لقد لعبت الظروف دوراً في تشكيل الإمبراطورية الروسية الجديدة لايقل أهمية عن دور الماركسية نفسها. ولم يكن بإمكان حكامها أن يمحوا الماضي كله ويبدؤوا من جديد، بل كان عليهم أن يبدؤوا من أنقاض أكثر الدول الأوروبية تخلفاً، إذ كانت روسيا بلداً أمياً أكثر سكانها من الفلاحين، وكانت همجية من نواح كثيرة، وكان عليهم أن يحكموا شعوباً من أصول ولغات كثيرة ومختلفة، وكان عليهم أن يحكموا شعوباً من أصول ولغات كثيرة ومختلفة قد ترغب بالانفصال. وكان الرعايا السابقون للقيصر معتادين على وحشية الحكم وعلى مضايقة الشرطة، ولم يكن حكامهم الجدد قد أحكموا قبضتهم على البلاد بعد، فاستمروا على هذا الأسلوب نفسه.
كان البلاشفة يؤمنون أن التاريخ إلى جانبهم ويبرر استخدامهم القوة لسحق المعارضة نحو الحزب، الذي كانوا يعتبرونه طليعة البروليتاريا، لذلك لم يظهروا الاحترام للحكم الديمقراطي أو الحقوق الشخصية إلا عندما كان التكتيك يتطلب ذلك. كما أن المجاعة والحرب الأهلية جعلتهم أكثر وحشية.
وسرعان ما وضعوا شرطتهم السرية محل الشرطة السرية القديمة، وبحلول عام 1922 كان الفوضويون وغيرهم من السياسيين اليساريين يسجنون، وكان الحزب الشيوعي قد طهر نفسه من خمس أعضائه تقريباً، صحيح أن التنازلات التي قدمها لينين قد سببت ارتياحاً في الحياة السياسية والاقتصادية، إلا أن هذا الأمر لم يستمر طويلاً، بل جاء بعده إرهاب ومركزية اقتصادية لاسابق لهما، فكانت تلك ثورة حقيقية بدلت روسيا بأكثر مما بدلتها ثورة 1917.
ستالين
لقد هيمن لينين على السنوات الأولى من عمر الاتحاد السوفييتي، وكان خطيباً ومناظراً قوياً، وحتى الذين يخالفونه في سياساته كانوا معجبين بإخلاصه للحزب. ولكنه أصبح منذ عام 1921 مريضاً في أكثر الأحيان، وتنامت المنافسات والصعوبات الشخصية بين زملائه.
وعندما مات في عام 1924 حصل صراع معقد داخل الحزب بزغ منه قائد جديد سوف تصبح سلطته أكبر بكثير مما كانت عليه سلطة لينين في أي يوم من الأيام، هذا القائد هو جوزيف ستالين، وهو أهم شخصية في تاريخ روسيا منذ بطرس الأكبر، وللسبب نفسه أيضاً، وهو أن كليهما قد غيرا التاريخ، وكان كلاهما متوحشين لايعرفان الرحمة، على طريقة الأوتوقراط الكبار.
كان ستالين من جورجيا، وكان البعض يرون فيه مستبداً من النمط الشرقي، وكان أبرع في المناورات من زميله تروتسكي، الذي كان لامعاً ولكنه معتد بنفسه، فأرسله ستالين إلى المنفى بعد أن كان تروتسكي الشخصية الوحيدة القادرة على خلعه، إلا أن ستالين قد أخذ عن تروتسكي السياسة التي كان ينصح بها، وهي تحويل روسيا إلى دولة صناعية بأسرع مايمكن.
ويمكننا اعتبار بداية هذه الثورة في عام 1928 عندما أطلقت أولى خطتي الخمس سنوات الاقتصاديتين، كانت تعاليم الماركسية الرسمية تقول دوماً أن الاقتصاد هو الذي يحدد شكل السياسة والحكم، أما ثورة ستالين التي تمت باسم الماركسية وخلف واجهة من النظريات الماركسية فقد كانت دليلاً على عكس هذه الفكرة تماماً، أي أنك إذا أحكمت قبضتك على الحكم والشرطة والجيش أمكنك تغيير الاقتصاد بالقوة.
ولقد دفعت روسيا ثمناً باهظاً من المعاناة والجرائم الكبيرة حتى أصبحت في عام 1941 قوية وقادرة على مواجهة محنة الحرب الجديدة.
في عام 1928 عاد الإنتاج الصناعي والزراعي إلى مستويات ماقبل الحرب تقريباً، وكانت السياسة الاقتصادية الجديدة التي تبناها لينين قد أدت على نمو في عدد الشركات الخاصة وإلى ازدهار الفلاحين أصحاب المزارع أيضاً، الذين حصلوا أخيراً على أسعار جيدة لحبوبهم.
ولكن خلال عشر سنوات أي في عام 1937، كانت الأعمال الخاصة قد قضي عليها، وقيل أن ارتفاعاً مذهلاً في الإنتاج الصناعي قد حدث، فارتفع إنتاج الحديد الخام أربعة أمثال خلال عشر سنوات، وارتفع إنتاج الكهرباء سبعة أمثال. كما كان استثمار رأس المال عالياً، وكان 80% من الإنتاج الصناعي الروسي يأتي من مصانع بنيت خلال السنوات العشر السابقة.
