لقد ابتدأت في سبعينيات القرن الثامن عشر تبدلات كبيرة وعميقة في المستوطنات البريطانية في أمريكا الشمالية، كان عدد المستوطنين هناك في عام 1760 حوالي المليونين، وكانت أعدادهم تتزايد بمعدل يضاعف عدد السكان في كل جيل، وكان هناك بالإضافة إلى الإنكليز والإيرلنديين والاسكتلنديين هولنديون وألمان أيضاً. ثم كان هناك الرعايا الهنود للملك والعبيد السود خاصة في المستوطنات الجنوبية والبالغ عددهم حوالي سدس عدد السكان الإجمالي، الذي كان بدوره يساوي حوالي ثلث سكان البلد الأم على أبعد تقدير.
كانت مساحة المستوطنات قد توسعت توسعاً كبيراً منذ عام 1700، وكان المستوطنون ميالين للتقدم من الساحل نحو الداخل إلى أن يبلغوا سلسلة الجبال التي تجري موازية للساحل الشرقي بأكمله تقريباً، وكان هذا التقدم يتم على حساب الهنود. وقد أدى ذلك إلى الاقتتال وسفك الدماء على حدود بعض المستوطنات، خاصة في نيويورك وبنسلفانيا، لأن مستوطنيها كانوا تواقين لعبور وديان الأنهار التي تصل بهم إلى حوض الميسيسيبي الهائل على الطرف الآخر من الجبال، وعندما خسر الفرنسيون كندا في عام 1763 زال الخوف من إعاقتهم لهذا التقدم.
لقد صارت هناك في النهاية ثلاث عشرة مستوطنة، وكان الناس أحياناً يسمون سكانها أمريكيين، أما هم فكان انتماؤهم محلياً، وكانوا يعتبرون أنفسهم أهل نيويورك أو كارولاينا أو نيوانغلند، وكانوا عادة في حالة خلاف فيما بينهم، وقد يتنازعون أو حتى يقتتلون على الحدود بين مستوطناتهم.
وكانت المستوطنات الأكبر واعية للفروق الواسعة بين سكان البراري الغربية من جهة، وبين أهل المدن والمزارعين القاطنين في السهول الساحلية من جهة أخرى، والحقيقة أنه لم يكن هناك ما يجمع شمل الأمريكيين سوى أنهم جميعاً رعايا لتاج إنكلترا.
كان الأمريكيون في عام 1763 يعتبرون أنفسهم رعايا موالين لإنكلترا، وكانوا ممتنين للحماية التي قدمتها لهم ضد الفرنسيين والهنود أثناء الحروب، ولم تكن متطلبات الحكومة في لندن كثيرة إلى حد يسبب مضايقتهم.
إلا أن الأمريكيين كانوا مختلفين عن الإنكليز في موقفهم من السلطة، وكانوا أكثر تساهلاً من البريطانيين في الأمور الاجتماعية، ورغم وجود أغنياء وفقراء في المستوطنات فقد كان عدد حاملي الألقاب فيها قليلاً، ولم يكن فيها التقليد الإنكليزي القائم على احترام الأرستقراطية. كما أن الفروق بين الطوائف الدينية كانت أكثر تقبلاً في المستوطنات منها في الوطن الأم، وكان الكثيرون من مستوطني نيوانغلند الأوائل قد رحلوا إليها أصلاً هرباً من كنيسة إنكلترا، وإن ولاية ماريلاند قد أسست لكي تكون ملاذاً للكاثوليك.
لقد انهارت الإمبراطورية البريطانية في أمريكا بعد عشرين سنة من صلح عام 1763، وكان هذا الانهيار مفاجأة لأكثر الناس، كان من أسبابه الأساسية شعور المستوطنين أنهم لم يعودوا بحاجة لحماية البريطانيين، كما أن البريطانيين منعوا امتداد الاستيطان إلى الغرب من أجل حماية حقوق الهنود من المستوطنين، وقد اشتكى هؤلاء من هذا الأمر. وكانت هذه الحماية بحاجة للجنود وبالتالي للمال، وقد بدا للإنكليز أن من العدل أن يدفع الأمريكيون تكاليفها لأن هؤلاء الجنود سوف يحمون حدود المستوطنين البيض من غارات الهنود.
