يميل المرء عند النظر إلى العالم قبل عام 1914 إلى اعتباره عالماً مختلفاً كل الاختلاف عن عالمنا، ولكن الحقيقة أن الكثير من الأفكار والمواقف في القرن العشرين، لايمكن فهمها مالم تدرك جذورها العميقة الكامنة في القرن التاسع عشر. صحيي أن ثقافة ذلك القرن كانت ثقافة واثقة ومتفائلة وتحررية، إلا أنها كانت تشير في الوقت نفسه إلى عصر قادم من التشاؤم والمحن.
كان بعض الناس يرون في حرية التعبير والنقاش سلاحاً ذا حدين، وإذا استثنينا الأشخاص المعلمين وجدنا أن الملايين من الأوروبيين كانوا غير متعلمين، ومؤمنين بالخرافات، وأن الدين بشكله القديم والبالي ظل هو الناظم الأساسي لحياتهم، فهل من المفيد حقاً أن تضعف إيمانهم بتلك الأفكار التي يرتكزون عليها في تحديد ماهو مقبول وماهو غير مقبول؟ وإذا سمحنا لكل شيء بأن يصبح في النهاية موضعاً للشك ولم نقبل بأي معايير على أنها بديهية، أفلسنا نحكم بذلك أسس المجتمعات أصلاً؟ إن المجتمع بحاجة إلى بعض الافتراضات غير القابلة للشك.
تعود بعض تلك الشكوك إلى القلق الذي سببه عصر التنوير نفسه، بينما نشأ بعضها الآخر من مشاكل جديدة، لقد كان عنصر الشك في الحضارة الغربية عاملاً من عوامل التخريب الذاتي، ويمكننا أن نراه في أعمال تشارلز داروين، وهي من أعظم الإنجازات العلمية في القرن التاسع عشر وأشهرها. وكثيراً ما أسيء فهم أفكار داروين أو بسطت إلى درجة زائدة، إلا أن ماقاله أو ما ظن الناس أنه قاله قد صاغ طرقاً جديدة في التفكير بأمور كثيرة عدا عن البيولوجيا.
يتحدث داروين في كتابه أصل الأنواع 1859 عن عملية الاصطفاء الطبيعي التي تسمح باستمرار الأنواع الأصلح في عالم الطبيعة. وقد ظن بعض الناس أن عالم البشر يعمل بطريقة مشابهة، فصار بعضهم يبرر التنافس الاقتصادي بلا أي قيد على هذا الأساس، وكانوا يقولون أن هذا التنافس يضمن تفوق ذوي الصفات الأفضل من شجاعة وذكاء وتصميم وفطنة في الأمور العملية. وكانت هذه فكرة مريحة للذين لايعلمون ماذا يجب أن يفعلوا تجاه الخاسرين في مسابقة الحياة، فكأنهم كانوا يقولون ضمناً إن اللوم لايقع على أحد، بل إن محنتهم هذه هي نتيجة لعملية طبيعية.
مذهب الحتمية
يسمى هذا النوع من الأفكار أحياناً أفكاراً حتمية، وجوهرها أن بعض الحقائق خاصة الحقائق المادية، هي التي تحدد ما سوف يحدث على المدى الطويل، وأن الجهود الفردية ليست قادرة على تغيير ذلك بأي قدر هام. وهكذا فإن الأشخاص الذين كانوا يرفضون مثل أجدادهم فكرة أن الله يحكم العالم صاروا الآن مستعدين لتقبل فكرة أن العالم تحكمه عمليات مادية غير عاقلة.
فإذا عدنا للمثال المذكور عن أفكار داروين، وجدنا أن العوامل المحددة للتطور في هذه الحالية هي الميراث الجيني، الذي يجعل بعض الأشخاص ناجحين وبعضهم غير ناجحين. ولكن النظريات البيولوجية لم تكن المصدر الوحيد لأفكار مذهب الحتمية هذا، فقد كان بعض المفكرين يشددون على أهمية الجغرافية أو المناخ، وبعضهم الآخر على العوامل الاقتصادية.
وكانت العقيدة الماركسية الرسمية التي يؤيدها اشتراكيو المنظمة الدولية الثانية من هذا النوع، ويبدو أن خلاصتها هي أن العالم يجري على هذا الشكل بسبب القوى الاقتصادية، وأنه يتجه بصورة مطردة وحتمية نحو انتصار البروليتاريا على مضطهديها، وأن لاشيء يقدر على منع ذلك، وهي فكرة مريحة جداً أو مؤرقة جداً بحسب موقعك من دراما التاريخ.