ولكن الشعب دفع الثمن غالياً، فقد كبح نظام الاستهلاك كما هبطت الأجور الحقيقية لكي تتمكن الدولة من توفير المزيد من المال للاستثمار، ولم يتوزع هبوط مستويات المعيشة بالتساوي، بل إنه أصاب الفلاحين بدرجة أشد. ومن أجل إكراههم على التخلي عن الحبوب التي كانوا سيأكلونها أو يمتنعون عن بيعها من أجل الحصول على أسعار أعلى، اشترى ستالين الأرض في المناطق الأساسية التي تزرع فيها الحبوب وحولها إلى مزارع جماعية، فنشبت مقاومة ضارية لهذه الإجراءات، وكان الحزب دوماً ضعيفاً في الريف، وقد تم سحق المعارضة عن طريق الشرطة السرية والجيش.
وقتل الملايين من الفلاحين الفقراء وصغار الملاكين الأحسن حالاً أيضاً الكولاك في هذه الحرب التي كانت حرباً أهلية ثانية، وأخذت الحبوب لإطعام العمال في المدن الصناعية.
وقد جاءت أسوأ الأزمات في عام 1933، عندما حلت المجاعة بعد المجازر وعمليات التهجير الجماعية، وإن الأرقام الرسمية نفسها كانت تعترف بأن محصول الحبوب السنوي بقي حتى عام 1935 أقل منه في عام 1928. وراح الفلاحون الغاضبون يذبحون حيواناتهم كيلا يضطروا للتخلي عنها، فانخفض عدد رؤوس البقر من 70 مليون في عام 1928 إلى 45 مليون في عام 1935.
واختفت خلال سبع سنوات خمسة ملايين عائلة في الشطر الأوروبي من روسيا، وقد قال ستالين فيما بعد إن إدارة الأمور عن طريق الملكية الجماعية كانت امتحاناً لايقل قسوة عن الحرب العالمية الثانية. إلا أن روسيا كانت قد أصبحت في ذلك الحين قوة صناعية كبرى، وكان هذا هو هدف العملية برمتها.
إن الصمت الذي كان سائداً حيال الحقائق الجارية، فضلاً عن الدعاية السياسية التي لاتهدأ، يساعدان على تفسير غياب المعارضة بين جماهير المدن لأعمال ستالين الوحشية في الأرياف. لقد كانت ثمة شكوك لدى زعماء الحزب، ولكن ستالين مابرح يحكم قبضته على الأمور.
وجرت سلسلة كبيرة من عمليات التطهير والمحاكمة بين عامي 1934-1938، وراح العالم ينظر مذهولاً وهو يرى البلاشفة السابقين يعترفون أمام المحاكم بجرائم غير معقولة، ثم يطلق عليهم النار أو يختفون في السجون ومعسكرات الأشغال الشاقة التابعة للشرطة السرية، ولم يكن محاكمات الأشخاص المعروفين إلا غيضاً من فيض، فقد اختفى مئات الألوف من الموظفين المدنيين ومسؤولي الحزب، وأزيح نصف ضباط الجيش وأعدم تسعة أعشار قادته، وفي عام 1939 كان أكثر من نصف المندوبين الذين حضروا مؤتمر الحزب لعام 1934 قد اعتقلوا.
وهكذا أصبحت روسيا بين أيدي رجال ستالين، وفي عام 1939 كان 70% من أعضاء الحزب منضمين إليه منذ عام 1929، ونشأ جيل جديد يعتبر نظام ستالين أمراً طبيعياً ويعجب به. ولم يكونوا يتعلمون شيئاً عن الماضي إلا من خلال الرواية الرسمية للتاريخ، كما أن المكاسب الهائلة والواضحة التي أحرزها الاتحاد السوفييت منذ عام 1917 قد طرحت الشكوك جانباً.
كان الاتحاد السوفييتي يغطي أكثر من سدس مساحة العالم، وقد استطاع على امتداد هذه الرقعة الشاسعة أن يخفض الأمية تخفيضاً هائلاً، وأن يضع أسس شبكة من خدمات الرفاهة، ويستغل الموارد الجديدة والذكاء والموهبة والمهارة، وحرر المرأة وخلق نظاماً تعليمياً وعلمياً هائلاً يمده بالتقنيين والمدرسين الذين يحتاجهم المجتمع الجديد.
كما أنه بنى قوات مسلحة هائلة لحماية هذه المكاسب، وبعد أن كان الدفاع يستهلك أكثر بقليل من 3% من ميزانية روسيا في عام 1933 صار يستهلك 32.6% منها في عام 1940.
هل كان بالإمكان ياترى إحراز هذه المكاسب بوسائل أخرى، من دون هذه الوحشية وبمعاناة أقل؟ إن هذا السؤال مازال بلا جواب، لقد أعاد ستالين روسيا إلى طريق التحديث الذي استهله بطرس الأكبر، ولكنها ربما كانت ستصل إليه قبل ذلك لولا الحرب الكبرى، إذ أن اقتصادات السوق قد غيرت الدول الأخرى بنفس هذه الدرجة من الحدة خلال القرنين السابقين وكان من المحتم على روسيا أن تصبح قوة عالمية عاجلاً أم آجلاً بالنظر إلى مواردها الضخمة، ولن نعرف أبداً
ما إذا كان الإرهاب والاقتصاد الموجه ضروريين لذلك