الإمبراطورية الرومانية
لقد احتاج لقب Imperator الذي حمله أوغسطس وخلفاؤه إلى زمن طويل لكي يصبح معناه الرجل الذي يتربع على قمة الإمبراطورية، أي ما نسميه إمبراطوراً وكان أكثر تاريخ الإمبراطورية على هذه الصورة، مثلما حدث على عهد الجمهورية، أي أن المؤسسات والأفكار كانت تتغير رويداً رويداً وبطريقة غير ملحوظة على المدى القصير. في القرن الذي تلا موت أوغسطس جاء إلى العرش إثناء عشر إمبراطوراً، كان أول أربعة منهم أقرباء له ولعائلته، وآخرهم نيرون الذي مات في عام 68 ميلادي. ثم تفككت للتو في حرب أهلية، فنودي بأربعة أباطرة في عام واحدة. وبين هذا الأمر أنه عندما يعجز الإمبراطور عن تأمين انتقال السلطة إلى خليفته بصورة سلمية فإن السلطة الحقيقية تكون بيد الجيش، كما حدث في العام الذي يسمى "عام الأباطرة الأربعة". وربما كان هناك أكثر من جيش واحد في المعادلة، لأن حاميات المقاطعات قد تؤيد عدة مرشحين مختلفين، وقد تكون الكلمة الأخيرة أحياناً للحرس الإمبراطوري الشخصي في روما نفسها لأنه في مسرح الأحداث. وقد بقي مجلس الشيوخ يعين القاضي الأول في الجمهورية ولكن لم يكن بمقدوره إلا أن يعمل عن طريق المناورة وحبك المكائد، ولم يكن بقادر على هزم الجيش في المحصلة. أما الأباطرة فكانت صفاتهم وكفاءاتهم الشخصية تحدد ما يقدرون على فعله، بشرط أن يحافظوا على ولاء الجيش.
وظهر في النهاية إمبراطور صالح من عام الأباطرة الأربعة، هو فسبسيانس، الذي كان أسوأ عيوبه البخل. لم يكن فسبسيانس أرستقراطياً رومانياً، بل كان جده قائد مئة ثم أصبح جابي ضرائب، ولكنه كان عسكرياً بارزاً. وبات من الواضح أن العائلات الرومانية القديمة قد فقدت قبضتها على السلطة، إلا أن عائلة فسبسيانس -أي العائلة الفلافية- قد عجزت عن الحفاظ على الخلافة الوراثية لفترة طويلة، فعاد أباطرة القرن الثاني إلى الحل الذي ابتدأه أغسطس، أي تبني ورثة العرش. وجاء أربعة من هؤلاء هم ”الأباطرة الأنطونيون” الذي أمنوا للإمبراطورية قرناً كاملاً تقريباً من الحكم الصالح والهادئ، بدا للعصور اللاحقة عصراً ذهبياً، وكان ثلاثة منهم إسبانيين وواحد إغريقي، أي أن الإمبراطورية لم تعد بيد الإيطاليين.
كانت الإمبراطورية عالمية في قمتها إذاً كما تدل أصول هؤلاء الأباطرة، وفي قاعدتها أيضاً ما برحت تحطم الحواجز بين الشعوب. واستمرت عملية رومنة العائلات القائدة في المقاطعات باطراد، فتعلم شباب الغاليين والسوريين والأفارقة والإلبريين اللغتين اليونانية واللاتينية، وكانوا يرتدون ألبسة مثل ألبسة الرومان ويربون على الافتخار بالتراث الروماني. وكان الموظفون المدنيون والجيش يحافظون على سير الأمور ويحترمون مشاعر الناس في المناطق المختلفة من الإمبراطورية طالما أن الضرائب تدفع بانتظام، وعندما صدر في عام 212 م مرسوم يقضي بمنح حقوق المواطنة لجميع الرعايا الأحرار في الإمبراطورية، كان هذه هي النتيجة المنطقية لعملية الاندماج الطويلة. وحتى مجلس الشيوخ كان بعض أعضائه في ذلك الحين غير مولودين في إيطاليا، ولم تعد صفة روماني تدل على الولادة في مكان معين بل على الانتماء إلى حضارة معينة.
الإمبراطورية الرومانية في العام 117 الميلادي.
