في عام 1979 أطيح بشاه إيران من عرضه بعد أن كان حليفاً موثوقاً للولايات المتحدة، منذ زمن طويل، وكان هذا حدثاَ لم يخطر ببال أحد وضربة قاسية للسياسة الأمريكية، كما ،ه كان يشكل خطراً على استقرار العالم الإسلامي المتقلقل أصلاً.
وكان الذين حلوا محل الشاه ائتلافاً من المحافظين الغاضبين من لبيراليين وإسلاميين، وسرعان ما طغى الأخيرون على الأولين، كانت سياسة التحديث التي سار فيها الشاه على نهج أبيه الأكثر حذراً منه قد زعزعت تقاليد إيران ومجتمعه، وسرعان ما عادت البلاد إلى تقاليد قديمة وبالية تظهر بصورة لافتة في معاملة المرأة، فكان هذا دليلاً على أنها لم تنبذ حاكمها فحسب.
وقد ظهر النظام الجديد بصورة جمهورية إسلامية شيعية يقودها رجل دين عجوز ومتعصب، وكان هو وأتباعه يمقتون الأمريكان لأنهم رعاة الشاه السابق، ويرون فيهم طغمة المادية الرأسمالية، إلا أنهم سرعان ما وصفوا الشيوعية السوفييتية أيضاً بأنها شيطان ثاني يهدد نقاوة الإسلام.
الفورة الإسلامية
كان هذا النظام الجديد يعبر عن غضب يشترك به الكثيرون من المسلمين في كافة أنحاء العالم، وكان سببه الخوف من التغريب العلماني وخيبة الآمال بالتحديث الذي لم يحقق وعوده، ففي الشرق الأوسط بالذات كانت كل من القومية والاشتراكية والرأسمالية فقد فشلت في حل مشاكل المنطقة، أو على الأقل في إرضاء العواطف والرغبات التي أثارتها، بل إنها في الحقيقة قد زادتها استعماراً. وكان الملايين من المسلمين يعتقدون أن المحدثين حتى عبد الناصر نفسه قد قادوا شعوبهم في طريق خاطئ، وكانوا يخشون أن تصاب مجتمعاتهم بعدوى الغرب الخطيرة.
كانت جذور هذه المشاعر متنوعة وعميقة وقد غذتها قرون طويلة من الصراع مع المسيحية، وتجددت ابتداء من الستينيات بسبب المصاعب المتزايدة للقوى الغربية والاتحاد السوفييتي أيضاً في الشرق الأوسط والخليج الفارسي جراء الحرب الباردة. لقد مرت مرحلة ملائمة للمنطقة تزامن فيها ارتباك القوى العظمى بوجود عامل النفط، ولكن من ناحية أخرى كانت التجارة مع الغرب والاتصالات به وعوامل الجذب فيه تشكل في الدول الغنية بالنفط خطراً على الإسلام قد يكون أكبر من الأخطار السياسية والعسكرية السابقة.
فعندما كان العرب المسلمون يسعون لتعلم التقنية الغربية وتحصيل التعليم الأكاديمي كانوا معرضين لخطر أن تجتذبهم القيم الغربية أيضاً. ولهذا كانت حركة البعث الاشتراكية التي اجتذبت الكثيرين من الراديكاليين العرب والتي كانت راسخة في العراق وسوريا في عام 1970 مقيتة لدى الإخوان المسلمين الذين يستهجنون كفرها حتى في الصراع الفلسطيني.
وكان الأصوليون الإسلاميون يرفضون فكرة سيادة الشعب ويسعون لفرض سيطرة الإسلام على المجتمع في كافة نواحيه، ومالبث العالم أن بدأ يسمع أن الباكستان تمنع الرجال والنساء من الاختلاط في لعب الهوكي، وأن المملكة العربية السعودية تعاقب الجرائم بالرجم حتى الموت وبتر الأطراف، وأن عمان تبني جامعة يستمع فيها الذكور والإناث إلى المحاضرات بصورة منفصلة، وأشياء كثيرة غير ذلك.
