بينما كانت الخصومة في الغرب بين أوروبا الكاثوليكية وأوروبا البروتستانتية قد توسعت بسرعة إلى صراعات عالمية تعدت مجال السلالات ومصالحها، كانت مجموعة مختلفة وجديدة من العوامل قد دخلت في حسابات الدبلوماسيين في أوروبا الشرقية.
كانت أوروبا الشرقية منطقة شاسعة ليس لها شكل أو قوام واضح، وكانت منذ قرون طويلة ساحة اقتتال بين الشعوب التوتونية والسلافية، كما كانت في الوقت نفسه منطقة مجابهة بين ثقافات أجنبية عديدة، فكان العثمانيون يضغطون عليها من الجنوب، وكان ملوك السويد الراغبون بتوسيع أراضيهم إلى الجنوب من بحر البلطيق يتدخلون في شؤونها خلال القرن السابع عشر.
ولكنها مرت بتطورات ثلاث أعطتها بالتدريج طابعاً خاصاً ومميزاً لها، أول تلك التطورات هو زيادة امتداد عبودية الأرض فيها، وترسخها في السهول الشمالية لشرق ألمانيا وبولندا وروسيا وفي وادي نهر الدانوب، وثانيها القضاء على المعالم السياسية القديمة التي تعود للعصور الوسطى، مثل جمعية فرسان التوتون ومملكتي بولندا وهنغاريا، أما ثالثها فهو بزوغ ثلاث من القوى العظمى المعتمدة على السلالات الملكية وهيمنتها في المنطقة ألا وهي بروسيا الهوهنزولرن، ونمسا الهابسبرغ، وروسيا الرومانوف.
لم تكن بروسيا في عام 1500 إلا دوقية صغيرة على بحر البلطيق خاضعة لملوك بولندا، وقد استولى عليها في القرن السادس عشر سلسلة من الحكام العسكريين من براندنبرغ، وهي إحدى الدول التي كان حكامها ينتخبون رأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ثم راحوا يوسعون أراضيهم بصورة مطردة.
وصارت هذه الدولة تعرف بأنها تحوي أفضل جيش في أوروبا وأفضل خدمة مدنية فيها، لقد صد حكامها السويديين في القرن السابع عشر، وعرف أحدهم في القرن الثامن عشر بفريدريك الكبير، الذي كان أول من تحدى هيمنة الهابسبرغ من بين الأمراء الألمان، وقد ابتدأ صراعاً مع النمسا استمر حتى وقت متقدم من القرن التالي، ولو أنه كان صراعاً متقطعاً.
أما النمسا أو بالأصح ملكية هابسبرغ، فقد واجهت تحدي الفرنسيين في إيطاليا أولاً، ثم تحدي الفرنسيين والبروسيين على التوالي في ألمانيا، وأخيراً أبعدتها معاهدة أوترشت عن إسبانيا وإمبراطوريتها. لذلك حصرت طموحاتها بالتدريج بأوروبا الوسطى والشرقية، وقد حازت على مكاسب كبيرة مع تفسخ بولندا وتراجع الإمبراطورية العثمانية.
وأما روسيا فقد نالت هي الأخرى مكاسب كبيرة، وكان بزوغها هو التغير الأهم من بين التغيرات التي طرأت على الشرق إطلاقاً، ولسوف تصبح في عام 1800 أكبر قوة عسكرية في أوروبا، وهو تطور ماكان ليخطر ببال إنسان في عام 1500.
لقد بقي قلب الإمبراطورية الروسية الجديدة هي إمارة موسكوفيا القديمة، وكان أمراء موسكوفيا حكاماً أوتوقراطيين مطلقين، ولقد سار الحكم في روسيا على تقاليدهم هذه وعلى تقاليد التتار، وليس على التقاليد الأكثر جمهورية في نوفغورود مثلاً؛ وكان الأمر على درجة كبيرة من الأهمية.
كما انتقلت إلى موسكو بطريركية الكنيسة الأرثوذوكسية، أي رئاستها، من موقعها القديم في فلاديمير وألقت الكنيسة بوزنها في كفة أمراء موسكوفيا.
يذكر القارئ أن إيفان الثالث وخلفاءه قد ضموا أراضي شاسعة، وقد أضيفت إليها أراضي جديدة في النصف الأول من القرن السابع عشر، خاصة سيبيريا، ولقد بدلت هذه التوسعات الخريطة تبديلاً هائلاً، ولكنها لم تؤثر كثيراً في أوروبا، لأن موسكوفيا كانت بعيدة جداً وكان الاتصال بها ضئيلاً للغاية.
ورغم تقاليد الحكم المطلق فيها فقد كانت في القرن السابع عشر في حالة من الفوضى، لأن الحكم المطلق بحاجة إلى حاكم قوي، لقد استلمت العرش في عام 1613 سلالة جديدة من سلالة الرومانوف، إلا أن التحسينات التي أتت بها كانت بطيئة جداً.