لقد ازدادت مكانة الأباطرة، أو مكانة منصبهم على الأقل، وصاروا يبتعدون عن صورة القاضي الأول ويزدادون تشبثاً بالملوك الشرقيين، الذي يعتبرون من طينة مختلفة عن طينة رعاياهم. وساهمت في هذا عادة تأليه الإمبراطور بعد موته. فقد أله كل من يوليوس قيصر وأوغسطس من بعد موتهما، ولكن منذ دوميتيانس وهو ابن قسبسيانس صار الأباطرة يؤلهون أثناء حياتهم، كما أن المذابح التي كانت تقدم عليها القرابين للجمهورية أو لمجلس الشيوخ باتت تكرس للإمبراطور فقط، خاصة في الشرق.
القديس بولس
كانت تلك الطائفة اليهودية الجديدة قد ضربت جذورها أولاً بين الجماعات اليهودية، التي كان توزعها على أهمية كبيرة في تحديد نمط المسيحية الباكرة، لقد أطلق على يسوع اسم ”المسيح” Christ وهو اسم مشتق من اليونانية ومعناه الممسوح بالزيت، ولكن سرعان ما بدأ التبشير بتعاليمه بين غير اليهود أيضاً، وقد تم هذا بناء على قرار من مجلس المسيحيين -وكان قد بدأ استعمال هذه التسمية للدلالة على أتباعه- الذي عقد في أورشليم في عام 49 للميلاد. وفضلاً عن الذين كانوا قد عرفوه معرفة شخصية، ومنهم أخوه يعقوب وتلميذه بطرس، ربما كان هناك يهودي متهلن من طرسوس هو شاول الذي سوف يعرف فيما بعد بالقديس بولس، وهو أهم شخصية في تاريخ المسيحية بعد يسوع. كان الكثيرون من غير اليهود مهتمين بالتعاليم الجديدة، إلا أن أعمال بولس التبشيرية وقرار مجلس أورشليم بإعفاء غير اليهود من الالتزام بحذافير الشريعة اليهودية، أي الختان ومحرمات الطعام، هما اللذان أطلقا أنجح الديانات العالمية من قوقعتها اليهودية التي حمتها في أيامها الأولى.
وهكذا بدأت المسيحية تبزغ الآن من المجتمع اليهودي، كما أنها من خلال القديس بولس صارت تتميز عن عالم الأفكار اليهودية، مع أن يسوع على ما نعلم لم يخرج قط في تعاليمه عن نطاق العالم الفكري للشريعة والأنبياء، بل كان دقيقاً جداً في تقيده بالشعائر الدينية. كان بولس يتحدث اليونانية، وكان رجلاً مثقفاً فوضع نظرته لرسالة يسوع باللغة اليونانية ومن خلالها بلغة الفلسفة الإغريقية وأفكارها، واستخدم في تبشيره برسالته مفاهيم إغريقية مثل التمييز بين الروح والجسد، والروابط بين العالم المادي والمنظور والعالم الروحي غير المنظور. وقد أثار حنق اليهود التقليديين لأنه بشر بيسوع على أنه الله نفسه، وما كان لفكرة كهذه أن تجد مكاناً لها ضمن اليهودية. ويمكننا أن نقول إن بولس هو صانع المسيحية الحقيقي، إذ لاريب أن أكثر لاهوت الكنيسة المسيحية تعود جذوره إلى تفسيره هو لتعاليم يسوع. ونضيف هنا إلى أن بولس انتهز الفرصة المتاحة للناس بالسفر في يسر وأمان، عالم انتشرت فيه اللغة اليونانية انتشاراً واسعاً فسهلت نقل الأفكار، لكي يطلق المسيحية في مسيرتها الكبرى من النمو والانتشار. وليس من الغريب أن المسيحيين سرعان ما صاروا يعتقدون أن الإمبراطورية الرومانية نفسها إنما خلقها الله لكي يمكن من انتشار كلمة الحق، وأنه خطة إلهية لتوطيد المسيحية وترسيخها، وراودت بعضهم أيضاً فكرة شريرة مع مرور الزمن، هي أن يسوع لم يقتله الرومان في الحقيقة بل إن الذين قتلوه هم اليهود.
إن آخر ما نسمعه عن بولس هو أنه عندما اتهمه زعماء اليهود في أورشليم بالتحريض على الفتنة والعصيان وبتدنيس الهيكل، استخدم حقوقه كمواطن روماني لكي يستأنف حكم حاكم قيصرية إلى الإمبراطور في روما، وقد رحل إلى العاصمة بالفعل لينتظر محاكمته هناك. ولا نعلم ماذا حل به بعد ذلك، إلا أن التقاليد المسيحية الباكرة تقول إنه استشهد في روما في عام 67 للميلاد، وسواء كان هذا صحيحاً أم لا فإن بولس كان قد غير مجرى التاريخ.
