منذ عام 1789 كان بعض الأوروبيين يأملون بحدوث الثورات الشعبية وبعضهم يخشون حدوثها، ويبدو أن تاريخ القرن التاسع عشر مؤيداً لكل من هذين الموقفين للوهلة الأولى على الأقل، إذ حصلت بين عامي 1821 و 1914 انتفاضات كثيرة، ودبرت اغتيالات كثيرة، وقامت إضرابات كثيرة وفجرت قنابل كثيرة، فكان ذلك العصر عصراً عنيفاً جداً.
وكثيراً ماكنت تجد القوى السياسية الجديدة، خاصة الاشتراكية الماركسية، تستخدم الشعارات الثورية وما يشبه الأساليب الثورية أيضاً، ولكن رغم كل هذا الهيجان لم تحصل ثورة شعبية ناجحة في أية دولة كبرى، وكانت الأنظمة تعالج انفجارات العنف والقلاقل الشعبية بثقة ومن دون صعوبة كبيرة.
لقد كانت بعض الدول قد سمحت بليبرالية متزايدة في الترتيبات السياسية، فكانت هذه صمامات أمان للتعبير عن الغضب كما أنها كانت وسائل لتلبية المظالم الاجتماعية، ورغم أن بعض حكام أوروبا كانوا يخشون الثورة في عام 1914، فإن استجابة شعوبهم لمتطلبات الحرب قد بينت لهم أنه لم يكن ثمة داع لذلك الخوف.
ولكن الأمور تغير بعد عام 1918 لأن الحرب خربت السلطة التقليدية والرفاه الاقتصادي تخريباً بشعاً وحطمت البنى السياسية للنظام القديم، وعلاوة على هذا كله ظهرت للمرة الأولى دولة عظمى ينادي حكامها بنية صادقة أو غير صادقة بالإطاحة بكل المجتمعات القائمة وإحلال نموذج مختلف محلها، هذه الدولة هي روسيا الجديدة، أي اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية (الاتحاد السوفييتي).
الاتحاد السوفييتي
إن أكثر رجلين عملا من أجل كسب السلطة للبلاشفة في روسيا هما فلاديمير إيليتش لينين وليون تروتسكي، قبل عام 1914 كان لينين قد علم حزبه أن يكون نخبة ثورية صغيرة عالية التنظيم والانضباط، وأن يطهر صفوفه بلا رحمة من كل من يحاول الاختلاف مع قرارات قيادة الحزب أو يرفض تفسيراتها لتعاليم كارل ماركس.
وكانت بداية الحرب قد سببت لجوءه إلى الخارج، ولكنه عاد بمساعدة الألمان الذين كانوا حريصين على القيام بأي شيء يمكن أن يسرع بانهيار روسيا في عام 1917 بعد ثورة شباط/فبراير، ولايدين انهيار الدولة القيصرية بشيء للبلاشفة، بل كان من عمل الجيش الألماني الذي حطم إرادة شعب روسيا بالقتال، وما إن عاد لينين إلى روسيا حتى راح يمهد الأرض لبناء دولة يقودها البلاشفة على أسس اشتراكية.
لقد قام لينين بحملة سياسية بارعة من أجل تقويض سلطة الحكومة الجديدة، وجاءت اللحظة المناسبة لإزاحتها من السلطة في تشرين أول / أكتوبر، فاحتل البلاشفة قصر الشتاء مقر الحكومة وغيره من النقاط الحساسة في العاصمة من دون سفك دماء تقريباً وبفضل تكتيك تروتسكي وتخطيطه، كان مجلس السوفييت تحت سيطرتهم، وهو مكون من مجالس العمال والجنود التي نشأت في الصيف والتي يسود فيها المتعاطفون معها، ومع هذا كان على البلاشفة أن يصارعوا صراعاً شديداً خلال الأشهر القليلة التالية، وقدم تروتسكي مساهمته الثانية الهامة في الثورة عن طريق تنظيم وقيادة الجيش الأحمر الجديد، الذي سحق الراغبين بإعادة النظام القديم وصد البولنديين، ولو أن الألمان قد أكرهوا الاتحاد السوفييتي على عقد صلح مهين في برست-ليتوفسك. لقد كان استخدام الرعب من أجل سحق المعارضين في الداخل أو إرهابهم تقليداً مألوفاً في روسيا بالطبع، ولم يتخلى حكامها الجدد عن أساليب الأوتوقراطية في ثورتهم.
لكن الأمر الأهم من هذا هو أن النظام الجديد قد أعطى الفقراء في المدن والفلاحين ماكانوا يريدونه، أي السلام والأرض. وقد قال أول قرار له أن على جميع الحكومات التجارية المتحاربة أن تناقش فوراً شروط السلام، ومن دون ضم أية أراضين ولم تستجب أي حكومة لهذا المطلب، ولكن هذا الأمر لم تكن له أهمية لأنه كان رسالة للروس مثلما هو رسالة للحكومات الأجنبية.
أما القرار الثاني الذي أصدره مجلس السوفييت في اليوم التالي للاستيلاء على قصر الشتاء فقد أعلن أن الأراضي كلها ملك للشعب، وخلال سنوات قليلة انتقلت ملكية 500 مليون أكر /200 مليون هكتار إلى الفلاحين الفقراء، وألغيت أملاك أصحاب الأراضي السابقين والكنيسة والعائلة المالكة، وهكذا صار لأكثرية هائلة من الروس حصة في النظام الجديد ومصلحة في الحفاظ عليه
فلاديمير إيليتش لينين