صحيح أن أعداداً كبيرة من البشر عانت من المجاعة، إلا أن أعداداً أكبر منهم قد تمكنت من الحياة، ويعني هذا أن إنتاج العالم قد ازداد، أي أنه قد صار عالماً أغنى، فهل يمكن لهذا التيار أن يستمر؟ ليس هذا السؤال من شأن المؤرخ، بل إن كل ما يستطيع المؤرخ قوله هو أن تيار الاقتصاد العالمي على المدى الطويل، وإذا نظرنا إليه نظرة عامة جداً، هو نحو الصعود.
فقد كان هناك صعود طويل ومستمر من النشاط والثروة انقطع في عام 1914 بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى، ثم عاد نمو الثروة جزئياً في العشرينيات ليتبعه كساد عالمي وتمزق في الاقتصاد العالمي في الثلاثينيات، ثم الحرب بين عامي 1939-1945 التي أتت بالمزيد من التشوهات ولكنها سببت أيضاً تعافياً هائلاً في الإنتاج، وعاد النمو ليتابع مسيرته عالمياً بعد عام 1950 ويصبح أكثر اعتماداً بعضه على بعض بالرغم من الانقسامات السياسية الجديدة. ومازال هذا التيار مستمراً حتى اليوم رغم حدوث بعض النكسات في السبعينيات ثم في الثمانينيات.
في عام 1900 كانت بعض الدول تؤمن إيماناً راسخاً بأن النمو الاقتصادي سوف يستمر، وفي الثمانينيات كانت هذه الفكرة قد انتشرت على نطاق أوسع بكثير، بل إن الكثيرين الآن يشعرون بالأسى إذا لم تثبت الحقائق اليومية هذه الفكرة، وإن هذا لتغير هائل في تفكير البشر.
ولكن رغم هذا النمو يصح على جميع دول العالم تقريباً، فإن توزعه ليس متساوياً. لقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي GDP في كافة أنحاء العالم تقريباً منذ عام 1900 وأدى أحد الحسابات إلى التقديرات التالي لدخل الفرد محسوباً بقيمة الدولار في عام 1988:
الناتج المحلي الإجمالي للفرد في عامي 1900 و 1988
البلد
1900
1988
البرازيل
436
2.451
إيطاليا
1.343
14.432
السويد
1.482
21.155
فرنسا
1.600
17.004
اليابان
677
23.323
المملكة المتحدة
2.798
14.477
الولايات المتحدة
2.911
19.815
إن هذه الأرقام انتقائية وقابلة للشك، وهي بحاجة لتفسير حذر، ولكنها تشير إلى حقيقة أن العالم أصبح أكثر غنى، بينما بقيت بعض الدول فقيرة إلى حد فظيع، ففي عام 1988 كان الناتج المحلي الإجمالي الرسمي للفرد في كل من أفغانستان ومدغشقر ولاوس وتنزانيا وإثيوبيا وكمبوديا وموزمبيق أقل من 150 دولاراً.
لقد نزعت الثروة للنمو بصورة أسرع مع تقدم القرن، مثلها مثل عدد السكان، وإن السلام يسود بين القوى العظمى منذ عام 1945 ورغم جميع العمليات التي تشبه العمليات الحربية الجارية فنادراً ما تحاربت هذه القوى فيما بينها بصورة صريحة؛ بل إن التنافس فيما بينها كثيراً ما شجع على انتقال الموارد والمعرفة فزاد من ارتفاع الثروة الحقيقية.
وقد حصلت أولى تلك الانتقالات في أواخر الأربعينات، عندما مكنت المساعدات الأمريكية من تعافي أوروبا كمركز عالمي أساسي للإنتاج الصناعي. إن التوسع الاقتصادي الهائل في الاقتصاد الأمريكي أثناء الحرب والذي أخرجها من الكساد السابق فضلاً عن مناعة أمريكا من الأذى المادي الذي سببته تلك الحرب قد مكن من إحراز انتصار كبير، وأعاد بناء القوة الاقتصادية الأمريكية، كما عزز التوسع الهائل في التجارة العالمية طوال ثلاثين سنة تقريباً. وقد ساعدت الظروف الدولية في ذلك، إذ لم يكن ثمة مصدر بديل لرأس المال بذلك الحجم.
