منذ زمن موت ستالين كانت تزداد صحة تنبؤ قام به رجل دولة من جنوب أفريقيا هو سماتس قبل أكثر من ربع قرن، عندما قال :”إن مسرح الأحداث قد انتقل من أوروبا إلى الشرق الأقصى والمحيط الهادي”. وبعد كوريا ظهر دور الهند الصينية.
كانت الهند الصينية تتبع تقليدياً للصين، وقد تباعدت فيها السياستان السوفييتية والصينية مخففة بذلك من حدة التباين بين الشرق والغرب في الحرب الباردة. وبعد دين بين فو تم عقد مؤتمر جنيف اتفق فيه على تقسيم فيتنام بانتظار إجراء انتخابات قد تعيد توحيد البلاد، ولكن تلك الانتخابات لم تحدث قط.
وبدلاً من ذلك جرت في الهند الصينية أشرس مرحلة منذ عام 1945 من حرب آسيا ضد الغرب التي ابتدأت في عام 1941، ولكن الطرف الغربي في هذا الصراع لم يعد مكوناً من الحكام الاستعماريين السابقين بل من الأمريكان، وفي الطرف الآخر كان هناك مزيج من الشيوعيين والوطنيين والمصلحين من أهل الهند الصينية بدعم من الصين والاتحاد السوفييتي.
إن عداء الولايات المتحدة للشيوعية وإيمانها بالحكومات المحلية جعلاها تدعم الفيتناميين الجنوبيين مثلما كانت تدعم الكوريين الجنوبيين والفيليبين. ولكن لم يظهر في فيتنام الجنوبية أنظمة لاغبار على شرعيتها في أعين مواطنيها، بل صارت هذه الأنظمة تعتبر تابعة للعدو الغربي المكروه في شرق آسيا كرهاً شديداً.
وكانت الطبقة الحاكمة تبدو فاسدة ولكنها استمرت رغم تبدل الحكومة المرة تلو المرة، أما الشيوعيون فقد كانوا يسعون لتوحيد البلاد عن طريق دعمهم من الشمال لحركة سرية في الجنوب هي حركة الفيت كونغ.
وفي عام 1962 قرر الرئيس الأمريكي جون كندي إرسال 4.000 مستشار أمريكي لمساعدة حكومة فيتنام الجنوبية، وكانت تلك خطوة واضحة نحو تورط أمريكي في حرب كبرى على البر الرئيسي لآسيا، وهذا ماكان ترومان يخشاه من قبل ويسعى إلى تجنبه
فكرة العالم الثالث
كانت الحياة الدولية في ذلك الحين قد ازدادت تعقيداً، ومن مظاهر هذا التعقيد ظهور دول تقول أنها دول محايدة أو دول عدم الانحياز، وقد اجتمع ممثلو تسع وعشرين دولة أفريقية وآسيوية في باندونغ بإندونيسيا في عام 1955، وكانت أكثرها ماعدا الصين أجزاء من الإمبراطوريات الأوروبية القديمة، وسرعان ما انضمت إليهم يوغوسلافيا، مع أنها لم تكن تابعة لإمبراطورية منذ عام 1918.
كانت هذه البلاد فقيرة وبحاجة إلى مساعدة، وكان ارتيابها بالولايات المتحدة أكبر من ارتيابها بروسيا، وكانت أكثر ميلاً للصين، وقد سميت فيما بعد دول العالم الثالث، ويبدو أن هذه التسمية قد وضعها صحفي فرنسي لكي يذكر بالطبقة الثالثة التي كانت هي الطبقة المحرومة من الحقوق في فرنسا في عام 1789، والتي أعطت الثورة الفرنسية الكثير من زخمها واندفاعها.
وكانت هذه الدول تشعر أنها مهملة من قبل القوى العظمى ومحرومة من المزايا الاقتصادية التي تتمتع بها الدول المتطورة، وأنها تستحق كلمة أكبر في إدارة شؤون هذا العالم، وقد قيل الكثير عن هذا الموضوع في الأمم المتحدة. إلا أن تعبير العالم الثالث يخفي وراءه فروقاً هامة فيما فيما بينها، وإن أعداد الناس الذين قتلوا في حروب العالم الثالث وحروبه الأهلية منذ عام 1955 أكبر من أعداد الذين قتلوا في صراعات خارجة عنه.
وراحت كل من روسيا والصين تسعى لقيادة دول عدم الانحياز النامية، وقد ظهر هذا الأمر في البداية بصورة غير مباشرة، فقد اختلفت الدولتان حول يوغوسلافيا وبمرور الزمن صارت باكستان أقرب إلى الصين بالرغم من معاهدتها مع الولايات المتحدة، وصارت روسيا أقرب إلى الهند التي كانت الولايات المتحدة حتى عام 1960 تمنحها أكبر مساعدات اقتصادية مما تمنحه أي دولة أخرى، وعندما رفضت الولايات المتحدة تزويد باكستان بالأسلحة في عام 1965 طلبت هذه مساعدة الصين. وكانت هذه التغيرات دليلاً على ميوعة جديدة في العلاقات الدولية.
