ديانة عالمية جديدة: الإسلام
لقد انهار الساسانيون في النهاية لأن أعداءهم كانوا كثر، وكان عام 610 قد أتى بنذير شؤم لهم لأنه العام الذي هزمت فيه قوة عربية جيشاً فارسياً للمرة الأولى. وبقي ملوك الفرس قروناً عديدة غير مهتمين بالأعداء الواقعين إلى جنوبهم، إلا أن الضربات القاضية إنما أتتهم من الجنوب، من قيظ شبه الجزيرة العربية وصخورها. ولم تكن شبه الجزيرة دوماً على هذه الصورة، ففي بداية الحقبة المسيحية كانت فيها أراضي مروية ونشأت فيها ممالك صغيرة تتاجر عبر موانئها مع الهند والخليج الفارسي وشرق أفريقيا حاملة الصمغ والتوابل إلى مصر، ومنها كانت هذه البضائع تنتقل إلى أنحاء المتوسط. وقد ازدهرت تلك الممالك وكانت مستقلة عن الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية الكبريين اللتين لم تخترقا شبه الجزيرة بصورة عميقة قط، إلا أن نظام الري قد انهار ولا نعلم الأسباب، فصارت الأرض صحراء مجدبة، وارتحلت القبائل من مدن جنوب شبه الجزيرة نحو الشمال وعادة شعوبها إلى حياة البداوة والرعي، ومنها نشأت جيوش ديانة عالمية جديدة.
إن ديانة الإسلام التي أسسها النبي محمد هي المنافس الوحيد للمسيحية كديانة عالمية في حيويتها وسعة مداها الجغرافي، وقد نشأت بالأصل من نفس جذور المسيحية، أي من الثقافات القبلية للشعوب السامية في الشرق الأدنى، كما أنها قريبة من المسيحية ومن مصدرها أي اليهودية في التشديد على أنه لا يوجد إلا إله واحد هو الله، وليس التوحيد هو الشيء الوحيد الذي تشترك به هذه الديانات الثلاث، إذ يقول المسلمون أنهم يعبدون نفس الإله الذي يعبده اليهود والمسيحيون ولكن بطريقة مختلفة.
فارس وبيزنطة
كانت فارس هي القوى الكبرى الثانية في الشرق الأدنى في عام 500 م، وكانت مثل بيزنطة وريثة تقاليد تعود للأخمينيين وقبلهم أيضاً إلى بلاد الرافدين القديمة، وكانت إمبراطوريتها على وشك استعادة أراضيها للمرة الأخيرة عن طريق فتوحاتها التي امتدت من أرمينيا إلى اليمن، وربما ازدادت عداوة حكامها نحو الإمبراطورية الرومانية عندما أصبحت هذه مسيحية، وكان الفرس المسيحيون يتمتعون بالتسامح من الناحية النظرية، إلا أن خطر خيانتهم لبلادهم أثناء الحروب المستمرة مع روما قد جعل من معاهدة السلام التي عقدت في القرن الخامس والتي نصت على التسامح حبراً على ورق. وكان ثمة جماعة من المسيحيين تسمى النساطرة لا ينطبق عليها هذا الوصف، إذ كان الفرس متسامحين تجاههم بالفعل لأنهم مضطهدون من قبل البيزنطيين، وبالتالي فقد اعتبرهم الساسانيون مخلصين لهم من الناحية السياسية، وعلى هذه الصورة كان الدين يقسم المنطقة ويضعف عالميتها السابقة.
وحول هذين المركزين الكبيرين للحضارة كانت تتجمع دول ودويلات أصغر تابعة لهما ولكنها أقل منهما تطوراً، ووراءها كانت تمتد أراضي البرابرة. كان بين جيران بيزنطة في الشرق بعض القواعد المسيحية مثل مملكة أرمينيا، ووراءها تقع الهند، وهي مركز آخر للحضارة ولكنها بعيدة جداً ولا يمكن اختراقها وراء جبال أفغانستان وسهول نهر الهندوس. وفي شبه الجزيرة العربية كانت توجد ممالك صغيرة على درجة من الحضارة وقبائل من البدو الرحل، أما خلف نهر جيحون، آمودريا، فكانت تعيش الشعوب البدوية في آسيا الوسطى، وإلى الشمال من بيزنطة ظهرت مجموعة جديدة من القبائل هي القبائل السلافية التي استقرت على طول القسم السفلي من الدانوب، وإلى الغرب منها كانت الشعوب الجرمانية.
