بعد زمن قصير من هذا العصر العظيم ازدادت المشاكل الداخلية والخارجية في كييف، كما كانت قد ظهرت بولندا المسيحية، إلا أن بولندا ارتبطت بالمسيحية الغربية وليس الأرثوذوكسية، لأن حاكمها اختار أن يقبل سلطة بابا روما، وكانت تعاني من ضغط الأمراء الألمان في الغرب ومن منافسة أرثوذوكسية في الشرق، وقد كتب لشعبها مصير تاريخي شاق، ومليء بالبطولات والمآسي لأنه أمة من سلافية من ناحية الأصل واللغة ولكنها أوربية غربية ورومانية كاثوليكية من ناحية الثقافة والدين، فكانت دوماً ساحة للصراع بين أعداء رهيبين من الطرفين.
لقد نشأت ممالك سلافية أخرى في بوهيميا ومورافيا، وعند بداية القرن الثاني عشر صارت هناك أوروبا سلافية مسيحية، إلا أنها لم تشكل إلا من ناحية الأصل العرقي، وهي رابطة لم يكن لها وزن كبير في ذلك الزمن، بل كانت مقسمة بين فرعي الكنيسة أي كنيسة روما والكنيسة الأرثوذوكسية، فضلاً عن أن طبيعة أراضي البلقان قد قسمت الناس المقيمين فيها إلى شعوب صغيرة. وكان هناك أيضاً شعب غير سلافي هو الشعب المجري الذي أتى من جنوب جبال الكربات ليستقر في وادي الدانوب بين الشعوب السلافية، والأسوأ من هذا أن السلافيين رغم استقرار علاقتهم ببيزنطة كانوا محاطين بالأعداء من الغرب والشرق معاً، فمن الغرب كانوا تحت ضغط الألمان الذين اندفعوا شرقاً بزعامة تنظيم عسكري ديني يسمى فرسان التوتون، وكان هؤلاء يعتبرون حربهم ضد السلاف بمثابة حرب مقدسة، وفي الشرق كانت الأمور أسوأ حتى من هذا، إذ حل بكييف في عام 1240 حدث رهيب عندما احتلها ونهبها شعب آسيوي متوحش هو شعب المغول.
كييف روس
في تلك الأثناء كانت المسيحية قد ازدادت انتشاراً نحو الشمال والشرق، على الامتدادات العليا لأنهار روسيا كانت تعيش جماعات سلافية تحكمها أرستقراطية تشتغل بالحرب والتجارة، هذه الارستقراطية هي شعوب اسكندنافية شمالية من الأصول التي تسمى في أوروبا الغربية ”الفايكنغ أو النورمان” ولكنها كانت تسمى ”الفاريغ” في روسيا. كان الفاريغ قد هزموا السلاف بعد أن نزلوا عبر الأنهار من الشمال وكانوا أشداء وواسعي الحيلة ومتوحشين. وقد غاروا على القسطنطينية وحاربوا الشعوب المقيمة في السهوب وبلغوا بتجارتهم مدينة بغداد. واستقر أحد أمراءهم واسمه روريك فيما يسمى اليوم مدينة نوفغورود على بحيرة ايلمن في حوالي 860 م حسب التقاليد الروسية، وطالما كانت هناك طبقة نبلاء في روسيا كان جميع أمراءها يدعون أنهم متحدرون من روريك هذا.
وتحول المركز الرئيسي لسلطة الفاريغ وتجارتهم خلال العقود القليلة التالية إلى كييف على نهر الدنيبر، وكانت تسمى كييف روس، وكانت على درجة كبيرة من الأهمية في الدبلوماسية البيزنطية، فأحياناً كان على الإمبراطورية أن تصد أمراءها المحاربين وأحياناً قد تجعل منهم حلفاء مفيدين لها. وفي النهاية قبل أمير روسي في عام 986 م المسيحية ديناً له ولشعبه، فكان هذا قراراً عظيم الأهمية يكاد يساوي أهمية قرار قسطنطين في رسم مصير البشرية لأنه هو الذي شكل تاريخ روسيا منذ ذلك الحين، وقد اعترف مواطنوه الروس بهذا بعد مائتي عام وطوبوه باسم القديس فلاديمير. وكما هي الحال في قصة قسطنطين، لا نعلم بالضبط مدى الدور الذي لعبته كل من القناعة الشخصية والحسابات السياسية في تنصر فلاديمير، ولكننا نعلم أنه عندما تزوج من أميرة بيزنطية كانت قصة أعظم الأمم السلافية قد ابتدأت.