وراحت الحكومة تلو الأخرى طوال سنوات عديدة، تحاول إيجاد طرق مقبولة وعملية لفرض الضرائب على المستوطنين من أجل هذه الغاية. ولكن أحد ساسة المستوطنات ابتكر عبارة لاضرائب من دون تمثيل، والمقصود بها أن الأمريكيين ليس لهم ممثلون في البرلمان البريطاني بوستمنستر، فلماذا يتوجب عليهم إذاً أن يدفعوا الضرائب التي يفرضها؟ وازداد الاستياء بالتدريج.
كان الناس يشعرون بالرغبة في البقاء رعايا للملك جورج الثالث، ولكنهم كانوا يشعرون أيضاً أن أحوالهم سوف تكون أفضل إذا لم تحكمهم قوانين من وضع البرلمان بل من وضعهم هم أنفسهم، ولكن الحقيقة أنهم كانوا يمارسون الحكم بهذه الصورة عملياً منذ سنوات، عن طريق مجالسهم دون تدخل هام من قبل البرلمان، أما هذه الرغبة بالاستقلال الكامل فلم تنم إلا ببطء شديد.
وقد أطلقت الرصاصات الأولى للثورة الأمريكية في عام 1775 على طابور من الجنود البريطانيين الذاهبين للقبض على أسلحة غير مشروعة في مدينة صغيرة غير بعيدة عن بوسطن، ولكن الكثيرين من الأمريكيين ظلوا حتى في ذلك الحين موالين لبريطانيا.
الثورة
في عام 1776 كان عدد الراغبين بالانفصال عن بريطانيا قد ازداد، وعقد في ذلك العام مؤتمر لممثلي جميع المستوطنات في فيلادلفيا حيث وافقوا على إعلان الاستقلال، الذي يمكن اعتباره آخر افتراق بين الطريقين. وصارت الطريقة الوحيدة التي يستطيع البريطانيون بواسطتها الاحتفاظ بمستوطناتهم هي سحق الثورة عن طريق القوة، ولقد لزمهم سبع سنوات لكي يعترفوا بأنهم ليسوا قادرين على ذلك فوقع الصلح في عام 1783، وسار دعاة الانفصال عن التاج البريطاني ودعاة البقاء معه كل في سبيلهن وحسم الأمر عن طريق الاقتتال والدبلوماسية.
ولم تكن موازين القوى لصالح بريطانيا ولو أن هذا الأمر لم يكن واضحاً في البداية، صحيح أنها كانت تملك جيشاً وبحرية قويين بينما لم يكن لدى الثوار شيء من هذا، وصحيح أن أعداداً كبيرة من الأمريكيتين كانت موالية لهم ، والحقيقة أن الآلاف قد تركوا موطنهم وذهبوا ليعيشوا في كندا عند نهاية الحرب، وأن الوطن الأم كان غنياً بينما كانت مستوطناته فقيرة، ولكن من الناحية الأخرى كانت هناك مسافات هائلة تفصل المستوطنات حيث حدت القتال عن قاعدة الجيش البريطاني في وطنه، وقد أدى هذا إلى مشاكل ضخمة في النقل والتموين.
وكانت الأرض صعبة وخرائطها سيئة، ويصعب العيش فيها على الجنود الأوروبيين المعتادين على الاتصالات والمؤن الحسنة، كما أن البريطانيين لم يكن بإمكانهم خوض حملات وحشية تقضي على الأساس الذي يعتمد عليها جيش الثوار، مثل حرق المزارع وما إلى ذلك، لأنهم لايستطيعون أن يعادوا أصدقاءهم من الأمريكيين.
وأخيراً كان الأجانب متلهفين للاستفادة من متاعب إنكلترا، لهذا وجد البريطانيون أنفسهم عند نهاية الحرب، يقاتلون الفرنسيين والإسبان والهولنديين فضلاُ عن الأمريكيين، وقد قلب هذا الأمر ميزان القوة البحرية ضد البريطانيين في لحظة حاسمة، فأجبر جيشهم على الاستسلام في يوركتاون في عام 1781، وبعد تلك الكارثة أصبح موضوع الاستقلال أمراً حتمياً.