وحتى في مصر المتغربة نسبياً كان الطلاب يصوتون في انتخاباتهم للأصوليين، بينما راحت الفتيات في كليات الطب يرفضن تشريح جثث الذكور ويطالبن بتعليم ثنائي منفصل.
لقد كان تقييم هذه الظاهرة ومازال أمراً صعباً جداً، ولما كانت ثورة إيران بؤرة تلتقي فيها مشاعر المسلمين على نطاق واسع فقد لاح في عام 1980 أنها بدلت قواعد اللعبة في الشرق الأوسط. إلا أن هذه الفورة الإسلامية كانت إلى حد ما مجرد واحدة من تلك الموجات المتكررة من التزمت التي طالما هيجت مشاعر المؤمنين عبر القرون، وقد لعبت الظروف أيضاً دوراً فيها، مثل احتلال إسرائيل للقدس التي تضم ثالث الأماكن المقدسة في الإسلام، وهذا ماقوى الشعور بالتكافل والتضامن بين المسلمين إلى حد كبير.
لقد استغلت دولة العراق السنية والبعثية بالاسم مابدا من ضعف في إيران الشيعية بسبب ثورتها فهاجمتها في عام 1980 وأدى ذلك إلى ثمانية أعوام من الحرب الدامية ومقتل مليون إنسان، وإلى انقسام الشعوب المسلمة انقساماً طائفياً كما كان الأمر في الماضي البعيد.
ولكن رغم أن هذه الثورة كانت تزعج القوى العظمى وتخيفها فإن إيران لم تكن قادرة على إحباط جهودها، وعند نهاية عام 1979 وجدت نفسها تتفرج عاجزة بينما دخل الجيش الروسي إلى أفغانستان ليدعم نظاماً عميلاً له فيها، ورغم أن الإيرانيين احتجزوا رهائن أمريكيين وفرضوا فدية لتحريرهم بعد أن فشلت محاولة أمريكية لتخليصهم بعملية مباغتة فإنهم لم يقدروا على إحضار الشاه السابق لكي يمثل أمام العدالة الإسلامية.
لقد أعلن الرئيس كارتر في عام 1980 أن الولايات المتحدة تعتبر الخليج الفارسي منطقة ذات أهمية حيوية، وكانت تلك علامة هامة إذ لم يكن بإمكان قوة عظمى أن تتجاهل الخطر الذي يشكله عدم استقرار المنطقة على النظام الدولي.
لقد زال الحكم المنظم في لبنان الحزين في الثمانينيات وانهارت البلاد في الفوضى، ومنح هذا الوضع منظمة التحرير الفلسطينية في البداية قاعدة أفضل من السابق لاستخدامها ضد إسرائيل، لذلك راحت هذه الأخيرة تقوم بعمليات تزداد عنفاً على حدودها الشمالية ووراءها، ونتج عن ذلك بالمقابل ارتفاع التوتر ضمن إسرائيل، حيث جلب هذا العقد المزيد من الصراع والعنف بين اليهود والفلسطينيين وأدى في النهاية إلى الانتفاضة في المناطق التي تغلب فيها المستوطنات الفلسطينية.
ولم تكن الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي أرقتها هذه الاضطرابات، فعندما أرسل الاتحاد السوفييتي جنوده إلى أفغانستان حيث سيبقون حوالي عشر سنوات كان من المحتم أن يؤثر غضب المسلمين في الأحداث الجارية ضمن الاتحاد السوفييتي، لأن فيه أعداداً كبيرة جداً من المسلمين.
وظن البعض أن التطرف الإسلامي قد يدعو القوتين العظميين الحذر، لقد اغتال الأصوليون رئيس جمهورية مصر في عام 1981 لأنه عقد سلاماً مع إسرائيل قبل عامين، وظلت حكومة الباكستان تفرض الإسلام التقليدي وتغض الطرف عن مساعدة الثوار المسلمين المضادين للشيوعية في أفغانتستان.