كانت الدول أشد رغبة من أي وقت مضى في وضع مؤسسات من أجل التعاون فيما بينها على تنظيم الاقتصاد الدولي، وكانت مصممة على تجنب العودة إلى الفوضى الاقتصادية المدمرة التي حدثت في الثلاثينات، فدفعها هذا إلى إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتفاقية العامة على التعرفات والتجارة GATTA وإن هذا الاستقرار الاقتصادي في العالم غير الشيوعي قد عزز بعد عام 1950 عقدين من النمو في التجارة العالمية بمقدار 7% تقريباً في العام بالقيم الحقيقية.
لقد ساهم العلماء والمهندسون أيضاً من ناحية أقل وضوحاً في النمو الاقتصادي على المدى البعيد، وذلك عن طريق التقنية وتحسين العمليات والأنظمة وعقلنتها، فكان هذا منحنى تصاعدياً آخر أصبح واضحاً، خصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد أدت هذه التطورات إلى حدوث نمو عظيم في مجال إنتاج الغذاء.
إن مبيدات الأعشاب الضارة والحشرات لم تتوفر بصورة تجارية إلا في الأربعينيات والخمسينيات، ولكن مكننة الزراعة كانت عندئذٍ شائعة في البلاد المتطورة، وكان رمزها الواضح هو استخدام الجرارات. أما الآن فلم تعد المكننة مقتصرة على الحقول، إذ مكنت الكهرباء من استخدام الآلات في عمليات الحلب وتجفيف الحبوب ودرسها وتدفئة حظائر الحيوانات في الشتاء، ثم جاء أخيراً الكومبيوتر والأتمتة.
وانخفضت بذلك أهمية المجهود البشري، ففي الولايات المتحدة وأوروبا الغربية مازالت القوة العاملة في مجال الزراعة تتقلص والإنتاجية لمساحة معينة ترتفع. ولكن يبدو أن أعداد المزارعين الذين يعملون لكفافهم في العالم هي اليوم أكبر مما كانت في عام 1900، وذلك بسبب زيادة أعداد البشر أصلاً . كما أن حصة هؤلاء المزارعين النسبية من مساحة الأراضي المزروعة في العالم ومن قيمة المنتوجات الزراعية فقد انخفضت.
الأغنياء والفقراء
إن الوفرة الزراعية ليست موزعة بصورة متساوية وكثيراً ما تعرضت للنكسات، فقد كانت مزارع روسيا تزود ذات يوم مدن أوروبا الوسطى والغربية بالحبوب، ولكن الاتحاد السوفييتي عانى في عام 1947 من مجاعة شديدة أدت من جديد إلى سماع روايات عن أكل لحوم البشر.
وإن تحسن الإنتاجية الذي تم على مدى مائة عام سابقة قد توقف في بعض دول أوروبا الشرقية بعد عام 1945، بل إن بعضها مرت بحال من التراجع خلال العقود الثلاث التالية. ومازالت زراعة الكفاف شائعة والإنتاجية منخفضة في الدول ذات أعداد السكان الكبيرة والمتزايدة بسرعة.
فقبل الحرب العالمية الأولى مباشرة كان إنتاج الحنطة في بريطانيا للأكر الواحد أكثر بمثلي ونصف من إنتاج الهند، وفي عام 1968 أصبح أكبر بخمسة أمثال تقريباً وفي الفترة نفسه رفع الأمريكان إنتاجهم من الأرز من 4.25 إلى حوالي 12 طن للأكر، بينما لم يرتفع في بورما وهي التي تعتبر أهراء الأرز في آسيا إلا من 3.8 إلى 4.2.
إن الزراعة المتطورة توجد عادة في الدول المتطورة من نواح أخرى أما الدول الأمس حاجة لزراعة الغذاء فيصعب عليها أن تنتجه بصورة أرخص من العالم المتطور، إلا إذا كان لديها اختصاص زراعي معين. وهكذا تجد الروس والهنود والصينيين، وهم منتجون كبار للأرز، يشترون اليوم الحنطة من أمريكا وكندا.
إن هناك مقياساً بسيطاً لتفاوت توزيع الثروة، هو مقياس الاستهلاك، ويستهلك نصف البشرية تقريباً حوالي ستة أسباع إنتاج العالم ، بينما يتقاسم النصف الآخر البقية، والكهرباء مثال جيد لأن أكثرها يستخدم في نفس البلد التي تنتجها ولايتاجر بها بين الدول إلا بمقدار ضئيل نسبياً.