كان أغلب الحروب المتكررة بين بيزنطة وفارس في القرن السادس بلا نتيجة حاسمة، ولكن يمكننا اعتبارها الشوط الأخير في صراع الشرق والغرب الذي ابتدأه الإغريق والفرس قبل ذلك بألف عام، والذي بلغ ذروته عند بداية القرن السابع في آخر حرب عالمية في العالم القديم، وربما كان الدمار الذي سببته هو الضربة التي قضت على الحضارة المدنية الهلنستية في الشرق الأدنى. كان يحكم فارس في ذلك الحين كسرى الثاني، وهو آخر الملوك الساسانيين العظام، وكانت الإمبراطورية البيزنطية ضعيفة لأنها كانت قد خسرت إيطاليا كما أن شعوب السلاف والأفار القادمة من منطقة الفولغا قد بدأت بالتدفق إلى البلقان. ويبدو أن الفرصة قد سنحت لكسرى عندما قتل المتمردون إمبراطوراً بيزنطياً كفأً، فغزت جيوش الفرس أرمينية وكبدوقية وسوريا وخربت مدنها ونهبت أورشليم في عام 615 آخذة معها عود صليب المسيح الذي كان أشهر كنوزها. وفي العام التالي غزت مصر، وبعد عام آخر كانت طلائعها الأمامية على بعد ميل واحد من القسطنطينية، بل إنهم ركبوا البحر فغاروا على قبرص وانتزعوا رودس من الإمبراطورية، وبدا أنهم قد استعادوا إمبراطورية داريوس بينما كانت بيزنطة تخسر آخر ممتلكاتها في إسبانيا على الطرف الآخر من المتوسط. كانت تلك أحلك لحظة في صراع الرومان الطويل مع فارس، ولكن جاء لإنقاذها إمبراطور عسكري جديد هو هرقل – هيراكليوس- المتحدر من أصل أرمني والذي كان قد ارتقى العرش قبل بضع سنوات. لقد كشف هرقل عن كفاءته، فاستخدم القوة البحرية لإنقاذ القسطنطينية في عام 626 م عندما عجز الأفار عن نقل جيش حلفائهم الفرس لمساعدتهم في الهجوم على المدينة، وفي العام التالي اقتحم آشور وبلاد الرافدين وهي قلب النزاع في إستراتيجية الشرق الأدنى منذ القدم، وتمرد جيش الفرس فاغتيل كسرى، وعقد خليفته الصلح مع البيزنطيين. وانتهت بذلك الأيام العظيمة لقوة الساسانيين، واسترجع عود الصليب أو ما قيل أنه عود الصليب إلى أورشليم، وانتهى أخيراً الصراع الطويل بين فارس وروما، وكان مركز تاريخ العالم على وشك التحول إلى صراع آخر.