وفي شمال أفريقيا كنت تجد أدلة على الطموحات الإسلامية الراديكالية في النزوات والتصريحات العجيبة لدكتاتور ليبيا، فقد دعا الدول الأخرى المنتجة للنفط إلى التوقف عن تزويد الولايات المتحدة به بينما ظل ثلث إنتاج ليبيا يذهب إليها، وفي عام 1980 وحد بلاده لفترة وجيزة بسوريا البعثية كما كنت تجد اتجاهات مشابهة في دول أخرى إلى الغرب أيضاً.
لقد تعثرت الخطوات الأولى الواعدة للجزائر نحو الاستقلال وبدا أن الهجرة إلى أوروبا هي المنقذ الاقتصادي الوحيد للكثيرين من شبابها، وللمرة الأولى في أي بلد عربي كسب فيها حزب إسلامي أصولي أغلبية الأصوات في انتخابات عام 1990.
وفي العام السابق حصل انقلاب في السودان أتى بنظام إسلامي عسكري نشيط ما لبث أن قمع من فوره الحريات المدنية القليلة الباقية، إلا أن هناك علامات كثيرة تشير إلى أن التيار لم يكن يجري في اتجاه واحد، فقد صار من الصعب على دول المنطقة أن تستغل التنافس السوفييتي الأمريكي السابق انشغال هاتين القوتين وتغير الظروف في أنحاء أخرى من العالم.
والأنكى من هذا أن العراق وإيران وكلتاهما دولة مسلمة وغنية قد اشتبكتا طوال القسم الأكبر من الثمانينيات في صراع مميت وباهظ التكاليف.
العراق
لقد تربى حاكم العراق صدام حسين تربية إسلامية، ولكنه كان يقود نظاماً علمانياً بالاسم بعثياً ومبنياً في الحقيقة على المحسوبية والعائلة ومصالح العسكريين، وكان يسعى إلى القوة والتحديث التقني كوسيلة إليها، وعندما خاض حربه مع إيران كان الحكام العرب التقليديون مرتاحين لاستطالتها وتكاليفها الباهظة إذ بدا لهم أنها تقيد في الوقت نفسه، قاطع الطرق هذا والثوار الإيرانيين الذين يخشونهم؛ ولو أرقهم أن تحول تلك الحرب الاهتمام عن المسألة الفلسطينيين.
كانت الأحداث الجارية في الخليج في الثمانينيات تحمل من وقت لآخر خطر عرقلة الإمداد وبالنفط، وقد هددت في بعض الأحيان باندلاع صراع صريح بين إيران والولايات المتحدة، وفي هذه الأثناء كان الوضع في بلاد الشام يسير من سيء إلى أسوأ.
فقد ضمت إسرائيل مرتفعات الجولان، وراحت تقوم بعمليات شديدة في لبنان ضد الميليشيات الفلسطينية ورعاتها، وراحت حكومتها تشجع على المزيد من هجرة اليهود خاصة في الاتحاد السوفييتي، وساهم هذا كله في تقويتها تحسباً ليوم قد تجد نفسها فيه من جديد بمواجهة الجيوش العربية متحدة. ولكن عند نهاية 1987 اندلعت أول ثورة طويلة بين الفلسطينيين في الأراضي التي تحتلها اسرائيل ومالبثت أن تمت وتحولت إلى الانتفاضة.
وقد كسبت منظمة التحرير الفلسطينية المزيد من التعاطف الدولي لأنها اعترفت رسمياً بحق إسرائيل في الوجود، ولكنها كانت في وضع صعب في عام 1989 أي عندما انتهت الحرب العراقية الإيرانية أخيراً. وفي العام التالي مات حاكم إيران، آية الله وبدا خليفته راغباً باتباع سياسة أقل مغامرة وعنفاً، ولو أنه كان يدعم القضيتين الفلسطينية والإسلامية.
كانت الولايات المتحدة أثناء الحرب العراقية الإيرانية تعتبر إيران عدوها الأكبر، ولكنها عندما وجدت نفسها في الحرب وجهاً لوجه مع عدو صريح في الخليج كان ذلك العدو هو العراق. فبعد عقد السلام مع إيران أخذ صدام حسين يثير موضوع نزاع حدودي قديم مع مشيخية الكويت، وكان على خلاف مع حاكمها حول حصص النفط وأسعاره. ولكن يبدو أن دافعه الأقوى كان رغبته بالاستيلاء على ثروة النفط الهائلة في الكويت، وما برحت تهديداته تتصاعد إلى أ ن غزت جيوش العراق الكويت في 2 آب/أغسطس 1990 فأخضعتها خلال ست ساعات.