لقد سببت أندونيسيا أيضاً المصاعب للقوى العظمى، كان امتدادها الشاسع يضم شعوباً كثيرة ذات مصالح متباعدة جداً، وكان رحيل الهولنديين قد حررها من قسوة الحكم الأجنبي ولكن في الوقت نفسه بدأت تظهر مشاكل ما بعد الاستعمار المألوفة، مثل فرط عدد السكان والفقر والتضخم.
وكان الاستياء يتزايد من حكومتها المركزية في الخمسينيات، وبحلول عام 1957 كانت قد واجهت ثورة مسلحة في سومطرة وقلاقل في أنحاء أخرى. وقد جربت الطريقة القديمة المعتمدة على إلهاء المعارضة عن طريق تهييج المشاعر الوطنية ولكنها لم تنجح طويلاً.
كان الرئيس سوكارنو قد ابتعد عن الأساليب الليبرالية التي تم تبنيها عند ولادة هذه الدولة الجديدة وحل البرلمان في عام 1930، وفي عام 1963 عين رئيساً مدى الحياة. وكان كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة يخشى أن يميل سوكارنو إلى الصين فوقفا إلى جانبه زمناً طويلاً فمكنه هذا الوضع من فرض قوته والهجوم على ماليزيا، التي كانت اتحاداً فيدرالياً شكل في ذلك العام نفسه من أجزاء من الإمبراطورية البريطانية في جنوب شرقي آسيا.
ولكن ماليزيا تمكنت من التغلب على هجمات إندونيسيا بمساعدة بريطانيا، ويبدو أن هذه النكسة كانت هي نقطة التحول في سلطة سوكارنو.
لقد أدى نقص الطعام والتضخم إلى محاولة انقلاب قام بها الشيوعيون أو هذا ماقاله العسكريون، في عام 1965، ووقف الجيش يتفرج بينما راحت المجازر الشعبية تقضي على الشيوعيين الذين كان بإمكان سوكارنو أن يعتمد عليهم، ثم أزيح هو أيضاً في العام التالي واستلم السلطة نظام معاد للشيوعية عداء راسخاً، وقطع علاقاته الدبلوماسية بالصين.
كانت استعادة الصين لقوتها بحلول عام 1960 هي الحقيقة الاستراتيجية الأساسية في الشرق الأقصى. وحتى كوريا الجنوبية واليابان استفادتا من الثورة الصينية، لأنها أعطتهما قوة في التعامل مع الغرب. وقد كان أهل شرق آسيا يعززون استقلالهم بأشكال مختلفة سواء كانوا شيوعيون أو غير شيوعيين، ونادراً ما استسلموا لمحاولات الصين المباشرة في التدخل بشؤونهم.
ولاريب أن هذا الأمر مرتبط بالنزعة المحافظة العميقة في مجتمعاتهم، إذ يتميز الآسيويون الشرقيون بانضباطهم وقدرتهم على القيام بمجهود اجتماعي بناء، وتقليلهم من قيمة الفرد، وتبجيلهم للسلطة والتسلسل الهرمي ووعيهم العميق لانتمائهم إلى حضارات يفتخرون بتميزها عن الغرب، وكانت هذه كلها أسساً يعتمدون عليها في حماية استقلالهم وصونه.
تعافي اليابان
كان استسلام اليابان قد اتخذ ستالين على حين غرة، ورفض الأمريكيون بشدة مطالبه بحصة في احتلال لم يفعل الاتحاد السوفييتي شيئاً لتحقيقه، وبدؤوا وحدهم آخر المراحل الكبيرة للسيطرة الغربية في آسيا. ولكن اليابانيين أظهروا من جديد موهبتهم المدهشة في تعلم ما يريدون من الآخرين وترك مالا يريدون. وكان عام 1945 خطاً فاصلاً بالنسبة لهم.
لقد أقحمتهم الهزيمة نفسياً في القرن العشرين الذي لم يدخلوه سابقاً إلا من الناحية التقنية، وواجهتهم بسببها مشاكل عميقة ومؤرقة حول هويتهم القومية وأهداف بلادهم، وقد تبدد حلم آسيا للآسيويين وترك انسحاب الاستعمار اليابان من دون دور واضح في آسيا، كما أن الحرب قد كشفت عن ضعفها فكانت تلك صدمة كبيرة. وكان اقتصاد البلاد مخرباً، إذ دمر أكثر من ثمانين بالمئة، من قطاع الشحن وحده فيها، وفوق كل هذا سببت لها الهزيمة فقدان الأراضي والاحتلال.
ولكن الصورة لم تخل من بعض العناصر الإيجابية، فقد مكنت الملكية البلاد من الاستسلام، فصار الكثيرون من اليابانيون يرون في الإمبراطور مخلصهم من الفناء، وكان القائد الأمريكي في المحيط الهادي الجنرال ماك آرثر حريصاً على أن يتبنى اليابانيون دستوراً ملكياً جديداً قبل أن يتدخل المتحمسون الجمهوريون في الولايات المتحدة.