ربما كانت كييف أغنى بكثير من أغلب مدن أوروبا الغربية في القرن العاشر، وقد صارت الآن مركزاً مسيحياً، إذ راح فلاديمير وخلفاؤه يفرضون العقيدة الجديدة بالقوة وبمساعدة الكهنة البلغار وإشراف بطريرك القسطنطينية الذي كان يعين مطران كييف، كما تبنت روسيا الأبجدية الكيرلسية وطقوس الكنيسة الأرثوذوكسية. وفي بداية القرن الحادي عشر كانت كييف في ذروة بهائها ونفوذها، وكان حاكمها العظيم ياروسلاف الحكيم يفاوض الحكام البعيدين في غرب أوروبا فضلاً عن بيزنطة، وقد رأى أحد زوار كييف الغربيين أنها تضاهي القسطنطينية. وقام ياروسلاف برعاية المؤسسات التعليمية ونشر أول مجموعة قوانين روسية، وفي عهده أيضاً وضع كتاب ”التاريخ الأول ” وهو واحد من أول الأعمال الأدبية الروسية ودفاع عن عمل أمراء كييف في توحيد روسيا تحت راية المسيحية.
عصر بيزنطة الكبير: صنع أوروبا السلافية
سوف تكون بيزنطة درعاً تاريخياً للمسيحية الغربية لأنها حمتها من الفرس أولاً ثم حمتها لزمن طويل من خطر أكبر بكثير هو الإسلام، عدا عن الموجات المستمرة من الشعوب البربرية في الشمال، فقط ظلت الإمبراطورية الشرقية متراساً للعالم الإغريقي الروماني القديم في المتوسط، حتى بعد أن طوقها المسلمون بفتحهم شمال أفريقيا وإسبانيا ولم تزل في النهاية إلا بعد أن عاشت ألف سنة. إلا أن الرياح كانت مؤاتية للإسلام منذ القرن السابع عندما فقدت الإمبراطورية الشرقية كل الأراضي التي كانت قد استردتها من الفرس، بل إن الجيوش العربية حاصرت القسطنطينية نفسها طوال خمس سنوات 673-678 م وفي تلك الأثناء اجتاحت القبائل المسماة قبائل السلاف كلاً من تراقيا ومقدونيا، بينما عبرت قبائل البلغار نهر الدانوب.
وفي عام 717 م ارتقى العرش إمبراطور من الأناضول هو ليون الثالث، وكانت هذه علامة على وصول التأثير الشرقي إلى قمة الإمبراطورية. كان ليون على درجة عالية من الكفاءة، إذ تمكن من استعادة جزء كبير من أراضي الإمبراطورية السابقة كما ثبت هو وابنه الحدود بين الإمبراطورية والخلافة، فاستعادت الإمبراطورية إقليم الأناضول وأحكمت قبضتها عليه رغم حصول المناوشات والغارات. وكانت قد عقدت حلفاً هاماً مع شعب بدوي ثبت قدميه في جنوب روسيا هو شعب الخزر. كان شعب الخزر بمثابة حاجز للإمبراطورية أمام تقدم الإسلام من تلك الناحية، أما في الغرب فكان نفوذ الإمبراطورية ضعيفاً لأنها ضيعت رافينا ولم يبق لها إلا مواطئ أقدام صغيرة في إيطاليا وصقلية، ولو أن ليون أعاد نفوذ بيزنطة إلى أطراف البلقان حيث ستتمكن الإمبراطورية من احتواء خطر البلغار فيما بعد، وكانت الفترة الممتدة حتى القرن الحادي عشر بالإجمال فترة نجاح وتعافي، فقد استعادت كلاً من قبرص واليونان وأنطاكية واستمر الصراع لاسترجاع شمال سوريا، ورغم حدوث مشاكل داخلية في السلالة وخلافات دينية استطاعت بيزنطة أن تلعب دورها كقوة كبرى، وقبل أن تحل الأزمة العالمية القادمة كانت قد أنجزت دوراً تاريخياً عالمياً آخر هو صنع السلافية المسيحية. لقد نصرت بيزنطة الشعوب السلافية ومن خلال هذه العملية منحتهم الحضارة أيضاً، وربما كان إنجازها المضاعف هذا هو أطول الأشياء التي خلفتها عمراً، إذ لولا تنصر الشعوب السلافية لتغير العالم كثيراً.