الولايات المتحدة الأمريكية
وهكذا بزغت أمة جديدة وأول بلد متحررة من الاستعمار، ألا وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وقد ظلت الروابط بين ولاياتها الثلاث عشرة فضفاضة حتى بعد أن قبلت الدستور الذي ضمها في جمهورية فيدرالية (اتحادية) في عام 1789
الولايات المتحدة 1789
ولكن بعض الأمريكيين كانوا يعلمون أن هذه الولايات الجديدة لن يكتب لها البقاء ما لم تكون لها حكومة وطنية، وكان من بين هؤلاء جورج واشنطن، القائد السابق للجيش الأمريكي، والذي أصبح أول رئيس للاتحاد.
جورج واشنطن
كان هذان التغيران الكبيران، أي الانفصال عن بريطانيا وخلق حكومة مركزية ولو ضعيفة، على أهمية عظيمة للبشرية كلها في النهاية، ويمكننا الآن أن نرى أن الثورة الأمريكية كانت الموجة الأولى في تيار من ثورات المستوطنات سوف يمتد طوال خمسين عاماً تقريباً في الأمريكتين، وسوف تمتد تأثيراته زماناً أطول من هذا بعد.
ثم كانت هناك نتيجة أخرى، هي أن الذين استوطنوا أمريكا الشمالية وسيطروا عليها كانوا يتحدثون اللغة الإنكليزية ويشتركون بقسط كبير من الثقافة الإنكليزية، فساروا بالطبع على التقاليد الدينية والقضائية والدستورية الموضوعة في إنكلترا ونشروها في أنحاء القارة كلها، ولو نشر المستوطنون مثلاً الأفكار الفرنسية أو الإسبانية عن الملكية المطلقة لاتخذ تاريخ العالم شكلاً مختلفاً جداً.
والحقيقة أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة قد شددوا على بعض الأفكار الإنكليزية وساروا بها شوطاً أبعد مما حدث في البلد الأم، وقد وصل التسامح الديني في أمريكا إلى حد أن الدستور منع الحكومة من دعم أي ديانة على الإطلاق.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً أول أمة كبرى تصبح جمهورية، لقد كانت النظرة السائدة في القرن الثامن عشر هي أن الجمهوريات كيانات ضعيفة لاتصلح إلا للدول الصغيرة، إلا أن الولايات المتحدة أثبتت خطأ هذه النظرة، فكان هذا إنجازاً كبيراً للبشرية، ولو أنها تدين في نجاحها هذا بالكثير لحظها السعيد وبعدها الكبير عن ثرواتها الطبيعية.
وأخيراً كان هذه الجمهورية الجديدة ديمقراطية أيضاً، ربما لم تكن ديمقراطية كاملة ولكنها كانت على كل حال أكمل الديمقراطيات. تقول الكلمات الأولى في الدستور نحن الشعب وسوف يزداد انتشار الديمقراطية عمقاً واتساعاً في الحياة الأمريكية خلال القرنين التاليين وسوف يترافق هذا بالريبة بالحكومة المركزية، وبالانتشار التدريجي لمساواة أكبر في الحريات السياسية والعملية لجميع الأمريكيين في حياتهم اليومية. ولايصح هذا الأمر على أي دولة كبرى حتى اليوم كما يصح على الولايات المتحدة.
إن هذه الدولة الجديدة لم تغير أوضاع العالم كثيراً في البداية، لأنها كانت بعيدة جداً، لقد ازدادت تجارة البريطانيين مع الأمريكيين عما كانت عليه قبل الحرب، إذ يبدو أن الانفصال السياسي لم يؤثر فيها كثيراً، أما الفرنسيون فلم يستعيدوا مستوطناتهم بالرغم من انتصارهم، وكان قد اضطروا لبذل الكثير من أجل دعم الأمريكيين.
ولكن الحرب غيرت نظرة الحكومات البريطانية إلى مستوطناتها، فصارت ترتاب بها منذ ذلك الحين وقد أمضت الجزء الأكبر من القرن التالي في محاولات لمنحها أكبر قدر من الاستقلال وفي أسرع وقت ممكن لكي لاتشكل عبئاً على دافعي الضرائب البريطانيين ولا تهددهم بكارثة جديدة مثل الكارثة التي حدثت في أمريكا. وأما الأمريكان فقد راحوا يوطدون بلدهم الجديدة ويرسخونها ويوسعون حدودها.