إعادة صنع الشرق الأدنى
في عام 500 م وبعده بقرون عديدة كانت الحضارات والثقافات على حواف الإمبراطوريتين الغربية والشرقية في حالة من الصراع والتفاعل في الوقت نفسه، ويصح هذا الوصف بالأخص في الشرق الأدنى أكثر منه على أي مكان آخر في العالم. إن الصراعات التي ابتدأت في ذلك الحين سوف تستمر قروناً طويلة، وقد لخص مؤرخ إنكليزي كبير إحدى مراحل هذا الصراع ” النزاع العالمي”، وهو اعتراف واجب بعظمة المواضيع التي كان النزاع يدور حولها. ولكن رغم التغيرات العميقة التي حلت بالمنطقة كان سكانها يشتركون بأشياء كثيرة فيما بينهم، كانت الإمبراطوريات الكبرى في إيران تهاجم الغرب منذ ألف سنة قبل عام 500ق.م، ولم تتخلل ذلك إلا هدنات قصيرة، إلا أن الحروب قد تقرب بين الحضارات أحياناً، وكان هناك في الشرق الأدنى تقليدان ثقافيان مميزان ولكن تأثيرهما متداخلان إلى درجة أنه لا يمكن فصل تاريخهما. فمن خلال الإسكندر وخلفائه كان الأخمينيون قد نقلوا إلى روما أفكار وأساليب ملكية إلهية تعود جذورها إلى بلاد الرافدين القديمة، ومن روما استمرت هذه الأفكار لتزدهر في بيزنطة، وقد سحرت فارس وروما كل منهما الأخرى كما ساهمت كل منهما في تدمير الأخرى في النهاية. ولكن روما نفسها كانت قد تغيرت، فصارت إمبراطورية مركزها القسطنطينية ومحصورة فعلياً بمصر وفلسطين وسوريا والأناضول واليونان وقسم كبير في البلقان حتى نهر الدانوب، وكانت هي القوة العظمى الممثلة للمسيحية في الشرق الأدنى.
الدين والدولة
كان قلب بيزنطة هو دورها المسيحي وأسلوبها الخاصة في التعبير عنه، وكان هذا الدور جزءاً أساسياً من عملية الخلاص المتاحة للبشر، وقد انعكس في كل ما كانت تفعله؛ ولكن لأفعالها في الوقت نفسه أبعاداً أخرى في مجال الدعاية والعلاقات العامة، ومن المستحيل في العادة أن نعرف ما إذا كانت الأولوية للاعتبارات الدنيوية أو غير الدنيوية. لقد استخدم يوستينيانس المسيحية ورجال الكنيسة كفرع من فروع الدبلوماسية، فكان يقف عراباً في عمادة أطفال الأمراء البرابرة، ويرسل المبشرين لتنصير سواهم. كما ساهمت ثروات القسطنطينية وغناها، وكذلك ثروات أجزاء أخرى من الإمبراطورية أثناء حكمه، في إبهار جيرانها، وما زال أعظم صرح فيها هو الباسيليقا التي بناها، أي كنيسة الحكمة المقدسة أو القديسة صوفيا، وقد عُدّت هذه الكنيسة طوال قرون من أعظم بناء في العالم المسيحي، ولو أن قبتها الضخمة انهارت ذات مرة أثناء حكم يوستينيانس وكانت أهبة الوسط الإمبراطوري تستعرض فيها أثناء العبادة بين الذهب والحرير المدلى وإشعاع فسيفسائها ورخامها البديعين.
لقد عاشت الإمبراطورية الشرقية عمراً طويلاً ومرت خلال هذا العمر بتغيرات كثيرة، ولكن سكانها ظلوا يدعون أن لا شيء تغير فيها على الإطلاق، وبقي أباطرتها يحملون لقب أغسطس حتى النهاية. والحقيقة أن جوهرها الديني لم يتغير بل بقيت مسيحية ضمن تقاليد خاصة هي التقاليد التي تسمى أرثوذوكسية، ومن هذه التقاليد نشأت الكنائس الحالية في اليونان وقبرص، وكذلك في روسيا وبلغاريا وغيرها من البلاد السلافية. وكانت الأرثوذوكسية مختلفة من نواح كثيرة عن المسيحية الكاثوليكية التي صارت لها السيادة في أوروبا الغربية، فلم يكن هناك في الكنيسة الأرثوذوكسية مثلاً رجل له سلطة مثل سلطة بابا روما، بل كان الإمبراطور في الحقيقة يعين بطريرك القسطنطينية، وهو الزعيم المعترف به للكنيسة الشرقية بعد القرن السابع، وبالمقابل كان البطريرك يقدم مباركة الكنيسة عند تتويج الإمبراطور. وكثيراً ما كانوا رجال الدين العاديين يتزوجون، بينما صار رجال الدين في الكنيسة الغربية عزاباً، لهذا لم يشكل الكهنة في البلاد الأرثوذوكسية مجتمعاً منفصلاً كما حصل في أوروبا الغربية. إلا أن رهبان الكنيسة اليونانية كانواً عزاباً، وهنا يكمن فرق آخر، لأن الرهبنة المسيحية التي بدأت في مصر في القرن الثالث عندما انسحب القديسون للمرة الأولى إلى الصحراء من أجل الصلاة والتأمل وضبط النفس ضد المغريات الدنيوية، قد بقيت أقرب إلى أنماطها الأصلية في الأرثوذوكسية منها في أشكالها الغربية، التي صارت تبتكر أساليب جديدة في إعطاء الرهبان أدواراً عملية واجتماعية عدا عن أدوارهم الروحية والفردية.
