كانت الحرب الباردة كما صارت تسمى قد ابتدأت بشكل واضح الآن، وسوف تستمر حتى الثمانينيات وراحت القوتان العظميان كما صارتا تسميان تسعيان لضمان أمنهما بكافة الأساليب عدا عن الحرب، وقد حصلت الأزمة الأولى حول برلين.
كانت القوى الغربية تذكر ماحدث بعد عام 1918، وتسعى لتحقيق تعافي ألمانيا الاقتصادي كخطوة أولى نحو تعافي أوروبا الغربية بشكل عام، فطبقت في عام 1948 ومن دون موافقة الروس إصلاحاً للعملة في مناطقها كانت الحاجة ماسة إليه.
ولما كانت مساعدات خطة مارشال متوفرة للمناطق التي تحتلها القوى الغربية فقط بسبب قرارات السوفييت فقد زاد هذا من تقسيم ألمانيا إلى شطرين ومنذ ذلك الحين صارت ألمانيا الشرقية على الطرف الآخر من الستار الحديدي بصورة قاطعة، بينما بدأت تظهر ألمانيا الغربية المتميزة عنها.
وقد قسم إصلاح العملة برلين أيضاً، وكانت استجابة السوفييت أنهم قطعوا الاتصالات بين المدينة المعزولة ضمن المنطقة السوفييتية وبين أوروبا الغربية. وراح النزاع يتصاعد، فأوقفت السلطات السوفييتية النقل الذي كان يوصل المؤن لسكان القسم الغربي من برلين، ولكن من دون أن تتدخل في وصول الحلفاء الغربيين إلى قواتهم في تلك الأجزاء من المدينة، وكان هدفها من ذلك هو أن تبين لسكان برلين أن القوى الغربية غير قادرة على حمايتهم.
وهكذا ابتدأت لعبة شد الحبل، فنظمت القوى الغربية بتكلفة هائلة جسراً جوياً حافظ على إمداد برلين الغربية بالطعام والوقود والدواء، وكان مطارها الوحيد يستقبل أكثر من ألف طائرة في اليوم، وكان يصلها وسطياً في اليوم الواحد 5000 طن من الفحم وحده، فكأن القوى الغربية كانت تقول ضمناً أن هذا الأمر لايمكن إيقافه إلا بالقوة. وللمرة الأولى منذ الحرب عادت قاذفات القنابل الأمريكية إلى قواعدها في إنكلترا.
واستمر الحصار لأكثر من سنة، من دون أن يصل قط إلى حد إطلاق النار، ولكنه كان حاسماً لأنه أثبت أن الولايات المتحدة كانت مستعدة للقتال من أجل هذه النقطة. ولم ينقطع الإمداد خلال الحصار ولا أرهب البرلينيون الغربيون، ولكن المدينة صارت مقسمة إلى قسمين.
وفي هذه الأثناء وقعت القوى الغربية معاهدة أسست فيها منظمة حلف شمال الأطلسي الناتو في نيسان/أبريل من عام 1949، وقبل أسابيع قليلة من إنهاء الحصار عن طريق الاتفاق. فكانت تلك أول منظمة أوسع من أوروبا تظهر، خلال الحرب الباردة، وقد انضمت إليها الولايات المتحدة وكندا وأكثر دول أوروبا الغربية ماعدا السويد وسويسرا وإسبانيا، وكانت تنص على المساعدة المتبادلة في حال تعرض أي عضو فيها للهجوم، وكانت خطوة جديدة بعيداً عن تقاليد الرئيس واشنطن الانعزالية القديمة في موضوع السياسة الخارجية لأمريكا.
وفي أيار/مايو ظهرت دولة ألمانية جديدة من مناطق الاحتلال الثالث هي الجمهورية الفيدرالية، وفي تشرين الأول/أكتوبر أسست الجمهورية الألمانية الديمقراطية في المنطقة السوفييتية. ومنذ ذلك الحين سوف تكون هناك دولتان ألمانيتان تفصل بينهما حدود من الأسلاك الشائكة والألغام.
ثم عادت الحرب الباردة فاندلعت في شرق آسيا في عام 1965 تقسمت كوريا، فاحتل الروس شمالها الصناعي والأمريكان جنوبها الزراعي، ثم انسحب الاثنان وبذلت جهود لإجراء انتخابات على مستوى البلاد كلها ولكن من دون جدوى، فاعترفت الأمم المتحدة عندئذٍ بحكومة أسست في الجنوب كحكومة شرعية وحيدة لجمهورية كوريا، كما ظهرت حكومة منفصلة في الشمال تدعي السيادة على البلاد كلها.
وغزت القوات الكورية الشمالية الجنوب في حزيران/ يونيو 1950 وخلال يومين أرسل الرئيس ترومان قوات أمريكية لمحاربتها وهو يتصرف باسم الأمم المتحدة، وصوت مجلس الأمن على مقاومة العدوان ولكن الروس كانوا يقاطعونه في ذلك الحين، فلم يقدروا على استخدام حق الفيتو.
بعد بضعة أشهر لاح أن الكوريين الشماليين قد يطاح بهم، ولكن عندما اقترب القتال من حدود منشوريا تدخلت القوات الصينية جيش الأمم المتحدة وأغلبه أمريكي، فطرح هذا الأمر احتمال قيام الولايات المتحدة بعمل عسكري مباشر ضد الصين، ربما بأسلحة ذرية. إلا أن الرئيس ترومان تصرف بحذر ورفض التورط في حرب أكبر على بر آسيا. ثم حصل المزيد من القتال الذي بين أن الصينيين يستطيعون الاستمرار في دعم الكوريين الشماليين ولكنهم عاجزين عن الإطاحة بكوريا الجنوبية ضد رغبة الأمريكان، فبدأت عندئذٍ محادثات الهدنة.
