إن الأسفار البعيدة هي مثل اللغة علامة على التغير ومحرك له في الوقت نفسه، ولا تجد في البداية أدلة على الأسفار البعيدة إلا في بعض الآثار، مثل أرصفة مرافئ هرابا أو بعض الأختام الأجنبية. وتدل هذه الآثار على أن القصدير كان يجلب من بلاد الرافدين وأفغانستان والأناضول إلى ما يمكن أن نسميه الآن مراكز ”تصنيع”، كما تجد نحاس قبرص في أماكن كثيرة، ويستنتج من هذا أنه كان سلعة يتاجر بها على نطاق واسع، وكذلك نحاس بر أوروبا، لأنه هناك مناجم بأرض يوغوسلافيا السابقة كانت محفورة حتى عمق ستين أو سبعين قدماً (20 متراً) تحت سطح الأرض قبل عام 4000 ق.م. أما بالنسبة للمواد غير المعدنية، فيذكر الكتاب المقدس شهرة خشب أرز لبنان الذي كان يصدر لمصر، كما كان الكهرمان يجلب من البلطيق إلى بحر إيجة، والتوابل من الشرق الأدنى عبر البحر الأحمر إلى مصر، كل هذا قبل عام 1000 ق.م. وقد تغيرت الجغرافية الاقتصادية ببطء مع نمو هذه الروابط، فظهرت مراكز برعت بالتجارة وازدهرت ازدهاراً عظيماً. لقد تعاطى الكريتيون والشعوب الباكرة في بر اليونان التجارة إلى حد كبير، وكانت البحرين تجتذب التجار من بلاد الهند وبلاد الرافدين. ومع اقتراب الألفية من نهايتها كان أعظم شعوب بالتجارة في العالم القديم، أي الشعب الفينيقي المقيم في المدن الساحلية لبلاد الشام، على باب عصر ذهبي من الازدهار.
كان حمل البضائع الكبيرة صعباً، أقله عن طريق البر، لأنه بقي يعتمد على الحمير إلى أن دجّنت الجمال في منتصف الألفية الثانية ق.م، وقد فتح تدجين الجمال تجارة القوافل في آسيا وشبه الجزيرة العربية. أمّا النقل بالعجلات فيبدو أن أهميته بقيت محلية لزمن طويل بسبب رداءة الطرق ورداءة محاور العجلات أيضاً، مع أن العربات كانت تستخدم في بلاد الرافدين في نحو عام 3000 ق.م، وفي سوريا نحو عام 2250 ق.م، وفي الأناضول بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة، وفي بر اليونان في نحو عام 1500 ق.م. إلا أن نقل البضائع بكميات كبيرة كان أبسط وأرخص عن طريق الماء منه عن طريق البر، وسوف يظل كذلك حتى عصر القطار البخاري.
كانت شعوب العصر النيوليتي تقوم برحلات طويلة عبر البحر في زوارق الكنو المحفورة، وقد أمن المجداف القوة الدافعة للقيام برحلات بحرية طويلة فضلاً عن تحسين التحكم بحركة القارب. بعد ذلك وضع مصريو السلالة الثالثة شراعاً على سفينة عابرة للبحار، وكان الساري المركزي والشراع المستطيل بداية الإبحار بالاعتماد على قوة غير تيارات المياه وعضلات الإنسان. وقد تحسنت الأشرعة ببطء على مدى الألفين التاليين، إلا أن سفن الأزمنة القديمة كانت في أكثر الأحيان ذات أشرعة مستطيلة، لذلك كانت الرياح السائدة هي التي تحدد نمط الاتصالات البحرية. مع هذا كان التجار يتبادلون البضائع ويكسبون المال بصورة متزايدة عن طريق البحر، وقبل قوافل الجمال بزمن طويل كانت السفن تحمل ضروب الصمغ والراتنج من جنوب شبه الجزيرة العربية شمالاً على طول البحر الأحمر، وكانت سفن أخرى تجوب في أنحاء نهر إيجة، وفي القرن الثالث عشر ق.م كانت تبحر في شرق المتوسط سفن قادرة على حمل أكثر من 200 سبيكة نحاسية، وبعد قرون قليلة صار بعضها مزوداً بظهر سدود للماء.
ولكن طبيعة هذا التبادل تبقى غير واضحة، حتى في عام 1000 ق.م، ويبدو أن الناس كانوا يتبادلون البضائع والخدمات قبل أن يتحضروا، ولكن ربما كان هذا الأمر أشبه بعملية إعادة توزيع متفق عليها ضمن الجماعة. في الأزمنة التاريخية صار لبعض الشعوب زعماء يرأسون مخزناً مشتركاً، ويملكون بمعنى ما كل ما يخص الجماعة، ثم يوزعونها على أفرادها من أجل ضمان أعمالها بصورة سلسة، وربما يفسر هذا الأمر تخزين البضائع والمؤن في المعابد السومرية. لقد مر زمن طويل قبل أن تظهر أي وسيلة للتبادل معترف بها على نطاق واسع أي ما نسميه النقد ونجد أول دليل عليه في بلاد الرافدين، حيث كانت الحسابات تسجل بمكاييل من الحبوب أو الفضة قبل عام 2000 ق.م، كما يبدو أن مسكوكات النحاس كانت أحياناً تستخدم كوحدات مالية في قسم كبير من المتوسط في أواخر عصر البرونز. إلا أن أول وسيلة للتبادل مختوماً ختماً رسمياً بقيت لنا قد أتت من كَبَدوقية* في أواخر الألف الثالثة ق.م، وكانت عبارة عن مسكوكات فضية، وهي عملة معدنية حقيقية. ومع هذا لم تظهر أولى قطع النقد حتى القرن السابع ق.م وكان الناس قبلها يتدبرون أمورهم من دونها، فالفينيقيون مثلاً، وهم مشهورون بحذقهم وفطنتهم في شؤون التجارة، لم تكن لديهم عملة حتى السادس ق.م، ومصر التي كانت نظاماً اقتصادياً ذا إدارة مركزية لم تتخذ النقد إلا بعد ذلك بقرنين. إلا أن هذا الأمر لم يمنع الناس من تبادل البضائع، ولا يمكننا أن نسمي عمليات التبادل تلك "تجارة" بمعناها الحالي، كما أنه ليس من الواضح ما إذا كانت السوق في العالم القديم دوماً مكاناً يتوصل الناس فيه إلى قيم السلع عن طريق المساومة. عندما تبدأ حقبة السجلات التاريخية تجد أدلة على انتقال السلع بصورة جزية أو هدايا رمزية أو دبلوماسية بين الحكام أو بصورة عطايا نذرية. لقد ظلت الإمبراطورية الصينية حتى القرن التاسع عشر الميلادي تعتبر تجارتها مع الدول الأخرى جزية من العالم الخارجي، وكان الفراعنة أيضاً ينظرون إلى تجارتهم مع بحر إيجة نظرة مشابهة، كما يبدو من رسوم مدافنهم. وربما شملت هذه العمليات التجارية تبادل أغراض موحدة مثل الأوعية أو القدور ذات الوزن الواحد، أو الخواتم ذات الحجم الواحد، فكانت لها بذلك بعض خواص العملة.
* اسم أطلق قديماً على آسيا الصغرى