بيد أن تلك العاصفة الكاسحة لم تكن نهاية تقاليد بلاد الرافدين بعد، لقد ترك انهيار آشور الهلال الخصيب عرضة لغزاة جدد، ففي الشمال اندفع الميديون عبر الأناضول إلى أن صدوا عند حدود ليديا* ، ودفعوا السقيتيين إلى وطنهم في روسيا.
واستولى أحد فراعنة مصر على الجنوب وساحل بلاد الشام ولكنه هزم على يد الملك البابلي نبوخذنصر، الذي منح حضارة بلاد الرافدين ربيعها الأخير من المجد القصير. كانت إمبراطورية نبوخذنصر آخر إمبراطورية بابلية، وكانت تمتد من السويس والبحر الأحمر وسوريا عبر بلاد الرافدين حتى مملكة عيلام القديمة، التي صارت تحكمها الآن سلالة هندية أوروبية ثانوية تدعى السلالة الأخمينية. وتكفي فتوحات نبوخذنصر لكي تخلد ذكراه كفاتح عظيم، فقد خرب أورشليم في عام 587 ق.م إثر ثورة يهودية ودمر المعبد من جديد، وأخذ سبطا يهوذا إلى الأسر في ثلاث عمليات ترحيل كبرى، ففرض عليهم السبي، وهي تجربة ساهمت مساهمة كبيرة في صياغة هويتهم، بحيث صار بإمكاننا أن نسميهم من بعدها "يهوداً" ، لأنهم أضحوا ورثة وحملة تقاليد قومية يسهل اقتفاء أثرها منذ ذلك الحين. وقد ساهم يهود السبي في تجميل عاصمة نبوخذنصر، التي بقيت حدائقها المعلقة أو سطوحها في ذاكرة الأجيال واحدة من عجائب الدنيا السبع، وكان نبوخذنصر بلا ريب أعظم ملك في زمانه.
كانت أبهة الإمبراطورية البابلية تتركز كل عام في عبادة مردوك، التي بلغت الآن ذروتها، فقد كان يقام احتفال كبير في رأس السنة تحضر فيه جميع آلهة بلاد الرافدين، الأصنام والتماثيل الموجودة في مقامات الولايات كلها، عبر الأنهار والقنوات لكي تتشاور مع مردوك في معبده وتعترف له بسيادته. وكانت تحمل في موكب كبير بشارع يبلغ طوله ثلاثة أرباع الميل(1كم) قيل أنه كان أفخم الشوارع في العالم القديم، أو ترسو من الفرات قريباً من المعبد، حيث تحمل إلى حضرة تمثال الإله مردوك، الذي قال عنه المؤرخ الإغريقي هيرودوتس بعد قرنين أنه كان مصنوعا من طنين وربع الطن من الذهب. ولا ريب أنه كان يبالغ ولكنه كان بالتأكيد تمثالاً بديعاً. كانت الآلهة تتداول مصائر العالم كله الذي كان مركزه هذا المعبد وترسمها لسنة أخرى. وعلى هذه الصورة كانت الثيولوجيا انعكاساً لحقيقة سياسية، لأن إعادة تمثيل دراما الخلق كانت مصادقة على سلطة مردوك الأبدية وملكية بابل المطلقة، وكان الملك يحمل مسؤولية ضمان النظام في العالم فكان بالتالي يتمتع بالسلطة اللازمة لذلك.
كانت تلك آخر مراحل ازدهار تقاليد بلاد الرافدين المديدة. لقد ضاعت ولايات على عهد خلفاء نبوخذنصر، ثم حصل غزو في عام 539 ق.م عن يد فاتحين جدد من الشرق يسمون الفرس، فكان الانتقال من العظمة والأبهة إلى الذل والخراب انتقالاً سريعاً، يوجزه سفر دانيال من العهد القديم في مشهد ختامي رائع هو وليمة بَلَشَصَّر* وهي رواية لم تكتب إلا بعد ذلك بنحو ثلاثمائة عام كما أنها مغلوطة في حقائق هامة ** إلا أن وراء نبرتها المشددة حقيقة درامية ونفسية جوهرية. فإذا كان لقصة العصور القديمة نقطة تحول فإنما هي هذه النقطة، إذ زالت تقاليد بلاد الرافدين المستقلة التي تعود إلى أيام سومر، وأمسينا على عتبة عالم جديد***.
* بلد قديمة في غرب آسيا الصغرى تركيا الحالية على بحر إيجة
* " وفي تلك الليلة قتل بلشصر ملك الكلدانيين، وأخذ الملك داريوس الميدي" (سفر دانيال 5/30-31)
** يشرح المؤلف في كتابه الأكبر أن بلشصر لم يكن ابن نبوخذ نصر ولا خليفته، وأن الملك الذي أخذ بابل كان قورش
*** يقتبس المؤلف أيضاً في الكتاب الأكبر " اقعدي صامتة وادخلي في الظلام، يا بنت الكلدانيين، فإنك لا تدعين سيدة الممالك بعد" (أشعيا 47/5)