واستلمت الحكم في أمريكا في عام 1953 إدارة جمهورية جديدة معادية تماماً للشيوعية، وكانت تعلم أن الإدارة السابقة قد بينت بشكل كاف إرادة أمريكا وقدرتها على دعم استقلال كوريا الجنوبية، فوقعت الهدنة في تموز/يوليو 1953. وهكذا كسب الأمريكان المعارك الأولى من الحرب الباردة في الشرق الأقصى وفي أوروبا.
قبل الهدنة الكورية بقليل مات ستالين، إلا أن السياسة السوفييتية استمرت على نهجها السابق من دون تبدل، وسرعان ما كشف خلفاؤه أنهم يملكون هم أيضاً السلاح الذري المطور الذي يعرف بالقنبلة الهيدروجينية، فكانت تلك آخر الصروح التذكارية لستالين، وقد ضمنت مكانة الاتحاد السوفييتي في عالم مابعد الحرب إذا كان ثمة شك فيها، لقد سار ستالين بسياسات لينين القمعية إلى خاتمتها المنطقية واستخدمها لإعادة بناء الجزء الأكبر من الإمبراطورية القيصرية بعد أن منح مواطنيه القدرة على النجاة من أشد ساعات المحنة وبمساعدة حلفاء أقوياء ولكن من الواضح أن روسيا كانت ستصبح قوة عظمى من جديد بدون الشيوعية، ولم يكافأ شعبها على تضحياته إلا بنجاته وبشعور المكانة الدولية، وقد ظلت الثقافة السياسية المبنية على الانعزال عائقاً أمام تحديث البلاد وإعطائها طابعاً إنسانياً.
وفي عام 1953 كانت أوروبا الغربية قد أعيد بناؤها بفضل الدعم الاقتصادي الأمريكي، وكان حلف الناتو يحمي الدول الأعضاء فيه. وراحت الجمهوريتان الألمانيتان الفدرالية والديمقراطية تتباعدان أكثر فأكثر، وفي يومين متتالين من شهر آذار/مارس 1954 أعلن الروس السيادة الكاملة للجمهورية الشرقية ووقع رئيس ألمانيا الغربية تعديلاً دستورياً يسمح بإعادة تسليح بلاده. وفي عام 1955 انضمت الجمهورية الفيدرالية إلى حلف الناتو، ورد الروس على ذلك بحلف وارسو الذي كان تحالفاً للدول التابعة لهم، ووافقت ألمانيا الشرقية على تسوية الأمور مع أعدائها القدامى، وأصبح خط نهري أودرا-نيسا هو الحدود مع بولندا.
وهكذا انتهى حلم ألمانيا الكبرى الذي طالما داعب مخيلة القوميين في القرن التاسع عشر ومخيلة هتلر أيضاً، بالقضاء على ألمانيا بسمارك نفسها، وكانت ألمانيا الغربية الجديدة ذات بنية فيدرالية وطابع غير عسكري، وكان يسيطر عليها السياسيون الكاثوليك والديمقراطيون الاجتماعيون[1] الذين كان بسمارك يعتبرهم أعداء للدولة، بينما أصبحت بروسيا التاريخية الآن تحت حكم الشيوعيين الثوريين.
ولم تحدث معاهدة سلام، ولكن مشكلة احتواء قوة ألمانيا قد سويت ضمناً طوال خمسة وثلاثين عاماً وفي عام 1955 ظهرت النمسا من جديد كدولة مستقلة، وكانت القوات الأمريكية والبريطانية قد انسحبت من مدينة تريستا[2].
وفي ذلك الحين كان قد ظهر انقسام عالمي بين ما يمكن أن نسميه الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الموجه أو التي سوف يصبح موجه، وبعد عام 1945 ثم تجاوز جميع التقسيمات السابقة للسوق العالمية، وصار هناك أسلوبان لتوزيع الموارد سوف يقسمان العالم المتطور أولاً ثم المناطق الأخرى وأهمها شرق آسيا.
لقد كان العنصر الأهم والحاسم في النظام الرأسمالي هو السوق، ولو أنها سوق مختلفة جداً عن التي كانت تتخيلها إيديولوجيات التجارة الحرة في القرن التاسع عشر كما أنها كانت سوقاً ناقصة من نواح كثيرة، أما النظام الثاني أي مجموعة الدول الخاضعة للشيوعيين وبعضها الآخر أيضاً فكان عمادها هو السلطة السياسية العليا، أو هذا ماكانت تبغيه على الأقل.
ولقد بقي هذا التمييز بين النظامين حقيقة أساسية في الحياة الاقتصادية العالمية، منذ عام 1945 حتى الثمانينيات ونقصت هيمنة الولايات المتحدة على النظام الأول بمرور الزمن وهيمنة الاتحاد السوفييتي على الثاني أيضاً عما كان عليه الأمر في عام 1950، ولكنهما مع ذلك ظلا يعتبران نموذجين بديلين ومنفصلين تماماً للنمو الاقتصادي، وقد زكت الحرب الباردة التنافس بين الطرفين، وساهم هو بدوره في توسيع العداوة بينهما.
[1] الديمقراطية الاجتماعية هي حركة سياسية تنادي بالانتقال التدريجي والسلمي من الرأسمالية إلى الاشتراكية- المورد
[2] مرفأ على بحر الأدرياتيك