كانت نظريات الحتمية بأشكالها المختلفة أوسع انتشاراً وقبولاً عند نهاية القرن التاسع عشر منها عند بدايته، وتشترك جميعها بناحية واحدة، هي أنها تضعف شعور الناس بالمسؤولية تجاه حياتهم بأنهم أحرار في اتخاذ القرارات التي تشكل تلك الحياة. لهذا فهي مختلفة جداً عن الأفكار المسيحية الكامنة في جذور الحضارة الأوروبية، وعن الأفكار المثالية حول حرية الفرد وسعيه نحو الحقيقة كما كان يحلم بها مفكرو النهضة والتنوير، ومختلفة حتى عن الثقة التي كانت لدى الرجال الذين افتتحوا العصر الصناعي، لأن هؤلاء جميعاً كانوا يؤمنون أن قرارات الأفراد وأفعالهم الاختيارية ذات أهمية كبيرة ويمكنها أن تغير العالم في النهاية. أما هذه الأفكار الحتمية الجديدة فكانت علامة على تفشي الشكوك لدى الناس على مستوى عميق جداً حول أمور هي في صميم ثقافتهم.
إلا أن كل مفهوم جديد ظهر في القرن التاسع عشر سرعان ما وجد له مفهوماً آخر يعارضه ضمن ذلك الجو العام، من الغليان الفكري، لهذا يصعب أن نقول ماذا كان المجتمع يعتقد بالإجمال، ربما لم تكن هذه المحاولة منطقية أصلاً. كان الناس إلى مايشيرون إلى مايرون حولهم من أشياء تقزم الفرد وتسلبه سلطته على التحكم بحياته، مثل نمو المدن العملاقة التي لايعرف فيها الناس بعضهم بعضاً، وتوسع الإمبراطوريات الصناعية التي أصبحوا فيها أشبه بأسنان عجلات صغيرة ضمن آلا ضخمة، وإلى ازدياد سلطة الحكومات أيضاً؛ فكنوا يقولون إن هذه التطورات كلها تترك فيهم شعوراً بالسلبية واللامبالاة والعجز.
ولكننا نستطيع أن نقول من ناحية أخرى إن الملايين من الناس كانوا يتمتعون في حياتهم اليومية بحرية أكبر مما كان الأمر في الماضي، لأن العلم والتقنية أعطياهم تحكماً ببيئتهم لاسابق له. فقد مكنتهم الكهرباء مثلاً من استخدام أفضل لوقتهم، لأنها أمنت لهم وسائل أرخص وأنظف وأبسط في إضاءة بيوتهم وورشاتهم. وأعطى اختراع الدراجة الملايين منهم حرية جديدة في الحركة صاروا يستخدمونها في الترفيه والعمل معاً.
ومع انتشار فكرة منع الحمل سهل عليهم أن يشكلوا حياتهم العائلية كما يشاؤون وألا يتركوا الأمور للصدفة، إلا أن هذه الحرية في الأمور العملية اليومية لابد أن تكون دفعت نظرة الناس في المجتمعات المتقدمة نحو مايسمى النزعة المادية. ولايقصد بالنزعة المادية مجرد زيادة الولع بالأشياء التي تؤمن الراحة والمتعة، بل هي تشمل ايضاً أفكاراً تعود إلى النزعة التجريبية لدى بعض مفكري عصر التنوير.
ومن العلامات الهامة الأخرى الانحسار البطيء للإيمان بعالم مافوق الطبيعة، إذ صار الناس يعتقدون أن الحياة يمكن تفسيرها بأساليب مادية صرفة، وأن العالم يمكن التحكم به من أجل تأمين شروط مادية أفضل لحياة البشر باستمرار. وكانت هذه النظرة متفائلة جداً من إحدى نواحيها، ولكنها تشير أيضاً إلى أن البشر أنفسهم ليسوا إلا نتيجة لقوى مادية، فكيف يمكن لهم إذاً ألا يخضعوا للقوانين المادية التي تحكم بقية العالم؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فكيف يمكن أن تكون لهم أية قيمة خاصة أو جوهرية تؤهلهم لأن يعاملوا معاملة خاصة؟
التمييز العنصري
كانت بعض تلك النظريات المادية الحتمية الصاعدة تدور حول موضوع العرق، وكان تتضمن أفكاراً شريرة وخطيرة، فقد تبنى عدد من الكتاب والمفكرين أفكاراً ربطوها ربطاً غامضاً بأفكار داروين، وادعوا أن العروق البشرية لاتختلف فيما بينها بالصفات الجسمانية فقط مثل لون الجلد وشكل الملامح ونوع الشعر غيرها، ولا بثقافاتها وحدها مثل اللغة والمؤسسات، بل إنها تتباين أيضاً في صفات فطرية من حيث تفكيرها وقدراتها. وكان بعضهم يقولون أن بعض العروق تحتل مرتبة أعلى في سلم التطور، أو تحقق أهدافاً طبيعية أسمى من أهداف العروق الأخرى.