يسوع الناصري
في عام 26 للميلاد عين حاكم روماني جديد هو بيلاطس النبطي على المقاطعة التي كانت اليهودية جزءاً منها في لحظة من لحظات التاريخ العصيبة. وكانت هذه المنطقة تعيش اضطراباً كبيراً، فقد كان يهود سوريا وفلسطين يبغض كل منهم الآخر، كما كانوا يبغضون جيرانهم الإغريق والسوريين، ولكنهم كانوا يبغضون أشد ما يبغضون المحتلين الرومان وجباة ضرائبهم. وكان بعض اليهود ينتمون إلى طائفة تسمى الزيلوت، هي من إحدى نواحيها حركة قومية، بينما كان الكثيرون منهم ينتظرون قائداً أو مسيحاً مسحه الله متحدراً من سلالة داود لكي يسير بهم نحو النصر، ولكنهم كانوا مختلفين كثيراً حول طبيعة هذا النصر، هل هو عسكري أم رمزي. كان يسوع الناصر عندئذٍ في حوالي الثلاثين من عمره، وكان قد شب ضمن هذه التوقعات والآمال، كان يعلم أنه رجل قديس، وقد أثارت تعاليمه والمعجزات التي رويت عنه حماسة كبيرة، إن السجلات التي بين أيدينا عن حياته هي الأناجيل، وهي روايات دونها أتباعه بعد موته بناء على ذكريات أشخاص كانوا يعرفونه، وقد كتبت لكي تبين أنهم محقون في اعتباره شخصاً متميزاً فريداً، هو المسيح.
وأكدت الأحداث التي جرت في نهاية حياة يسوع لأتباعه أنه شخص فريد، فقد اتهمه الزعماء الدينيون اليهود بالتجديف وأخذوه أمام الحاكم الروماني بيلاطس الذي كان حريصاً على تجنب المزيد من النزاع الطائفي في تلك المدينة المضطربة، فتغاضى قليلاً عن حرفية القانون وسمح بإدانة يسوع. وبناء على ذلك صلب يسوع، وكان هذا على الأرجح في عام 33 للميلاد، وبعد فترة قصيرة آمن تلاميذه أنه قام من بين الأموات، وأنهم قابلوه وتحدثوا معه بعد ذلك، وأنهم رأوه يصعد إلى السماء، وأنه إنما تركهم ليعود عما قريب جالساً عن يمين الله لكي يدين الناس جميعاً عند نهاية الدهور.
ومهما اختلفت الآراء في تفاصيل الأناجيل فإن الذين كتبوها كانوا مؤمنين بها، أو أنهم دونوا ما أخبرهم به رجال يؤمنون أنهم رأوها بأمهات أعينهم، ومن الواضح أيضاً أن حياة يسوع لم تكن ناجحة بالمعنى الدنيوي إلى درجة تسمح باستمرار تعاليمه بقوة رسالتها الأخلاقية وحدها. صحيح أنه اجتذب بصورة خاصة الكثيرين من الفقراء والمنبوذين، فضلاًً عن اليهود الذين كانوا يشعرون أن تقاليدهم لم تعد مرضية بالأشكال التي تبلورت فيها، إلا أن هذه النجاحات كانت ستموت معه لو لم يؤمن أتباعه أنه قهر الموت نفسه وأن الذي عمدوا باسمه سوف ينتصرون على الموت بدورهم ويعيشون إلى الأبد من بعد دينونة الله. وقبل أن ينقضي قرن واحد كان التبشير بهذه الرسالة منتشراً في كافة أنحاء العالم المتحضر تحت مظلة الإمبراطورية الرومانية.
اليهود في الإمبراطورية الرومانية
عندما انتهى حكم السلوقيين في عام 143 ق.م مرت مرحلة من الاستقلال استمرت حوالي ثمانين سنة، ثم استولت روما على منطقة اليهودية. وفي عصر أوغسطس كان عدد اليهود المقيمين في المنطقة اليهودية أقل منه في بقية أنحاء الإمبراطورية الرومانية، لأن حرية التنقل والتجارة التي توفرت بعد السبي في الدول الهلنستية أولاً ثم تحت حكم روما قد سمحت بانتشارهم على كافة سواحل المتوسط وفي مرافئ البحر الأسود وفي بلاد الرافدين. وربما كان هناك في روما نفسها حوالي 500.000 يهودي كما كان هناك مركز كبير ثاني لهم في الإسكندرية، وهذا هو ما يسمى ”الشتات”. بل إن بعض اليهود كانوا قد استقروا في مرافئ غرب الهند منذ عام 175 ق.م.