فعند نهاية ثمانينيات القرن العشرين، كانت الولايات المتحدة تنتج من الكهرباء للفرد مقداراً أكبر مما تنجه الهند بأربعين مرة، وأكبر من الصين بـ23 مرة، وأكبر من سويسرا بمقدار 1.3 مرة فقط.
إن الفقراء لم يزدادوا فقراً عادة إلا في بعض الحالات، ولكن الأغنياء هم الذين ازدادوا غنى بصورة كبيرة، وحتى التحسينات المذهلة في الإنتاج عجزت عن تغيير وضع الدول الفقيرة بالقياس إلى الغنية بسبب ارتفاع أعداد السكان، كما أن الدول الغنية ابتدأت بالأساس من مستوى أعلى، وإن أكثر الدول التي كانت تتمتع بأعلى مستويات للمعيشة في عام 1900 مازالت تتمتع بها اليوم، وهي الدول الصناعية الكبرى في العالم المتطور.
العالم الصناعي
لقد مرت صورة الصناعة في العالم بتغيرات واسعة في توزيعها وفي طبيعتها منذ بداية القرن العشرين، في عام 1970 ظلت ثلاثة من التجمعات الصناعية الكبرى في العالم هي نفسها التي كانت في عام 1939، أي الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، والاتحاد السوفييتي.
أما في عام 1990 فقد أصبحت اليابان في المركز الثالث بينما ترجع الاتحاد السوفييتي وراء ألمانيا، وإن الصناعات الثقفيلة التي طالما ظلت عماد القوة الاقتصادية لم تعد اليوم عاملاً حاسماً، فمن بين أكبر ثلاث دول مصنعة للفولاذ في عام 1900، ظلت أول اثنتين منها أي الولايات المتحدة وألمانيا بين الدول الخمس الأولى بعد ثمانين سنة مع أن ألمانيا تقلص حجمها عما كانت عليه في عام 1900، ولكنهما أصبحتا في المركزين الثالث والخامس بالترتيب، بينما أتت المملكة المتحدة التي كانت الثالثة في عام 1900 في المركز العاشر في التجارة العالمية، وأصبحت كل من إسبانيا ورومانيا والبرازيل قريبة جداً منها.
وكثيراً ما وجدت الصناعات الجديدة بيئة أفضل في بعض الدول النامية منها في الدول ذوات الاقتصاد الناضج، ففي عام 1988 كانت الإنتاج المحلي الإجمالي للفرد في تايوان أكبر بحوالي 18 مرة منه في الهند، وفي كوريا الجنوبية أكبر بحوالي 15 مرة.
لقد ظهرت صناعات جديدة لم يكن لها وجود حتى في عام 1945، مثل الإلكترونيات والبلاستيك، كن الفحم قد حل محل الماء الجاري والخشب في القرن التاسع عشر كمصدر أساسي للطاقة في الصناعة، ولكن الطاقات الهيدروكهربائية والنفط والغاز الطبيعي انضمت إليه قبل عام 1939 بزمن طويل، وأضيفت إلى هذه كلها مؤخراً الطاقة الناجمة عن الانشطار النووي.
ولكننا نستطيع أن نميز ضمن هذه التبدلات السريعة خطاً مستمراً منذ زمن بعيد، هو النمو الهائل في إنتاج البضائع المصنوعة لاستخدام المستهلك الفرد ومتعته بصورة مباشرة. ولهذه البضائع أشكال لاتعد ولاتحصى.
نكتفي بمثال منها: في تسعينيات القرن التاسع عشر اخترع الفرنسي بانار آلة غريبة ذات أربع عجلات يمكننا اعتبارها اليوم جد السيارة الحديثة، وعندما جرى أول معرض للسيارات في لندن في عام 1896 كانت أعدادها قليلة بعد، وكانت لعباً غالية الثمن للأغنياء، إلى أن أنشأ هنري فورد في عام 1907 خط إنتاج مصمماً خصيصاً للسوق الواسعة بسعر منخفض. وفي عام 1915 كانت تصنع مليون سيارة فورد في العام الواحد، وبعد أحد عشر عاماً كان الطراز Model T يباع بأقل من 300 دولار.