وتحرك الرأي العام العالمي تحركاً لافتاً من خلال الأمم المتحدة، وحاول صدام حسين أن يخلط أطماعه بحقد العرب ضد إسرائيل لكي يلعب الورقتين الإسلامية والعربية، ولكن تبين أن هاتين الورقتين لم تكن لهما قيمة كبيرة، إذ لم تدافع عنه إلا منظمة التحرير الفلسطينية والأردن، ولاريب أنه فوجئ مفاجأة مؤلمة عندما وجد كلاً من المملكة العربية السعودية وسورية ومصر شركاء غير متوقعين في التحالف الذي تشكل ضده بسرعة كبيرة.
ولابد أن يكون قبول الاتحاد السوفييتي بما حدث بعد ذلك قد فاجأه أيضاً، ولكن أكثر النتائج مفاجأة كانت إصدار مجلس الأمن بأغلبيات ساحقة سلسلة من القرارت التي تدين عمليات العراق وتجيز أخيراً استخدام القوة من أجل ضمان تحرير الكويت. وفي يوم 16 كانون الثاني /يناير 1991 بدأت القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والسعودية والمصرية عملياتها الحربية، واستسلم العراق خلال شهر واحد.
لقد كانت تلك حرباً أخرى من حروب اقتسام التركة العثمانية، ولكن أموراً كثيرة في الشرق الأوسط ظلت غير محسومة، ولو أن بعض الأشياء قد تغيرت، فرغم محاولات صدام حسين لإثارة حملة إسلامية ضد إسرائيل لم يجد من يأخذ بها. وكان الخاسر الأكبر هو منظمة التحرير الفلسطينية والمنتفع الحقيقي هو إسرائيل، وبات من المستحيل أن ينتصر عليها العرب عسكرياً في المستقبل القريب.
كانت مواقف كل من سوريا وإيران قبل أزمة الكويت تشير إلى أنهما تنويان لأسبابهما الخاصة محاولة تسوية مشكلة إسرائيل عن طريق التفاوض ، ومن الواضح أن هذه كانت أيضاً أولوية ملحة لدى الولايات المتحدة، وقد حرك هذا الآمال بأن تخفف إسرائيل أخيراً من عنادها وتصلبها.
وفي عام 1991 بدأت المحادثات بين الحكومة الإسرائيلية والدول العربية وكان بين الحاضرين ممثلون عن منظمة التحرير الفلسطينية، ثم توقفت المحادثات وعادت لتتجدد بعد تغير الحكومة في إسرائيل في عام 1992، وظلت مستمرة رغم فورة جديدة من القسوة والجور الإسرائيليين نحو الفلسطينيين الذين طردتهم من أراضيها.
في ذلك الحين كان شبح الحركة الإسلامية الراديكالية والأصولية في العالم قد بهت إلى حد ما. ورغم كل الهيجان والاستياء في الدول الإسلامية ورغم استمرار استفزاز العراق فإنه لم يعد ثمة أمل في تنسيق هذه القوى ضد الغرب بصورة فعالة.
كما أن الدولة الإسلامية صارت أكثر ميلاً لتقبل التحديث التقني الغربي رغم تأثيراته المخربة الخفية، وقد بينت أزمة الخليج أن سلاح النفط قد خسر الكثير من قدرته على إيذاء العالم المتطور أو حتى تخويفه، فخلال عام واحد، كانت آبار النفط الكويتية التي أشعلتها قوات صدام حسين عند انسحابها قد أخمدت، إلا أن الوضع المتفجر ظل على حاله، ومازال مستقبل الشرق الأوسط يبدو متقلقلاً ومجهولاً مثلما كان دائماً
صدام حسين
أمريكا اللاتينية بعد أزمة كوبا
حالما انتهت أزمة الصواريخ وعدت الولايات المتحدة بألا تغزو كوبا، ولكنها كانت تحاول عزلها عن بقية نصف الكرة الغربي قدر الإمكان خشية أن تجتذب ثورتها الشباب في غيرها من دول أمريكا اللاتينية. أما كاسترو فكان يسعى لكي يصور كوبا مركزاً ثورياً لبقية القارة، إلا أن الثورة لم تحدث فيها، وقد كانت ظروف كوبا ظروفاً خاصةً جداً.
