بمرور القرن الثامن عشر ازداد استخدام الكتاب الأوروبيين للكلمات التي تعني الأنوار والتنوير، فكان الفرنسيون يستعملون كلمة Lumiéres والألمان Aufklärung والإيطاليون Illuminismo، وقد تحولت هذه التعابير كلها في اللغة الإنكليزية إلى كلمة Enlightenment (التنوير).
وكانت هذه الفكرة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالماضي، خاصة بحركة الإصلاح البروتستانتي التي حطمت المفهوم القديم لعالم مسيحي واحد غير منقسم، وكان بعض المسيحيين يرون أن البشر يستطيعون بجهودهم نصرة قضية الحقيقة والتطور الروحي.
ومن المعالم الأخرى للتنوير إعادة اكتشاف الإنسانيين للماضي الكلاسيكي ومانتج عن ذلك من فورة في الفنون، ثم كانت هناك رحلات الاستكشاف ومابينته من خطأ الأفكار القديمة السائدة ومن الإنجازات الباهرة لبعض الشعوب خارج أوروبا.
لقد راح الكثير من المثقفين في عصر التنوير في القرن الثامن عشر ينبذون بصورة واعية وصريحة قدراً كبيراً من الأفكار التي قبلها أجدادهم، وتم هذا الأمر في عالم تنتشر فيه معرفة القراءة والكتابة وتزداد الأعمال المطبوعة الرخيصة الثمن. وقد حدث واحد من أهم التغيرات الثقافية في التاريخ كله عندما بدأ الناس يقتنعون بأن انتشار المعرفة ليس أمراً ضاراً، وهنا يكمن النجاح الأكبر للتنوير، إذ صار الناس يقبلون عند نهاية القرن الثامن عشر أن المزيد من المعرفة هو أمر مفيد للمجتمع، وكان هذا دليلاً على انتصار مفكري عصر التنوير لأن انتشار المعرفة قد أصبح حينذاك موضع ثقة.
عقائد جديدة
ربما كان التنوير هو المرحلة الحاسمة في بزوغ مفهوم أساسي جديد في الثقافة الأوروبية الحديثة، هو مفهوم التقدم. تعود الجذور البعيدة لهذه الفكرة إلى التقاليد اليهودية المسيحية التي ترى أن للتاريخ اتجاهاً وغاية معينين، ولكنها صارت في القرن الثامن عشر مرتبطة ارتباطاَ وثيقاً بمبدأ قدرة الإنسان على التحكم بالعالم عن طريق إرادته وعقله. ويستدل على هذا التطور من بعض الأمور التي كانت تجري في بعض البلاد الأوروبية.
ولنأخذ مثالاً من الطب، مع أنه كان بدائياً بل دون البدائي، ولم يكن الأطباء بقادرين على فعل شيء تقريباً لشفاء الأمراض، إلا أن الإدارة والسياسة كانتا قد بدأتا بتحسين الصحة العامة ولو بشكل هامشي وفي حالات قليلة ومتفرقة. فكان الحجر الصحي على المهاجرين من منطقة مصابة بالطاعون قد ابتدأ منذ القرن الرابع عشر في إيطاليا، ثم تعمم في القرن الثامن عشر إلى حد إغلاق الحدود بوسائل عسكرية. وكانت أطولها هي حدود الهابسبرغ، التي كانت مزروعة بحراس يبعد الواحد منهم عن الآخر بمقدار المسافة التي تغطيها طلقة بندقياتهم، وممتدة على مدى أكثر من ألف وأربعمائة كيلو متر، وتنتشر على طولها محطات للحجر الصحي تتم فيها عمليات الفحص والتطهير بواسطة الأبخرة.
صحيح أن هذه الترتيبات كانت ضعيفة وأن أوروبا الغربية أصيبت بجائحة جديدة وكبيرة من الطاعون في عام 1720 وهي آخر جائحة هامة إلا أن الأهمية العملية لهذه النجاحات عشية عصر النمو الهائل للمدن الأوروبية كانت أهمية واضحة. وكان من الجلي أيضاً أنها حدثت بفضل حلول إدارية مقصودة لشيء كان يعتبر في السابق عقاباً من الله لامرد له.
ربما كان المصدر الأهم لهذه الثقة الجديدة بطاقة البشر يكمن في العلم، لقد كان الإيمان بسلطة العلم إيماناً دينياً وإيديولوجياً، وكان في البداية محصوراً بأشخاص قلائل، ولكنه صار الآن عقيدة تشترك بها الملايين. ويمكننا هنا أن نضيف أن العلم قد منح الأوروبيين ميزة هائلة في استغلال موارد العالم، فكان بالتالي من أسباب تزاد هيمنتهم على العالم غير الغربي.
لقد كانت العلوم الإسلامية والصينية والرياضيات الهندية في الماضي متطورة جداً، بينما كان العالم المسيحي يجهل العلم جهلاً تاماً ماعدا بعض النبذات القليلة الباقية من العصور القديمة، كما أن الإغريق قد خلفوا أفكاراً كثيرة أتت أكلها في أزمنة لاحقة وسجلوا الكثير من المعلومات القيمة، ولكنهم سجلوا أيضاً الكثير من الأفكار الخاطئة تماماً ولم يتوصلوا إلى الأسلوب التجريبي.
أما العلم كما نعرفه اليوم فإنما من صنع أوروبا الحديثة، ولأسباب تاريخية وثقافية معقدة لم يظهر العلم الحديث إلا بعد أن استردت أوروبا من المصادر الإسلامية والبيزنطية كل ما يلزمها من تراث العالم القديم.
كان العلم يعزز النظرة الإيجابية للعالم، وكان الكثيرون من العلماء يوفقون بين اكتشافاتهم ومعتقداتهم المسيحية بسهولة، لذلك شعر الناس شعوراً أكيداً، ولو أنه مبهم بأن طبيعة الكون هي طبيعة خيرة وبأن الله خالق لايمكن له أن ينوي الشر أو المعاناة لمخلوقاته، بل إن أعمال آلته الرائعة كانت تعتبر دليلاً على بصيرته وبعد نظره في تأمين خير تلك المخلوقات.
وقد بقيت مشكلة الشر قائمة، ولكن لابد أن يكون لها هي أيضاً حل ما، وبدأ البعض يفكرون بأن الأفراد أيضاً يمكن تطويرهم إذا ما تأمن لهم حكم صالح ورشيد.