ثم أن التقاليد الأرثوذوكسية اليونانية كانت مضطرة لمعالجة منازعات ومناقشات لاهوتية بصورة أكبر من كنيسة روما في القرون الأولى، ويعكس هذا وجود تقاليد دينية مختلفة ضمن العالم الهلنستي القديم. كانت البطريركيات أي كبرى الأسقفيات الأربع الأساسية هي بطريركيات القسطنطينية وأورشليم وأنطاكية والإسكندرية، وكانت كل منها تمثل شيئاً مختلفاً قليلاً عن الأخريات، فكان لابد من لمصالحها المحلية وتقاليدها الثقافية هي أن تعبر عن نفسها في النزاعات اللاهوتية، وكانت هذه واحدة من القوى الفاعلة طوال قرنين أو ثلاثة كثر فيها الانشقاق والانفصال. وفي الوقت نفسه خرجت أنطاكية والإسكندرية والقدس من نطاق سيطرة الإمبراطورية، أخذتها الجيوش العربية فأعطى هذا أهمية لا سابق لها للتقاليد الأرثوذوكسية اليونانية التي تسير عليها بطريركية القسطنطينية بين الكنائس الشرقية.
لقد خضعت بعض النزاعات لقرارات وتوضيحات المجامع العامة، المسكونية للكنيسة كلها، إلا أن الانقسام بين روما والقسطنطينية استمر طوال الوقت بل توسع. وقد عقد آخر مجمع عام اعترفت به كل من الكنيستين الكاثوليكية اللاتينية والأرثوذوكسية اليونانية في عام 787م، وكان الفرق بين المسيحية الغربية والشرقية عندئذٍ واضحاً جداً، حتى في أكثر معانيه تحديداً وحرفية. ومازالت الكنائس الأرثوذوكسية حتى اليوم تبدو بصورة مختلفة جداً عن الكنائس الغربية سواء كانت رومانية أو أنغليكانية، ومن أوضح تلك الفروق المكان الذي يخصص لصور القديسين ومريم العذراء ويسوع المسيح في الكنائس الأرثوذوكسية، إذ إن هذه الأيقونات تعرض على حجاب خاص وفي المقامات من أجل أن يقوم الناس بتبجيلها، وهي ليست مجرد زينة بل إن الغرض منها هو المساعدة في تركيز التعبد والتعاليم الدينية، أي أنها كما يقال نقطة التقاء بين السماء والأرض. فليس من الغريب إذاً أن يؤدي هذا إلى التشديد على رسم الأيقونات وصنعها من الفسيفساء في الفن البيزنطي ثم في الفن السلافي من بعده، وبالتالي إلى إبداع أعظم التحف في هذين التقليدين. لقد كانت شعبية الأيقونات راسخة منذ القرن السادس، ولكنها ظلت سبباً للخلاف المرير أحياناً، فقط ظهرت حركة "تحطيم الأيقونات" وكانت عاملاً آخر في ابتعاد المسيحية الأرثوذوكسية اليونانية عن المسيحية اللاتينية إلى أن قررت السلطة الإمبراطورية أن تؤيد الأيقونات بحزم في القرن التاسع. صحيح أن الانقطاع الرسمي بين الكنيستين لم يحدث حتى عام 1054، إلا أن المسيحية كانت عملياً في حالة انشقاق قبل ذلك بقرون عديدة، وكان من المحتم أن يسرع هذا الانشقاق التباعد الثقافي والسياسي بين الشرق والغرب بمرور الزمن.
