديمقراطية الشرقية جزءاً من الجمهورية الفيدرالية.
والغريب أن أحداً لم يعبر عن تخوف صريح من هذا التغير العظيم ولا حتى في موسكو، ولكن لاريب أن التخوف كان موجوداً، وسوف تكون ألمانيا الجديدة أكبر قوة أوروبية إلى الغرب من روسيا، التي انكسفت سلطتها الآن كسوفاً لم تعرفه منذ عام 1918. وقد كافأ غورباتشوف ألمانيا الجديدة هذه بمعاهدة تعدها بمساعدات اقتصادية وتحديث سوفييتي.
ويمكننا أن نضيف هنا، طمأنة لأولئك الذين يذكرون أحداث 1941-1945، أن هذه الدولة الألمانية الجديدة لم تكن نفسها ألمانيا القديمة، بل كانت مجردة من الأراضي الألمانية الشرقية القديمة التي تخلت عنها رسمياً، ولم تكن تسيطر عليها بروسيا مثلما كانت الحال في إمبراطورية بسمارك وجمهورية فايمار. وإن ما يدعو إلى الاطمئنان أكثر خاصة لدى المتخوفين في أوروبا الغربية هو أن هذه الجمهورية دولة فيدرالية دستورية وناجحة على الصعيد الاقتصادي وتحمل حوالي أربعين عاماً من الخبرة في السياسة الديمقراطية الناجحة لتبني عليها مستقبلها، كما أنها مندمجة تماماً ضمن أوروبا الغربية الديمقراطية.
إلا أن المشهد لم يكن مطمئناً في البلاد الأخرى، وسرعان ما لاحظ بعض المراقبين أن ظهور الانقسامات القومية الجديدة والقديمة بات متفشياً في أوروبا الشرقية بصورة عداوات لدودة، فقد تباعد التشيك والسلوفاك، وراح البلغار يغتمون لوجود مواطنيهم الأتراك فيما بينهم، وكذلك الهنغاريون والرومانيون حول ترانسلفانيا.
والأهم من هذا أن المنطقة برمتها كانت ترزح تحت عبء الفشل الاقتصادي الثقيل الذي يهددها، فربما أتى التحرر إليها ولكنه أتى إلى شعوب ومجتمعات على مستويات متباينة جداً من الرقي والتطور ومن أصول تاريخية مختلفة جداً أيضاً.
وفي عام 1991 أصيب المتفائلون بإمكانية التغيير السلمي بصدمة رهيبة عندما أعلنت اثنتان من الجمهوريات المكونة ليوغوسلافيا أنهما قررتا الانفصال عن هذه الدولة الفيدرالية، وقد كان وراء هذا القرار عداوات قومية قديمة ظلت مكبوتة على عهد الجمهورية الشيوعية. وفي شهر آب/أغسطس بدأ القتال بصورة متقطعة بين الصرب والكروات، واتخذت الدول الأخرى مواقف مختلفة من هذا الصراع لأن محاولات التدخل الخارجية السابقة في الصراعات الأهلية لم تكن تبشر بالخير، وقد أصبحت هذه الحقيقة أكثر وضوحاً عندما أصبح مسلمو البوسنة هدفاً لهجمات الصرب، وفي عام 1992 وافقت الأمم المتحدة على إرسال قوات من الدول الأعضاء فيها لضمان وصول المساعدات الإنسانية، بينما راحت وحشية الأحقاد القديمة تتظاهر بصورة متزايدة، ففي أية مرحلة يمكن استخدام القوة العسكرية من أجل السيطرة عليها؟
* مرفأ إيطالي على خليج تريستا في الأدرياتيك
** مدينة في شمال غرب بولندا قريبة من ألمانيا