لقد تبين أن الآمال بحدوث ثورات فلاحية كانت أوهاماً، وذا كانت ثمة تربة صالحة للثورة فهي في المدن لا في الأرياف. إن الوحشية التي عاملت بها الحكومات الدكتاتورية الإرهابيين في بعض الدول قد أبعدت عنها دعم الطبقات الوسطى، بينما ظل الشعور المناهض لأمريكا في تصاعد.
وقدمت الولايات المتحدة مبادرة جديدة للإصلاح الاجتماعي سمتها الحلف من أجل التقدم ولكنها لم تحرز أي نجاح، والأسوأ من ذلك أن النزعة الأزلية نحو التدخل غلبت عليها من جديد في عام 1965، وكان ذلك في جمهورية الدومينيكان هذه المرة، حيث ساهمت المساعدات الأمريكية قبل أربع سنوات في الإطاحة بنظام دكتاتوري.
ولكن العسكريين تدخلوا دفاعاً عن الفئات التي شعرت بخطر الإصلاح على مصالحها وأزاحوا خليفة ذلك النظام، فما لبث الأمريكيون أن قطعوا مساعداتهم، وبدا عندئذٍ أن هذا الحلف من أجل التقدم إنما يستخدم بصورة منحازة. إلا أن المساعدات المقدمة لجمهورية الدومينيكان ولغيرها من الأنظمة اليمينية أيضاً، قد تجددت عندما استلم الرئاسة ليندن جونسون، ثم حصلت ثورة ضد هذا النظام العسكري في عام 1965 أدت إلى وصول 200.000 عسكري أمريكي لإخمادها.
في عام 1970 كان ذلك الحلف قد نسي وبدا أن الوطنية في أمريكا اللاتينية تدخل مرحلة جديدة ونشيطة، وإذا كانت الميليشيات المتأثرة بكوبا قد شكلت خطراً ما في الماضي فهي لم تعدو تبدو كذلك. وما إن زال الخوف من حدوث اضطرابات في الداخل حتى راحت الحكومات تحاول استغلال المشاعر المناهضة لأمريكا فأممت التشيلي أكبر شركة نحاس أمريكية، وأخذ البوليفيون شركات البترول والبيرويون المزارع التي يمتلكها الأمريكان. وعندما قام ممثل لرئيس جمهورية الولايات المتحدة في ذلك العام بدورة على دول أمريكا اللاتينية نشبت الاحتجاجات وأعمال الشغب وتفجيرات الأملاك الأمريكية والمطالبات بابتعاد الولايات المتحدة عن شؤون بعض الدول.
في هذه الأثناء بقيت المشاكل الحقيقية في أمريكا اللاتينية معلقة، لقد كشفت سنوات السبعينيات والثمانينيات من متاعب اقتصادية مزمنة، وفي عام 1985 صارت الأزمة تبدو غير قابلة للحل. وكانت هناك أسباب عديدة لها، فرغم عملية التصنيع السريعة في القارة كانت تواجه نمواً فظيعاً في عدد السكان. فقد كان عدد سكان أمريكا اللاتينية وجزر الكاريبي حوالي مئة مليون في عام 1950 ويتوقع أن يصل عددهم إلى 500 مليون.
في عام 2000 وبدأت هذه المشكلة تتضح في نفس الوقت الذي صارت فيه المشاكل الاقتصادية تبدو عصية الحل. وفشل برنامج المساعدات المسمى بالحلف من أجل التقدم فشلاً واضحاً في معالجة هذه المشكلات، وأنتج فشله هذا خلافات كثيرة حول استخدام الأموال الأمريكية.