يوستينيانس
بالرغم من ذلك جاء إلى العرش في عام 527 م إمبراطور هو يوستينيانس الذي ظل يأخذ وحدة الإمبراطورية مأخذ الجد وحاول مرة أخرى أن يحكمها ككيان واحد؛ ولكنه في النهاية ساهم هو أيضاً في زيادة الانفصال، ويعتقد أكثر الناس أن قصة الإمبراطورية البيزنطية المتميزة إنما تبدأ به. كان يوستينيانس رجلاً بغيضاً للغاية، فقد كان خداعاً وجحوداً وشكاكاً وبخيلاً، ولكنه كان في الوقت نفسه طموحاً ومغامراً وشجاعاً، وكان يؤمن إيماناً تاماً بأسلوب الحياة الرومانية وبالإمبراطورية كحامية للحضارة والديانة الحق. لقد سحق بلا رحمة الأخطار التي كانت تهدد سلطته في الداخل، كما استعاد بعض الأراضي الرومانية في الغرب لفترة قصيرة، فطرد الأوستروغوط (أي القوط الشرقيين) من روما نفسها وحرر إيطاليا لفترة من الزمن، كما هزم الفيزيغوط في إسبانيا وأعاد حكم الإمبراطورية إلى قرطبة واستعاد جزر كورسيكا وسردينية وصقلية. ولكن ثمن هذا التحرير كان باهظاً، ففي الأزمنة اللاحقة حين كان الناس ينظرون إلى الماضي ويلومون البرابرة على تخريب إيطاليا إنما كانوا في الحقيقة يفجعون لما فعلته بها جيوش يوستينيانس. لقد كان نجاحه نجاحاً مؤقتاً على كل حال، لأن الإمبراطورية كانت تحارب دوماً على جبهتين، وقد استنزفت منها حملاتها المكلفة ضد الفرس كل من الرجال والمال، وعند نهاية حكم يوستينيانس كان البرابرة في تراقيا يفصلون من جديد شرق الإمبراطورية عن غربها، والحقيقة أن افتراق مصيري الشرق والغرب كان مستمراً لا تقطعه إلا هدنات قصيرة.
كانت مساهمة يوستينيانس في الانفصال النهائي مساهمة هامة، ورغم أنه كان يفتخر بأنه يتحدث اللاتينية ومعجباً بالماضي الروماني فقد ساهم أكثر من أي إمبراطور آخر في جعل بيزنطة مركز ثقافة سياسية متميزة. ومن مظاهر ذلك عملية الإصلاح الكبرى التي أجراها على قانونها المعقد والمشوش، والذي كان يعود في بعض أصوله إلى أيام الجمهورية الباكرة، فأمن لها بذلك مجموعة جديدة من الاجتهادات القضائية والمتماسكة، وهي عملية لم تستغرق أكثر من خمس سنوات ولكنها سوف تشكل تاريخ بيزنطة ثم تاريخ أوروبا لقرون طويلة. وقد تبدو هذه خطوة محافظة، إلا أنها كانت في الحقيقة بداية طرق جديدة، وقد صار القانون الروماني الذي وضعه يوستينيانس نافذاً في الشرق من فوره، كما أنه بدأ يصبح مقبولاً في القرن الحادي عشر كأساس للاجتهادات القضائية السليمة في أوروبا الغربية أيضاً. وكانت تسيطر عليه بصورة قوية النظرة إلى القانون كشيء يصنعه الحكام لا كشيء تتناقله الأجيال بحكم العادة كما في التقاليد الجرمانية، وقد راق هذا الأمر لأمراء كثيرين من بعده، ولو أنه لم يرق دوماً لشعوبهم.
