لقد مهدت القرون الممتدة بين عامي 1500 و 1800 الطريق لحدوث تغيرات شاملة وعنيفة ومتسارعة، فكانت بالتالي تمهيداً لظهور العالم الحديث، وتعود تلك التغيرات جزئياً لأفكار أوروبا الحديثة، وكانت تلك الأفكار بالطبع مقتصرة على عدد قليل من الرجال والنساء كانوا رواد الكتابة والأدب والعلم في عصرهم، وربما انحصر تأثيرهم في أيامهم بأعداد قليلة من الناس، بل ربما لم يسمع بهم إلا القليل منهم، لهذا لايجوز أن نعتبر أفكارهم صورة لأفكار الناس عامة.
إننا نعيش اليوم في عصر بلغ فيه العلم مكانة عالية جداً، ونراه يأتي كل يوم بمعجزات جديدة تشهد على قدرته على تغيير العالم، ومع هذا مازال الكثيرون منا يؤمنون بالخرافات، أو يتصرفون وكأنهم يؤمنون بها، فيصالبون أصابعهم مثلاً استجلاباً للحظ السعيد، أو يتجنبون السير تحت السلم بدافع التشاؤم، أو يقرؤون ما يكتبه المنجمون في الصحف من أجل التنبؤ بالمستقبل، أو يختارون يوماً ميموناً لعقد زواج أو للقيام برحلة.
لقد تغيرت أفكار الأوربيين إذاً تغيرات هامة، ثم تبعتها أفكار الشعوب الأخرى من بعدهم، فطرحوا زمرة قديمة من المعتقدات وتبنوا زمرة جديدة منها، ولكن لايجوز أن ننسى أن لهذا التغير حدوداً أيضاً، كما نرى من هذه الخرافات.
في عام 1800 كانت نظرة الأوروبيين المتعلمين إلى الماضي قد تغيرت، وكان من تأثيرات النهضة أنها جعلتهم يهتمون بعقد المقارنات. فبدأ في القرن السابع عشر الجدال حول ما إذا كانت البشرية قد أتت بإنجازات أرقى في الأزمنة القديمة، وبمرور الزمن صار الجدال يدور حول ما إذا كانت حضارات أخرى قد بلغت ذرى أعلى من الحضارة الأوروبية، خاصة الحضارة الصينية.
وفي بداية القرن التاسع عشر بدأ الناس يشعرون أن العصور الوسطى كانت أغنى مما يصفها منتقدوها، وأنها لاتخلو من نواح جديرة بالإعجاب، وكان هذا تطوراً إيجابياً من وجهة نظر المؤرخ، لأن الناس صاروا ينظرون إلى الماضي بعناية أكبر، ولو أنهم مازالوا بعيدين عن رؤية طبيعته الحقيقية.
ثم كان هناك أيضاً تغير آخر جديد يجري في الوقت نفسه وهو من أهم التغيرات التي حدثت في نظر الأوروبيين، فحوى هذا التغير هي انتشار القناعة بينهم بأن البشرية تتقدم إلى الأمام، وأن التاريخ يدل على نمط من التطور المستمر، فصاروا يعتقدون أنهم أكثر تطوراً في الحضارة والذوق والمعرفة والعلم والفن من أي عصر قبلهم، بل صار بعضهم يعتقدون أيضاً أن أحفادهم سوف يكونون بدورهم أكثر منهم تقدماً، أي أن العالم باختصار كان يتحسن بصورة مستمرة.
وكان هذا تحولاً هائلاً بالقياس إلى النظرات التي كانت سائدة في العصور الوسطى، والتي كانت تشدد على أن الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، وأنه مامن سبيل لتغييرها.
تكمن بعض جذور هذه النظرة الجديدة في عملية إحياء الآداب الكلاسيكية التي ابتدأت قبل عام 1400 وبلغت ذروتها في القرن السادس عشر، عندما راح المعجبون بالآداب والفنون الكلاسيكية ينهلون من معين اليونان وروما ويرفعونها إلى أعلى المراتب.
كان هؤلاء يسمون إنسانيين، وقد بدأوا يشددون على قيم مأخوذة من العصور الكلاسيكية القديمة لاعلاقة لها بالمسيحية، بل قد تعارضها أحياناً. ولنأخذ مثالاً بسيطاً على ذلك تشديد المسيحية الكبير على إظهار الوداعة والتواضع، فهي تقول أنه إذا ضربك إنسان على خدك الأيمن فلتدر له خدك الأيسر، أما الإغريق والرومان فلم يكونوا يمتدحون هذا النوع من السلوك.
فكان من تأثيرات إحياء الثقافة الكلاسيكية أنها أوحت لبعض الناس أن المعايير والقيم غير المسيحية قد تقدم لهم أفكاراً جديدة، فساهمت بذلك في عملية الابتعاد عن الماضي، وفي إضعاف الأفكار التي ظلت تضم الثقافة الأوروبية لقرون عديدة، وأدت مثل حركة الإصلاح البروتستانتية إلى حضارة أكثر تنوعاً وأكثر علمانية.
ولكن لايجوز كما قلنا أن نبالغ بتأثير هذه الأفكار في أيامنا، فالإنسانيون الذين أعجبوا بالقيم الوثنية وقدموها على القيم المسيحية كانوا أقلية، بل أقلية صغيرة جداً، ضمن عالم الناس المعلمين، وكانوا هؤلاء بدورهم أقلية صغيرة جداً في أوروبا.