وبقيت الفروق الاجتماعية خطيرة، فحتى أكثر دول أمريكا اللاتينية تقدماً كانت فيها فروق شاسعة في الثروة والتعليم، وحتى بعض الدول التي عرفت عمليات دستورية وديمقراطية بدت هذه عاجزة عن مواجهة مشكلاتها، وقد خضعت كل من البيرو وبوليفيا والبرازيل والأرجنتين والباراغوي في الستينيات والسبعينيات إلى حكم دكتاتوري طويل على يد أنظمة عسكرية، ولاريب أن بعضها كانت تؤمن إيماناً صادقاً بأن الدكتاتورية قادرة على إحداث التغييرات المطلوبة التي عجزت عنها الحكومات المدنية.
وظهرت العواقب للعالم بصورة حية في قصص التعذيب والقمع الوحشي التي صارت تسمع في دول مثل الأرجنتين والبرازيل والأروغواي ، والتي كانت كلها تعتبر ذات يوم دولاً متحضرة ودستورية، بل حتى في التشيلي التي كانت لها تاريخ من الديمقراطية الدستورية أكثر استمراراً من الدول الأخرى في أمريكا اللاتينية، إذ حصل فيها في عام 1973 انقلاب عسكري أطاح بحكومة كان الكثيرون من التشيليين يعتقدون أنها خاضعة للسيطرة الشيوعية.
ونالت حركة الثورة المضادة دعم الولايات المتحدة كما كان الكثيرون من أهل البلاد مستعدين لتأييدها من شدة تخوفهم من الميول الثورية لدى النظام المنتخب السابق، وقد أعاد النظام الجديد في النهاية بناء الاقتصاد، بل بدا في أواخر الثمانينيات أنه قد يكون قادراً على تحرير نفسه من تشدده.
في هذه الأثناء كانت أزمة النفط في السبعينيات قد جعلت مشاكل الديون الخارجية في دول أمريكا اللاتينية المستوردة له تخرج عن السيطرة، وفي عام 1990 كانت أكثر العلاجات الاقتصادية التقليدية قد جربت في هذا البلد أو ذاك، ولكن تبين أنها غير عملية وغير قابلة للتطبيق في معالجة مشاكل التضخم السريع ورسوم الفوائد على الديون المؤجلة والتشوهات الحاصلة في تخصيص الموارد بسبب الحكم الرديء في السابق، ومشكلة ضعف القدرة الإدارية والثقافية اللازمة لدعم سياسات مالية سليمة.
ومازال من المستحيل أن يخمن المرء كيف يمكن التغلب على هذه الأزمة الاقتصادية المعقدة، ومادام الأمر كذلك فسوف تظل أمريكا اللاتينية قارة مضطربة ومشحونة ومكونة من دول تزداد تبايناً بعضها عن بعض إلا في محنتها. وإن أكثر الناس في أمريكا اللاتينية هم اليوم أفقر مما كانوا منذ عشر سنوات إذا كان المقياس هو دخل الفرد.
أفريقيا
لم تبلغ أفريقيا مرحلة الاستقرار بعد في عام 1992 مثلها مثل أنحاء أخرى من العالم ، في عام 1974 كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد منعت جنوب أفريقيا من حضور جلساتها بسبب سياسة الفصل العنصري التي تمارسها، وفي عام 1977 تجنبت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ببراعة المطالب المقدمة للتحقيق في الفظائع التي ارتكبها السود ضد السود في أنغولا، بينما أدانت جنوب أفريقيا مع إسرائيل والتشيلي أيضاً على أعمالهم الشريرة.
وكانت بريتوريا تنظر نحو الشمال بشعور متزايد من الخطر، إذ أن وصول قوات كوبية إلا أنغولا وعملياتها الإستراتيجية قد بين وجود تظاهر جديد لسلطة الاتحاد السوفييتي والدول العملية التابعة له ضد جنوب أفريقيا، كما كانت هذه المستعمرة البرتغالية السابقة مع موزمبيق قاعدتين للمنشقين عن جنوب أفريقيا الذين راحوا ينشرون القلاقل والاضطرابات في مناطق السود ويدعمون الإرهاب في المدن خلال سنوات الثمانينيات.