واتخذ يوستينيانس قرارات أخرى أضعفت التقاليد القديمة، فعندما فتحت إيطاليا اختار أن يجعل رافينا عاصمة للإمبراطورية بدلاً من روما، كما أنه ألغى أكاديمية أثينا التي كانت مستمرة منذ عصر مؤسسها أفلاطون، إذ أنه كان مصمماً على أن يكون إمبراطوراً مسيحياً، أو على الأقل أن يحكم إمبراطورية مسيحية الطابع، وقد صادر الكثير من الحريات الخاصة التي كان اليهود يتمتعون بها كما تدخل في تقويمهم وعبادتهم وشجع ملوك البرابرة على اضطهادهم، وكان هذا ابتعاداً عن تقليد التسامح الهلنستي الروماني القديم في أمور الدين. وتنطبق هذه المعاملة على بعض المسيحيين أيضاً، لأن يوستينيانس منح دعمه وتأييده الكاملين لرجال الدين الأرثوذوكس الذي عقدوا عددا ً من المجامع الهامة حكموا فيها على بعض العقائد بأنها هرطقة وأدانوها بناء على ذلك، وأدى هذا إلى مضايقة الجماعات التي تسير على تلك العقائد، مثل أقباط مصر ونساطرة شرق سورية الذين اضطروا للجوء إلى فارس، أما الذين لم يهربوا فقد ظلوا يغذون من شعورهم بالظلم والمرارة، وسوف يكلف هذا الإمبراطورية ثمناً باهظاً على المدى البعيد
الإمبراطورية الرومانية عند وفاة يوستنيانس سنة 565 ميلادية
ولم يستطع يوستينيانس ضم الكنيستين اللاتينية الغربية التي صارت تتطلع لقيادة بابا روما والأرثوذوكسية الشرقية كما كان يرجو، وكانت هذه عقبة أيديولوجية أمام أية محاولة لإعادة توحيد الإمبراطورية القديمة. وما كانت الكنيسة الغربية لتقبل بالسيادة الدينية التي ادعاها الإمبراطور حتى في أمور العقيدة، وهي ناحية أهم بكثير مما يبدو للوهلة الأولى، وقد دخل يوستينيانس باندفاع كبير في مناقشات لاهوتية لا تهمنا كثيراً في هذه الأيام ولكنها لم تكن مجرد هواية. أما الكنيسة الغربية فكانت تؤكد دوماً أنه مهما كان واجب الناس نحو حكامهم الدنيويين فإن الكنيسة وحدها هي التي تقول لهم ما هو واجبهم النهائي، لأنهم إنما يدينون به لله، ولهذا سوف تضطر الكنيسة والدولة في الغرب أن تعيشا جنباً إلى جنب، أحياناً بصورة ودية وأحياناً في صراع، أحياناً تسيطر هذه على تلك وأحياناً أخرى تسيطر تلك على هذه، ومن هذا التوتر سوف تنشأ الحرية. أما الكنائس الشرقية فكانت تقول إن السلطتين الروحية والدنيوية ملك للإمبراطور نفسه، الذي له الكلمة الفصل في كل شيء لأنه نائب الله على الأرض. وسوف تنتقل هذه النظرة للحكم في النهاية إلى الحكم الأوتوقراطي لقياصرة روسيا، وكلمة أوتوقراط هي لقب يوناني من ألقاب الإمبراطور وتشكل مصير روسيا التاريخي في المستقبل.
لوحة تمثل الإمبراطور يوستينيانس
ولم ينعكس الاتجاه نحو الحكم الأوتوقرطي منذ أيام يوستينيانس قط، رغم حصول بعض التنازلات وظهور بعض نقاط الضعف أحياناً، فطغت الصفات الشرقية على هذا المنصب الذي كان ذات يوم منصب القاضي الأول في الجمهورية الرومانية، وصار الأباطرة البيزنطيون يعاملون باحترام مهيب مثل ملوك الفرس من قبلهم، وكان ظهورهم للناس يحاط بالاحتفالات المعقدة وعلامات التبجيل المفرطة، بل كان الناس يسجدون أمامهم توقيراً لهم. ويركز الفن البيزنطي على هذه الناحية، فقد كان فناً دينياً تماماً في أشكاله ومواضيعه، وهو يصور الأباطرة على أنهم وكلاء لله على الأرض وتجسيد لقوته الإلهية، كما يصور المسيح بصورة الملك الظفر وليس بصورة المخلص المعذب المهان الذي تراه في الفن الكاثوليكي، وقد كان هذا الأسلوب متأثراً بالفن الآسيوي فضلاً عن فن روما القديمة. ويظهر الأباطرة في صورهم ورؤوسهم محاطة بهالة مثل التي تراها حول رؤوس آخر الأباطرة قبل العصر المسيحي والتي أخذوها عن الإله الشمس، وهي تظهر في صور بعض الحكام الساسانيين أيضاً.