الشعوب السلافية (الصقالبة)
مازال الخلاف قائماً حول المكان الذي نشأ منه السلاف في الأساس، وتشكل كثير من الأراضي السلافية خاصة في روسيا جزءاً من الامتداد الواسع الذي تلتقي فيه أوروبا بآسيا، وكانت الشعوب البدوية تنتقل عبرها طوال ألوف السنين، ومنها اندفعت هجرات الشعوب الكبرى المرة تلو المرة. لقد تمكن السلاف من التمسك بأراضيهم التي تقابل بولندا وروسيا الحاليتين رغم تعرضهم لمضايقة السقيتيين والأفار والقوط والهون، وبين القرنين الخامس والسابع كانوا قد ثبتوا أقدامهم على الطرفين الشرقي والغربي لجبال الكربات، وبدؤوا بالتحرك جنوباً بتأثير ضغوط تشبه الضغوط التي دفعت هجرات الشعوب الأخرى، وفي القرن السابع كانت تحميهم في الطرف الشرقي إلى حد ما شعوب أخرى استقرت هناك.
وانتشرت قبائل السلاف في البلقان رويداً رويداً، إلا أن أول مملكة سلافية نشأت هي مملكة البلغار، وهم ليسوا بسلافيي الأصل، بل كانوا على الأرجح من الهون ثم صاروا سلافاً عن طريق اتصالهم بالسلافيين وتزاوجهم معهم. ولكن يمكننا أن نعتبر أن مملكتهم هذه كانت سلافية عندما اعترفت بيزنطة بوجودها في عام 716 م، وكان شعبها عندئذٍ قد تبنى أساليب سلافية كثيرة. وسوف يصبح البلغار مصدر متاعب كثيرة للإمبراطورية، فقد احتلوا أراضي كانت بالأصل لها، كما أنهم وصلوا بغاراتهم حتى القسطنطينية نفسها جنوباً، وكان المجهود اللازم لصدهم يعيق دوماً جهود بيزنطة في استعادة مكانتها في الغرب. ويعرف أحد الأباطرة بلقب ”قاتل البلغار”، ولكن البلغار تمكنوا في بداية القرن التاسع من قتل إمبراطور آخر في ساحة المعركة، فكان هذا أول إمبراطور يقتل بأسلحة البرابرة منذ خمسمائة عام، وقد صنعوا من جمجمته كأساً لملكهم.
وأرسلت بيزنطة للبلغار مبشرين كانوا يمزجون الدبلوماسية بالتنصير، وأهمهم رجلا كنيسة عظيمان في القرن التاسع هما الراهبان القديسان كيرلس وميثوديوس. ومازال اسم كيرلس حياً في الأبجدية التي ابتكرها من أجل اللغات السلافية، وهي الأبجدية الكيرلسية المشتقة من الأبجدية اليونانية، والتي مازالت نسخ مبسطة منها تستخدم في صربيا وبلغاريا وروسيا. ثم جاء ملك بلغاري أو قيصر كما كان يسميه البيزنطيون، وقبل المعمودية المسيحية، ولم تكن هذه نهاية الصراع بعد ولكنها كانت خطوة هامة، وقد سمى أحد ملوك البلغار في القرن العاشر نفسه إمبراطور الرومان وهاجم القسطنطينية ولكن بلا جدوى، وأخيراً وفي عام 1014 تمكن البيزنطيون من ضرب البلغار ضربة قاضية أركعتهم، وفقأ الإمبراطور الذي هزمهم عيون 15.000 من سجنائه البلغار وأرسلهم إلى وطنهم ليكونوا عبرة لأهل بلدهم، فمات حاكم البلغار آنذاك ربما من هول الصدمة، وسرعان ما أضحت بلغاريا مقاطعة بيزنطية.