وتغير موقف حكومة جنوب أفريقيا بفعل الضغوط الممارسة عليها، فقد شعر الكثيرون من الأفارقة بالذعر عندما استلم رئيس وزراء جديد منصبه في عام 1978 وراح يسير شيئاً فشيئاً على سياسة من التنازلات، وبدا أخيراً أن علامة الاستفهام حول مستقبل جنوب أفريقيا لم تعد في موضوع احتمال إلغاء نظام الفصل العنصري الأبارتايد بل صارت تدور حول الشروط التي يمكن التنازل عن الحكم للأغلبية السوداء.
ولكن هذه المبادرة سرعان ما تباطأت، وتزايدت الريبة بين المؤيدين الأفارقة للسيد بيتر بوتا فدفعته إلى العودة نحو القمع، ومع هذا فقد استهل في عام 1983 دستوراً جديداً أثار غضب الزعماء السياسيين السود بسبب نقصه كما أثار اشمئزاز البيض المحافظين لأنه سلم بمبدأ تمثيل السود.
في هذه الأثناء كانت الضغوط الناتجة عن العقوبات الاقتصادية المطبقة ضد جنوب أفريقيا من الدول الأخرى تتزايد، وحتى الولايات المتحدة فرضتها ولو بشكل محدود في عام 1985، ومع هبوط الثقة باقتصاد جنوب أفريقيا دولياً بدأت الآثار تظهر في الداخل، وبدأت علامات تحول الرأي العام الداخلي قبل رياح التغيير القادمة، وقد سلمت الكنيسة الهولندية المصلحة بأن الأبارتايد هو غلطة على الأقل، وبأنه لايمكن تبريره من خلال الكتاب المقدس كما كان يقال.
وازدادت الانقسامات بين السياسيين الأفارقة، ويبدو أيضاً أن نجاح العمليات العسكرية لجنوب أفريقيا في السيطرة على الأخطار الماثلة على الحدود كان عاملاً مساعداً بالرغم من عزلتها المتزايدة. وقد عقد السلام مع أنغولا عام 1988.
في هذه الأجواء تنازل بوتا الذي كان رئيس الجمهورية منذ عام 1984 عن منصبه باستياء وتذمر عام 1989 وخلفه السيد فريدريك دوكليرك، الذي أكد أن الحركة نحو التحرير سوف تستمر وتبلغ مدى أبعد مما كان الكثيرون يعتقدونه ممكناً، ولو لم ينته نظام الأبارتايد بكافة جوانبه. فسمح بحرية أكبر بكثير للاحتجاج والمعارضة السياسيين وأطلق سراح الزعماء الوطنيين السود المسجونين.
وفي عام 1990 بزغت من السجن أخيراً الشخصية الرمز السيد نلسون مانديلا زعيم المجلس الوطني الأفريقي والمحرك الأساسي في المعارض السوداء، وسرعان ما دخل في مناقشات مع الحكومة حول مستقبل البلاد.
ورغم التصلب البادي في كلامه كانت هناك علامات تبشر بواقعية جديدة في ضرورة محاولة طمأنة الأقلية البيضاء حول مستقبلها تحت حكم الأغلبية السوداء، وكانت هذه العلامات تدفع السياسيين الآخرين إلى المطالبة بالمزيد وبسرعة أكبر.
وفي نهاية عام 1990 كان السيد دوكليرك قد قال أنه سوف يلغي القوانين المتعلقة بالأراضي والتي تشكل حجر الأساس في نظام الأبارتايد. وهكذا لم يعد انتباه العالم مركزاً على مدى إخلاص الزعماء البيض بل على مدى واقعية الزعماء السود ومدى قدرتهم على التحكم بأتباعهم، فكان هذا دليلاً لافتاً على سرعة تبدل الأمور في جنوب أفريقيا.
إلا أن الآمال التي علقت على مانديلا في وقت إطلاق سراحه قد زالت وحلت محلها الشكوك، وكانت هناك علامات كثيرة على الانقسام بين أتباعه، وكان من الواضح أن الطريق أمام جنوب أفريقيا مازالت طريقاً صعبة وشاقة.