وكان من الطبيعي أن تتأثر بيزنطة بالثقافة الشرقية، لأن الكثير من مقاطعات الإمبراطورية تقع في آسيا، وقد صارت أكثر اعتماداً عليها بعد عام 600 عندما لم تبق لها أراضي كثيرة في أوروبا. وكان على الإداريين أن يتحدثوا اليونانية، ولكن الإمبراطورية كانت متعددة الأعراق وكان الترقي فيها متاحاً للجميع بصرف النظر عن أصولهم الإثنية مثلما كان الأمر في أيامها الماضية، فكان الأباطرة يأتون من سوريا والأناضول والبلقان، وكان يوستينيانس نفسه من مقاطعة إليريا* ومتحدراً من أصول قوطية. صحيح أن مدن آسيا الصغرى قد تتحدث اللغة اليونانية إلا أن هذا الأمر لا ينطبق على الريف، ومع مرور الزمن سيطرت أسماء العائلات الآتية من الأناضول على السياسة والإدارة البيزنطية، فكان هذا مصدراً آخر من مصادر التأثير الآسيوي، وإذا تذكرنا أيضاً الحركة الدائمة عبر الحدود بين بيزنطة وجيرانها الآسيويين وجدنا من الطبيعي أن تبتعد بمرور القرون عن المسيحية الغربية وعن ميراثها الهليني كذلك.
* منطقة قديمة في شمال غربي شبه جزية البلقان على ساحل الأدرياتيك
بدايات بيزنطية
استمرت الإمبراطورية الرومانية التي أسسها قسطنطين ألفاً ومائة عام من بعده في القسطنطينية، وظل حكامها دوماً يسمون أنفسهم روماناً، وهذا هو أيضاً الاسم الذي كان أعداؤهم يطلقونه عليهم، وقد حكموا نصف العالم المسيحي أي قسمه الذي يقع في منطقة المتوسط والشرق الأدنى. وإنك عندما تنظر اليوم إلى تاريخ هذه الإمبراطورية تجد أسباباً كثيرة دفعت الشطرين الغربي والشرقي إلى التباعد واتخاذ طريقين منفصلين، ولكن لم يكن بإمكان أحد أن يرى هذا الاحتمال في البداية، وهو لم يصبح أمراً عادياً إلا بعد أن حدثت خطوات تدريجية كثيرة. لقد تحولت في البداية اهتمامات الحكومة في القرن الثالث نحو الشرق رويداً رويداً، وزاد هذا من أهمية المقاطعات الشرقية والناطقة باليونانية التي كانت فيها أكبر الجماعات المسيحية، كما اتخذ قسطنطين قرارات هامة بأن تكون الإمبراطورية مسيحية وبأن تبنى عاصمة جديدة على مضيق البوسفور في بيزنطة، ولو أنه لم يسكن هناك قط، وكان هذا قراراً حاسماً. ثم انهارت الإمبراطورية الغربية في القرن الخامس فكانت تلك خطوة حاسمة أخرى باعدت بين شطري الإمبراطورية، ومن بعدها لم يعد هناك رجعة. وصارت الإمبراطورية الشرقية مضطرة للتفاهم مع البرابرة المنتصرين في الغرب بأفضل شروط ممكنة، وربما كان هذا هو الأمر الوحيد الذي حافظ على وهم أن الإمبراطورية مازالت موحدة.