ولكن في عام 1682 ارتقى العرش حاكم فذ مصمم على توسيع إمبراطوريته فوق اتساعها، وعلى تبني أساليب أوروبا الغربية ألا وهو بطرس الكبير، مازالت أعظم الصروح التي خلفه هي مدينة سانت بطرسبرغ، التي أسسها في خليج فنلندا، والتي ظلت عاصمة روسيا منذ عام 1715 حتى عام 1918، وكانت هذه المدينة رمزاً لعملية التغريب التي قام بها بطرس، أي تحديث بلاده عن طريق استعارة أفكار الغرب، إذ أنه كان أول المصلحين الاستبداديين الكثيرين الذين تطلعوا إلى الغرب بحثاً عن طرق للتغلب على تخلف بلادهم.
موقع مدينة سانت بطرسبرغ أوروبا
كما أنه أحكم قبضة روسيا على ساحل البلطيق، وقضى على خطر السويديين، الذين ظلوا يهددون البلاد طوال القرن السابع عشر، وانتزع منهم كلاً من لاتفيا وإستونيا وكاريليا. إلا أن نجاحه كان أقل بكثير مما كان يأمل، وقد عجز عن الاحتفاظ بآزوف، وهي أول منفذ لروسيا على البحر في الجنوب، إذ استردها العثمانيون بعد سنوات قليلة.
كانت روسيا في الداخل بلداً محافظاً جداً، وقد بقيت كذلك لزمن طويل، ورغم أهمية التجارة في الأيام العظيمة لكييف روس ونوفغورود فقد ظلت طبقة التجار فيها صغيرة وظلت مدنها قليلة. وكانت أكثر الحرف تمارس فيها على مستوى بسيط من قبل الفلاحين، وليس من قبل أشخاص مختصين كما في الغرب، وكان السواد الأعظم من سكانها فلاحين.
وكانت التجارة المحلية كثيرة، ولكنها تعتمد على المقايضة، وقد جرت بعض المحاولات المقصودة لتشجيع التصنيع، كما في عهد بطرس الكبير، إلا أنها لم تغير المجتمع مثلما غيره قدوم الصناعة في أوروبا الغربية، ولم تعط طبقة وسطى جديدة بين طبقتي النبلاء والفلاحين مكونة من التجار والمصنعين الأغنياء الساعين لتأمين مصالحهم الخاصة، بل بقيت الصناعة مرتبطة بالنظام الحاكم، فكانت الدولة هي التي تقرر أن تفتتح منجماً أو تؤسس مصنعاً، وليس رجال الأعمال المستقلون؛ وقد جعل هذا الأمر روسيا مختلفة جداً عن أوروبا الغربية.
وربما كان الأمر الأكثر لفتاً للأنظار هو اعتماد روسيا الكبير على عبودية الأرض، حتى بالقياس إلى بقية أوروبا الشرقية، فمع اقتراب عام 1800 كان العدد المطلق أي الكلي لعبيد الأرض في ازدياد مضطرد، وكذلك نسبتهم إلى بقية أفراد المجتمع الروسي، وقد بلغت هذه النسبة في ذلك الحين حوالي الثلثين، وكانت السلطات القانونية التي بأيدي ملاك عبيد الأرض هؤلاء في ازدياد أيضاً.
لقد بلغ التباين بين أوروبا الشرقية أوروبا الغربية أشد درجاته حدة في روسيا، بالرغم من الحياة المتغربة السطحية التي كنت تراها في البلاط وبين الطبقة الأرستقراطية في العاصمة الجديدة بطرسبرغ، التي ابتناها بطرس على بحر البلطيق ومنحها لبلاده نافذة على الغرب، والتي لم تكن في الحقيقة بأكثر من ذلك.
وبالرغم من قوة روسيا الكبيرة ومن محاولات بعض خلفاء بطرس لتحديثها في القرن الثامن عشر، فقد بقيت قلب منطقة هائلة تضم أيضاً جزءً كبيراً من ألمانيا الشرقية وأوروبا الوسطى وبولندا، تراكمت فيها قرون متطاولة من التجارب التاريخية التي أنتجت اقتصاديات وحكومات وثقافات بعيدة كل البعد عن مقابلاتها في الغرب.
وكانت روسيا نفسها بتقاليدها البيزنطية والتترية هي المثال الأقصى على ذلك، فهي لم تمر لا بحركة النهضة ولا بحركة الإصلاح البروتستانتي، وسوف تفوتها بعد تجارب تاريخية كبيرة جعلت الغرب يتباعد عنها أكثر فأكثر مع تسارع وتيرة التحديث بعد عام 1700، وكانت عبودية الأرض هي العلامة الدالة على هذا التباعد.