لقد أمن فورد بهذا للجماهير سلعة كانت تعتبر سلعة كمالية غالية، فغير العالم بقد ما غيره قدوم السكك الحديدية قبل قرن واحد، لأن الآخرين راحوا يقلدون اختراعه ويسيرون على أسلوبه، فساهم بذلك في نشر وسيلة من وسائل الراحة والمتعة، وفي نشر شكل جديد من أشكال التلوث أيضاً في كافة أنحاء العالم.
وفي ثمانينيات القرن العشرين كانت قد ظهرت صناعة سيارات عالمية ومتكاملة دولياً، إن ثلاثة أربعا السيارات التي في العالم تصنعها اليوم ثماني شركات كبرى، ويدين النمو الاقتصادي لليابان بعد عام 1960 بالكثير لصناعة السيارات فيها، ولكنها أصبحت في عام 1990 تخفف هذه الصناعة بشكل مقصود استباقاً للمنافسة الخارجية.
وقد نتجت عن السيارة تغيرات أخرى، فإن نصف الرجال الآليين المستخدمين في الصناعة العالمية اليوم يعملون في عملية اللحام في مصانع السيارات، والربع الآخر يقوم بعملية الدهان فيها، وأدى هذا الاختراع أيضاً على المدى الطويل إلى خلق طلب كبير على البترول، ولو أن هذا الأمر كان يلوح قبل عام 1914، كما أصبح الكثير من الناس يعملون في مهن معتمدة على السيارة.
وقد ساهم فورد في تبديل طبيعة العملية الإنتاجية عن طريق الاستفادة من ابتكارات غيره في تنفيذ أفكاره، مثل الكثيرين من ذوي الأفكار الثورية. فهو لم يخترع خط التجميع التي تتصف به الطريقة الحديثة ي الصناعة بانتقال السلعة من عامل إلى آخر أو من رجل آلي إلى آخر ولكنه وسع استخداماته بشكل كبير.
وكثيراً ما استهجن الناس التأثير النفسي لهذه الطريقة على العامل، ولكنها كانت ضرورية من أجل توسيع المشاركة في الثروة. وقد رأى فورد أن هذا النوع من العمل ممل، فصار يدفع رواتب أعلى للتعويض عن ذلك، وساهم بهذا في تغذية الازدهار الاقتصادي عن طريق رفع القدرة الشرائية وبالتالي زيادة الطلب على البضائع.
الاتصالات
لقد تطورت الصناعة تطوراً ثورياً منذ عام 1945 بفضل تقنية المعلومات، أي اختراع وإدارة الآلات الإلكترونية الخاصة بمعالجتها، ونادراً ما جاءت موجات التجديد بمثل هذه السرعة، وقد تم قسم كبير من الاختراع والتطوير في هذا المجال أثناء الحرب العالمية الثانية، وسرعان ما انتشر خلال عقود قليلة إلى مجالات واسعة من الخدمات والعمليات الصناعية.
لقد ارتفعت طاقة الكومبيوترات وسرعتها ارتفاعاً سريعاً، كما انخفض حجمها وتحسنت طرق الإظهار فيها، فأمكن بذلك ترتيب ومعالجة كميات أكبر بكثير من المعلومات بسرعة لاسابق لها. وجلبت هذه التغيرات الكمية تبدلات نوعية، فعمليات الحساب التي كانت تحتاج حتى زمن قريب، حياة الكثير من علماء الرياضيات لإنجازها يمكن القيام بها الآن خلال دقائق قليلة، ولم يتسارع التطور الفكري بهذه الصورة المفاجئة من قبل قط، وفي الوقت نفسه ازدادت سعة الكومبيوترات وقوتها بسرعة مذهلة، فصار من السهل وضعها ضمن حيز أصغر فأصغر، وخلال ثلاثين سنة صارت الشريحة الدقيقة التي بحجم بطاقة الائتمان قادرة على القيام بعمل كان يحتاج في البداية جهازاً بحجم غرفة المعيشة. وتظهر التأثيرات الكبيرة لهذه التطورات في جميع نشاطات البشر، من جمع الثروات إلى خوض الحروب.
إلا أن الكومبيوترات ليست إلا الحلقة الأخيرة في سلسلة طويلة من الاختراعات في مجال الاتصالات، فقد أتى القرن التاسع عشر باستخدام البخار في النقل البري والبحري، ثم جاء المحرك الذي يعمل على البترول أو محرك الانفجار الداخلي والترام الكهربائي.