وكان تماسك المجتمع الياباني وانضباطه ميزتين أخريين، ولو أن تصميم الأمريكان على جعل البلاد ديمقراطية قد بدا خطراً عليها لفترة من الزمن، إن ما قامت به اليابان من إصلاح كبير للأراضي وديمقراطية التعليم ونزع للأسلحة بعناية كبيرة قد اعتبرت كلها في عام 1951 كافية لعقد معاهد سلام بينها وبين أكثر خصومها السابقين، ماعدا الوطنيين الصينيين والاتحاد السوفييتي، الذي عقد معاهدة خلال بضع سنوات، فاستعادت اليابان سيادتها الكاملة وسيطرتها على شؤونها ولو بقيت القوات الأمريكية في أراضيها؛ وكانت أوضاعها تبدو على مايرام ولو أنها كانت تواجه في الصين بلداً أقوى وأشد تماسكاً بكثير مما كان عليه طوال قرن سابق.
وسرعان ما بدأت نتائج الاحتلال الأمريكي بالتغير، إن بين اليابان والصين 500 ميل/800كم من المياه ولكن كوريا وهي منطقة التنافس الإمبراطوري القديمة لاتبعد عنها إلا بمسافة 150ميلاً/240 كم وتبعد عنها الأراضي السوفييتية مسافة عشرة أميال فحسب 16 كم.
وقد جلبت الحرب الباردة في آسيا مكاسب حقيقية لليابان، فسرعان ما ارتفع إنتاجها الصناعي إلى مستويات ما قبل الحرب، كما كانت الدبلوماسية الأمريكية تعزز مصالح اليابان في الخارج، ولما كان ممنوعاً على اليابان حتى عام 1951 أن تكون لها أية قوات مسلحة فلم يكن لديها أي تكاليف دفاع بل كانت تتمتع بحماية المظلة النووية الأمريكية.
وسرعان ما برزت اليابان كجزء أساسي من نظام الأمن الأمريكي في آسيا والمحيط الهادي، وكان هذا النظام يرتكز أيضاً على معاهدات مع أستراليا ونيوزيلندا والفيليبين، التي أصبحت مستقلة في عام 1946 ثم تلتها معاهدات أخرى مع الباكستان وتايلاند ، وهما الحليفتان الآسيويتان الوحيدتان للأمريكيين عدا عن تايوان، أما أندونيسيا والأهم منها الهند فقد بقيتا بعيدتين.
وكانت هذه التحالفات جزئياً انعكاساً للظروف الجديدة في المحيط الهادي وللعلاقات الدولية الجديدة في آسيا، لقد بقيت قوات بريطانية في الشرق لفترة قصيرة، ولكن أستراليا ونيوزيلندا اكتشفتا أثناء الحرب أن بريطانيا غير قادة على الدفاع عنهما وأن الأمريكان قادرون على ذلك.
صحيح أن البريطانيين قادرون على دعم ماليزيا ضد إندونيسيان ولكنهم كانوا يعلمون أن هونغ كونغ لايمكن أن تستمر إلا لأن وجودها مناسب للصين، إلا أنه لم يكن بالإمكان ترتيب الأمور في منطقة المحيط الهادي على أساس الحرب الباردة وحدها؛ فصحيح أن الأمريكيين كانوا يرون في اليابان قوة قد تتصدى للشيوعية، إلا أن أستراليا ونيوزيلندا ظلتا تتذكران عام 1941 وتخشيان انتعاش قوتها، لهذا لم تكن سياسة أمريكا مبنية على الإيديولوجية وحدها ولو أن نجاح الشيوعية في الصين ورعايتها للثورات في أفريقيا وأمريكا الجنوبية ظلا يستحوذان على تفكير الأمريكان زمناً طويلاً.
والحقيقة أن بزوغ الصين قد بدل تماماً نظام الحرب الباردة الثنائي، فأصبحت روسيا زاوية في مثلت كما فقدت بروزها الفريد في الحركة الثورية العالمية، إن الحرب الباردة لم تكن بالأمر البسيط في يوم من الأيام، وقد أصبحت الآن أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.
وإن الدعايات السياسية الفجة التي كانت تصدر عنها قد جعلتها أشبه بالصراعات الدينية المعقدة في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، عندما كانت الإيديولوجية تحرض على العنف وتهيج العواطف، وقد تؤدي إلى الإقناع أحياناً ولكنها لم تكن قط قادرة على احتواء التعقيدات والتيارات الكثيرة الناشئة من المصالح المختلفة، خاصة مصالح القوميات.
إلا أن الخطابات الطنانة والأوهام الكبيرة تستمر طويلاً بعد أن يكون الواقع قد تغير، ومن هذه الناحية أيضاً تبدو الحرب الباردة شبيهة بالصراعات الدينية في الأيام الغابرة.