وكان أكثر الإنسانيين يجدون حبهم للثقافة الكلاسيكية منسجماً كل الانسجام مع معتقداتهم المسيحية، وربما كان أشهرهم الهولندي إراسموس من مدينة روتردام، الذي كانت غايته الأساسية في إتقان معارفه هي أن يستخدمها لتقديم نصوص دقيقة من كتاب العهد الجديد وأعمال آباء الكنيسة.
قدوم الطباعة
لقد توفرت للكتاب الإنسانيين والدينيين على السواء منذ القرن الخامس عشر أداة جديدة لنشر أفكارهم، ألا وهي الطباعة. فقد اجتمعت في أوروبا للمرة الأولى الحروف المعدنية المتحركة والأحبار الزيتية والمطابع المحسنة، وكان البطل الحقيقي لهذا الإنجاز الكبير هو الألماني غوتنبرغ، الذي أدت به هذه المغامرة إلى الإفلاس، إلا أن إنجازه كانت له تأثيرات هائلة، فقد مكن مثلاً من انتشار ترجمات إراسموس اليونانية للعهد الجديد إلى أعداد أكبر من الناس، وبسرعة أكبر أيضاً من أعمال الكتاب الذين سبقوه.
لقد قدم إراسموس نصاً أدق من أي نص قبله، وبالتالي أساساً أفضل بكثير لمناقشة المعاني الحقيقية للعهد الجديد، ولم تكن أولى الكتب المطبوعة من الكتب الجديدة أو الجريئة، بل إن أكثر كتاب طبع في الأيام الأولى لهذا الاختراع هو الكتاب المقدس.
وكان الناس يطلبون أيضاً غيره من الأعمال المعروفة لكبار علماء اللاهوت والمحامين، والنصوص المشهورة للكتاب القدامى، ولكن ليس الكتب الحديثة. ومع هذا كانت المطبعة ذات أهمية عظيمة في بث الأفكار الجديدة، خاصة الأفكار العلمية منها، بين الأعداد القليلة من الأفراد المهتمين بها.
لقد ساعدت الطباعة كثيراً على انتشار المعرفة في أوروبا، صحيح أن أكثر الأوروبيين كانوا أميين حتى في عام 1800 إلا أن معرفة القراءة والكتابة كانت أكثر شيوعاً بكثير بين الأغنياء مما كانت عليه قبل ثلاثمائة عام، وحتى غير القادرين على القراءة كانوا يأتون بمن يقرأ لهم الكتب بصوت عال.
كانت تلك الكتب مكتوبة باللغة المحلية، وقد ظل المثقفون يكتبون باللاتينية لزمن طويل، لأنها كانت لغة العلوم في كل مكان، ولكن ظهرت في الوقت نفسه أعداد متزايدة من الكتب المنشورة باللغة الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية وغيرها من اللغات الأوروبية.
وكما ساعد اختراع الكتابة في غابر الزمن في تثبيت اللغة ضمن أنماط معينة، كذلك وحدت الطباعة التهجئة والمفردات على امتداد مناطق واسعة كانت تتميز فيما بينها سابقاً بلهجات وتعابير محلية. واكتسبت هذه التغيرات زخماً كبيراً عندما صارت الطباعة تستخدم لأشياء غير الكتب، فظهرت النشرات والمطبوعات المصورة والرسائل الإخبارية والكراسات، وأخيراً الصحف والمجلات الدورية، كل هذا كان قبل عام 1800.
وكانت أشكالها تختلف كثيراً من مكان لآخر، فالإنكليز نشروا أعداداً غزيرة من الكراسات السياسية في القرن السابع عشر من أشهرهاAreopagitica التي كان يصدرها ملتن، والتي كانت التماساً كبيراً لحرية الصحافة، بينما ظلت أعدادها أقل بكثير في فرنسا طوال مئة عام أخرى تقريباً بسبب الرقابة.
وكانت الصحف تصدر في ألمانيا منذ القرن السابع عشر فما بعد، وبالإجمال صارت المواد المطبوعة في عام 1800 أوفر بكثير مما كانت عليه قبل قرون ثلاثة، ويبدو أن المناقشات العلنية للأفكار والأحداث كانت تجري على وتيرة لاسابق لها، بصرف النظر عن مدة جودة تلك المناقشات.
مع اقتراب القرن الثامن عشر حتى نهايته، تعالت المطالبة بحرية أكبر للطباعة والنشر في بلاد غير إنكلترا والجمهورية الهولندية والمستوطنات الإنكليزية في أمريكا، وقد قال كاتب فرنسي مشهور أنه يدعم بكل قوة حق الناس في أن يعبروا عن آرائهم ولو اختلفت عن أرائه أشد الاختلاف.
وكان هذا الكلام بمثابة المطالبة بوجود قانون يدعم حق الإنسان في طباعة أفكاره ونشرها، وسوف يناضل ذوو الأفكار المتحررة من أجل هذا الهدف في بلاد كثيرة في القرن التاسع عشر، ثم في القرن العشرين من جديد بعد أن حسب بعضهم أنهم قد كسبوا المعركة.