وفي جميع الحالات تقريباً كانت هذه النظريات تقول أن العرق الأبيض هو أفضل العروق قاطبة، بل إن بعض أهل أوروبا وأمريكا الشمالية صاروا يميزون ضمن العرق الأبيض نفسه ويؤكدون أن البيض التوتون أو الأنكلوسكسون هم أسمى من المتوسطيين أو اللاتين. واليوم بدأ أفراد من عروق أخرى يتبعون نفس هذا السلوك المتعجرف ويدعون أنهم متفوقون على غيرهم بالفطرة.
من السهل أن نفهم كيف استطاعت هذه الأفكار المنحرفة أن تجد لنفسها مكاناً ضمن التيار السائد من بحث عن عوامل كبيرة حاسمة تفسر للناس الصورة الإجمالية للأمور، والمؤسف أن الناس كانوا يتصرفون بحسبها، كما راح السياسيون والمروجون لأفكارهم يستخدمونها لإثارتهم وتخويفهم من الخطر الأصفر أي الشعوب المغولية التي زعموا أن توسعها يهدد أوروبا.
كما استخدمت الأفكار العنصرية لتبرير النزعة الوطنية، أو ادعاء الحق بحكم شعوب اعتبرت بطبيعتها دون الشعوب البيضاء لأنها متخلفة، ولكن أهمية هذه الأفكار ظلت قبل عام 1914 أقل بكثير مما صارت عليه فيما بعد إذ أنها قد أدت عندئذٍ إلى عواقب مريعة حقاً.
العداء للسامية
كان اليهود مضطهدين طوال العصور الوسطى وكان أكثر عذر وجده الناس مقنعاً لاضطهادهم هذا هو أنهم يستحقونه، فهم الذين صلبوا يسوع المسيح مؤسس الديانة المسيحية؛ ولم يذكر أصحاب هذه الأفكار أن المسيحيين الأوائل والمسيح ونفسه كانوا جميعهم يهوداً أتقياء.
كانت هذه التهمة طريقة فعالة في إثارة الدهماء في مجتمع العصور الوسطى، وكانت دوماً قادرة على استغلال العواطف الدينية لأهداف شريرة، وكان لدى الناس أيضاً أسباب أخرى لكراهية اليهود، فقد كان هؤلاء منذ زمن بعيد المقرضين الوحيدين للأموال، وكان لهم وجود بارز في عالم التجارة، وكثيراً ماكان المسيحيون مدينين لهم، ولم يكن لليهود مكان واضح وضروري في المجتمع الزراعي في أوروبا العصور الوسطى وحتى اليوم يعتبر بعض الناس أن المصرفيين يمكن الاستغناء عنهم. كما أن اليهود كانوا يتجمعون معاً في المدن، وكانوا متميزين عن غيرهم بصورة واضحة حتى في لباسهم، مع أن أعدادهم كانت قليلة نسبياً.
لقد زالت أيام الاضطهاد والشغب والقتل رويداً رويداً في أوروبا الغربية، ولكن المزيد من اليهود كانوا يتنقلون شرقاً أثناء العصور الوسطى إلى المملكة البولندية الليتوانية. وشيئاً فشيئاً صارت الأعداد الأقل منهم في المقاطعات المتحدة (هولندا) وإنكلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا تعامل بصورة أكثر تسامحاً، خاصة بعد الثورة الفرنسية.
وقد تحرر اليهود كثيراً في القرن التاسع عشر في جميع الدول الغربية من الظلم القانوني والاجتماعي الذي كان مفروضاً عليهم، وصاروا في عام 1900 يعيشون عادة حياة طبيعية، على الأقل بين الطبقات الوسطى والعليا من المجتمع، ولكنهم ظلوا في أكثر الأحيان غير مندمجين فيه، وكانوا يشكلون جماعة متميزة بديانتها وتعليمها ولغتها.
وكانت العبرية لغة الديانة اليهودية، بينما كان أكثر اليهود في أوروبا الشرقية يتحدثون اللغة الييدية، وهي مزيج من اللهجة الألمانية والعبرية، إلا أن الظلم الاجتماعي ظل مستمراً، وحتى اليهود الذين برزوا بروزاً عظيماً في مجالات الفنون والعلوم والتجارة والمال كانوا يظلون عادة على هامش الحلقات الحاكمة في أوروبا، وإن كان هذا الوصف لايصح على يهود الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا.
كان هذه هي الخلفية التي انتشرت عليها الأفكار الداروينية الكاذبة حول العرق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إن العداء للسامية لم يخمد قط، وكانت الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية تشجعه وكذلك النظام القيصري، وكان البعض يتهمون اليهود وغيرهم، كالماسونيين مثلاً بالتسبب بالثورة الفرنسية.