وكان المنطاد اختراعاً من القرن الثامن عشر، وقد وجدت أولى المناطيد القابلة للتوجيه ذات المحرك قبل عام 1900، ولكن أول عملية تحليق لآلة أثقل من الهواء ذات محرك وقادرة على حمل الإنسان لم تتم حتى عام 1903 وبعد ثمانين عاماً من ذلك التاريخ أصبحت قيمة البضائع المستوردة والمصدرة عبر مطار هيثرو، وهو أوسع مطارات لندن، أكبر منها في أي مرفأ بحري آخر في بريطانيا، كما صارت الطائرات اليوم هي الطريقة المألوفة في الأسفار البعيد، وهي تقدم خدمة ما كان بإمكان أحد أن يتصورها عند بداية القرن، وكان نقل المعلومات في ذلك الحين قد مر بثورة منذ حوالي نصف قرن فكانت الأعمدة التي تحمل الأسلاك للتلغراف الكهربائي على طول السكك الحديدية مشهداً مألوفاً؛ وما أن استغل ماركوني النظرية الكهرطيسية أي الكهربائية المغناطيسية لإرسال أولى الرسائل اللاسلكية حتى استغنت أجهزة الإرسال والاستقبال عن وسائل الربط المادية فيما بينها.
إن أول رسالة لاسلكية عبرت الأطلسي كانت في عام 1901، أي في أول عام من هذا القرن الذي تأثر بهذا الاختراع أيما تأثر، وفي عام 1930 لم يعد أكثر الأشخاص الذين يملكون مستقبلات لاسلكية وكان هناك الملايين منهم يعتقدون أنه يجب إبقاء النوافذ مفتوحة لكي تصل إليهم موجات البث. وكان البث الإذاعي الواسع النطاق جارياً في ذلك الحين في أكثر الدول الكبرى.
وسرعان ما أصبح نقل الصورة سهلاً مثل نقل الصوت، ففي عام 1896 جرى أول عرض سينمائي في لندن في معهد ريجنت ستريت بوليتكنيك. وفي عام 1914 صارت هناك 3.500 دار عرض للسينما في بريطانيا ودور كثيرة غيرها في الدول الأخرى. ونشأت صناعة أفلام السينما، خاصة في الولايات المتحدة، ولو أن الهند سوف تصبح في النهاية أغزر الدول إنتاجاً سينمائياً في العالم ومنذ عام 1939 كانت السينما والمذياع قد بدآ بتغيير العادات والأذواق والأفكار، وقد استخدمهما السياسيون والحكومات ورجال الأعمال المتلهفون للترويج لبضائعهم.
وربما كان تأثير هاتين الوسيلتين الإعلاميتين في معرفة ما يمكن للحياة أن تقدمه من النواحي المادية أوسع حتى من تأثير التعليم الابتدائي ومحو الأمية والصحف، ورغم التوسع العالمي الهائل في هذه الوسائل. ومع أن روسيا السوفييتية والهند واليابان قد صنعت كلها أفلاماً متميزة للاستهلاك المحلي، فقد نشرت السينما في أكثر الأحيان الأفكار والمعايير المبنية على الحياة في أمريكا الشمالية وأوروبا.
أما تأثير التلفزيون فكان أكبر حتى من هذا، لقد تم أول بث بدائي للصور على يد رجل ألماني في عام 1911، وفي عام 1936، افتتحت الـ BBC أول خدمة منتظمة للبث التلفزيوني. ولكن التلفزيون لم يثبت قدميه إلا بعد عام 1945، وكان ذلك أولاً في الولايات المتحدة ثم أصبح وسيلة إعلامية شائعة بعد عشرين سنة في الدول الصناعية الكبرى. وهو الآن المصدر الأساسي لدى جماهير الناس للتسلية والمعلومات في كافة أنحاء العالم.ومازال الجدل مستمراً حول تأثيرات التلفزيون، ولكن لاريب أنه قد أخذ الكثير من جاذبية الصحف والمذياع والسينما.
وربما افتتح عصراً جديداً من الاتصالات صارت فيه الصور تلعب الدور الأساسي بدلاً من القراءة، وربما كانت هذه أكبر قوة في التغيير الثقافي والاجتماعي، منذ اختراع الطباعة، لأنها تبعد الناس عن الكلمات وتجتذبهم نحو الصور، وتبعدهم عن التفكير وتدفعهم إلى الانفعالات بمدها وجزرها وإلى الانطباعات غير الدقيقة.