وازدادت أعداد اليهود قليلاً من خلال اعتناق غيرهم لهذه الديانة التي اجتذبتهم بشريعتها الأخلاقية، وباحتفالاتها الدينية المتمحورة حول قراءة النصوص المقدسة، ولأنها لا تحتاج مقامات ولا كهنة، وبالأخص لأنها تقدم للإنسان وعداً بالخلاص. لقد كانت نظرة اليهود للتاريخ واضحة تلهب النفوس حماسة، إذ إنها تعتبر الشعب اليهودي شعباً ميزه الله عن سواه واختاره لكي يطهره في النار تحضيراً ليوم الدينونة، ولكنه سوف يجمعه بعد ذلك من أجل خلاصه. ومن الصعب أن نعرف لماذا حرضت هذه العقيدة الواثقة الكراهية، إلا أن العلاقات بين اليهود وجيرانهم كثيراً ما كانت متوتره، وكانت حوادث الشغب أمراً شائعاً وكانت تؤرق السلطات الرومانية، وقد ساهم تميز اليهود ونجاحهم في إثارة تحامل الشعب عليهم.
المسيحية
إذا كانت الأهمية التاريخية للأحداث تقاس بأعداد الناس الذين أثرت فيهم، فيمكننا أن نقول بثقة إنه لا يوجد في الأزمنة القديمة، وربما في كل تاريخ البشر، حدث واحد يساوي في أهميته ولادة الرجل الذي عرف في التاريخ باسم يسوع. ونحن نعلم بثقة أنه ولد في الناصرة بفلسطين، ولو لم يكن تاريخ ولادته مؤكداً ولكن يرجح أن تكون قد حدثت في عام 6 ق.م.
ويبين تاريخ البشرية منذ ذلك الحين مدى أهمية هذا الحدث، إن الذين سموا أنفسهم مسيحيين، أي أتباع يسوع، سوف يغيرون التاريخ على سطح الأرض كلها، وإذا أردنا البحث عن شيء كان له تأثير يقارن بهذا الحدث فعلينا ألا نبحث عن أحداث منفردة بل عن عمليات كبرى مثل الثورة الصناعية، أو القوى الكبرى التي جرت في مرحلة ما قبل التاريخ كتأثير المناخ الذي هيأ خشبة المسرح للتاريخ مثلاً. إلا أن أهمية هذا الحدث لم تمنع الناس من الاختلاف الحاد حول يسوع وحول ما كان يحاول أن يفعله. ومن الواضح أن الذي أعطى تعاليمه تأثيراً أكبر بكثير من غيره من الرجال القديسين في عصره هو أن أتباعه قد رأوه مصلوباً وآمنوا بالرغم من هذا بأنه قد قام بعد ذلك من بين الأموات.
كان أتباع يسوع يهوداً فلسطينيين، ومن أجل أن نفهم قصته يجب أن نراه ضمن تاريخ شعبه أي الشعب اليهودي. بعد أن سبى البابليون أعداداً كبيرة منهم في عام 587 ق.م ودمروا الهيكل في أورشليم، ازداد شعور اليهود بأنهم شعب متميز ومختلف عن سواهم من شعوب الشرق الأدنى، إن حرمانهم من الهيكل كمركز لعبادتهم قد جعلهم يتحولون إلى قراءة كتبهم المقدسة بصورة أسبوعية، وهي عادة أدت بمرور الزمن إلى ظهور الكنيس كمكان للوعظ والتلاوة وليس لتقديم القرابين. كما أن الأنبياء الذي قادوا بعض اليهود أثناء عودتهم من السبي في عام 538 ق.م بعد إطاحة الفرس ببابل، كانوا يدعون إلى تقيد أشد بالشريعة اليهودية من أجل تمييز اليهود عن غيرهم من الشعوب، وحرصواً أيضاً على إعادة بناء الهيكل. وعندما كانت فلسطين تحت حكم السلوقيين تعلم بعض اليهود عادات هلنستية، ولكنهم كانوا ينتمون إلى أقلية من الطبقة العليا يرتاب بها ويكرهها الشعب الذي بقي متشبثاً بتقاليده، بل إن تشبثه بها قد ازداد عناداً. وقد حدثت ثورة يهودية كبيرة في القرن الثاني ق.م ضد ما يمكن أن نسميه تهلينا، وصار الملوك السلوقيون من بعدها يعاملون اليهود بحذر شديد.