وعندما حدثت أزمة تجارية ومالية كبيرة في ألمانيا والنمسا في سبعينيات القرن التاسع عشر اتهم الكثيرون المصرفيين والممولين اليهود بأنهم سبب فقدانهم لمدخراتهم، كان اليهود يهاجرون من أوروبا الشرقية، خاصة من الجاليات ذات التفكير المحافظ والتقليدي في بولندا وليتوانيا، وكانوا يتميزون عن غيرهم بلباسهم ومظهرهم، وقد أدى قدومهم إلى المدن الكبرى في أوروبا الوسطى، خاصة فيينا، إلى الاصطدام بأهل البلاد حول موضوع الوظائف.
وقد حصلت في فرنسا سلسلة من من الفضائح المالية في ثمانينيات القرن أدت إلى بيع أكثر من مئة ألف نسخة فيها من كتاب يهاجم اليهود، مع أن فرنسا كانت أكثر الدول تسامحاً في القارة الأوروبية، وكان عدد اليهود فيها على الأرجح أقل من عدد الذين اشتروا ذلك الكتاب.
ولكن اليهود لم يكونوا يخشون العودة إلى وضعهم السابق من ناحية الدونية القانونية في أية دولة أوروبية غربية، بل ازداد البارزون منهم تقبلاً في المجتمع، وكانوا يدخلون المهن العلمية بأعداد متزايدة ، ويشتغلون بالسياسة ويرتقون فيها إلى المناصب العليا، كما استمر ازدهارهم في مجال الأعمال وسهل عليها بلوغ التعليم العالي، وكانوا بالإجمال يتطلعون إلى المزيد والمزيد من الاندماج في المجتمعات التي كانوا فيها مواطنين مساوي لجميع المواطنين الآخرين.
وقد ساهم اليهود مساهمة كبيرة بالأخص في الولايات المتحدة، وكان لهم فيها بالذات نفوذ كبير، ولم يكن هناك قبل عام 1914 إلا عدد قليل منهم يعتقدون أن على شعبهم السعي نحو هدف آخر غير الاندماج، وأن عليهم أن يشكلوا أمة مثل أية أمة أخرى في أرض معينة وضمن دولة يهودية مستقلة، وكان أولئك هم الصهاينة.
ولم تكن هذه الصورة مشوهة إلى حد كبير إلا في روسيا القيصرية، كان يعيش في روسيا حوالي خمسة ملايين يهودي عند نهاية القرن التاسع عشر أي خمس عدد اليهود الإجمالي في العالم تقريباً، وكان أكثرهم في منطقة بولندا وليتوانيا. وكانت الحكومة القيصرية تلجأ عمداً إلى الأحقاد القديمة المبنية على الخرافات، والتي أذكتها الكنيسة الأرثوذوكسية، من أجل أن تبعد عن نفسها استياء رعاياها وتفرق بعضهم عن بعض.
ومنذ ثمانينيات القرن التاسع عشر كثرت الاعتداءات المنظمة ضد اليهود، فكانت بيوتهم ومحلاتهم تسلب وتنهب، وكان المجرمون يهاجمون أحياءهم فيضربون سكانها ويقتلونهم أحياناً أو يغتصبون فتياتهم. وكانت الشرطة تنظم في بعض الأحيان هذا الشكل من الاعتداءات، وحتى عندما لاتنظمها كانت السلطات تغض الطرف عن العصابات وتدعها تقوم بالعمل بدلاً منها.
ولم يردع النظام أن اليهود كانوا بارزين في مجالات الأدب والفن والأعمال، بل إنه في الحقيقة سلبهم بعض الحقوق القانونية التي كانت بحوزتهم، وزاد من صعوبة التحاقهم بالمدارس والجامعات، فليس من الغريب إذاً أن يكون اليهود قد برزوا كثيراً في الجماعات الثورية في روسيا، وبنسبة تفوق أعدادهم في المجتمع.
عدا عن روسيا، كانت الدولة الأوروبية الوحيدة التي يوجد فيها العداء للسامية بصورة شرعية عند بداية القرن العشرين هي رومانيا، لقد كان اليهود الرومانيون يحظون بقدر لابأس به من التسامح أيام حكم الأتراك، ولكن الاستقلال السياسي جلب معه العداء للسامية، فكان النضال من أجل حرية البلاد يعتبر حملة صليبية مسيحية ضد الإسلام، وصارت رومانيا الجديدة تعامل الجماعات اليهودية المستوطنة في مقطعات الدانوب منذ قرون طويلة معاملة الغرباء حتى عام 1919. إلا أن الأوروبيين المثقفين في ذلك الحين لم يكونوا يعتبرون أوروبا الشرقية معياراً للحضارة التي ينتمون إليها.