في عام 1500 كانت أوروبا الواقعة خارج أراضي العثمانيين كلها مسيحية تقريباً، وكان في الشرق ثمة خط يقسم العالم المسيحي إلى شطرين، ينتهي عنده العالم الكاثوليكي التابع لروما وتبدأ المسيحية الأرثوذوكسية، وكانت هناك مناطق على الحدود بين هذين الشطرين في هنغاريا وأوكرانيا ويوغسلافيا السابقة تختلط فيها هاتان الطائفتان، وكنت تجد الأسقفيات الكاثوليكية حتى مدينة فلنيس في ليتوانيا ونهر الدنيستر شرقاً.
أما الأوروبيون الخاضعون لحكم الأتراك المسلمين فكانوا ينتمون عادة إلى إحدى الكنائس الأرثوذوكسية، وسوف يزداد تقدم الإسلام ضمن أوروبا تحت حكم العثمانيين عن طريق اعتناق شعوب البلقان له خلال القرون القليلة التالية، ولكن بالمقابل سوف يزول المسلمون الكثيرون الذين كانوا يعيشون تحت حكم الإسبان في عام 1500.
وكنت تجد اليهود في جميع البلاد الأوروبية تقريباً، وكانت أعدادهم قليلة في بعضها، بينما كان هناك الكثيرون منهم في المناطق الحدودية في بولندا وروسيا، حيث فروا من الاضطهاد على أوروبا الغربية خلال العصور الوسطى، ويسمح لنا هذا الوصف أن نقول أن أوروبا كانت في ذلك الحين هي نفسها العالم المسيحي، أي الجزء من العالم الذي لايسكنه إلا المسيحيون.
أما وصف أوروبا من الناحيتين السياسية والقانونية فهو أمر صعب بكثير، كانت كل من إسبانيا والبرتغال وإنكلترا وفرنسا في عام 1500 تشب الدول الحالية المقابلة لها، وقد ساعدها أن لكل منها حدوداً طبيعية واضحة، فقد كانت شبه الجزيرة الإيبرية منعزلة بفضل جبال البيريه والمحيط الأطلسي والبحر المتوسط، ومنذ هزيمة المسلمين، لم يعد من السهل على الغرباء أن يتدخلوا فيها، ولكنها لم تكن تشكل كياناً سياسياً واحداً، لأن البرتغال كان لها ملكها الخاص، وإسبانيا كانت من الناحية القانونية منقسمة إلى مملكتي قشتالة وأراغون ولكل منهما قوانينها وأعرافها ولو أنهما متحدتان تحت حكم الملكين نفسيهما، كما كانت هناك في الشمال مملكة صغيرة مستقل هي مملكة نافار.
وإذا انتقلت إلى الجزر البريطانية، وجدت أن إنكلترا كانت تسيطر على جزيرة بريطانيا تقريباً، لأن ملوكها كانوا قد فتحوا منطقة ويلز الواقعة إلى الغرب منها منذ زمن طويل، ولكن بقيت لها جارة مستقلة في الشمال هي اسكتلندا، وقد اشتركت المملكتان بملك واحد منذ عام 1603، ولكنهما لم تنضما في دولة واحدة هي بريطانيا الكبرى حتى عام 1707، وحتى عندئذٍ بقيت الكثير من قوانينهما مختلفة.
أما جزيرة إيرلندا فقد كان الإنكليز قد فتحوها وضموها إليهم ووضعوها تحت حكم نائب للملك حتى القرن الثامن عشر، وقد ظل ملوك إنكلترا في ذلك الزمان يلقبون أنفسهم ملوكاً على فرنسا، ولو أن هذا اللقب صار بالياً ومن قبيل التبجح، صحيح أن إنكلترا كانت تحتفظ ببقعة صغيرة من الأرض حول مدينة كاليه في شمال فرنسا في عام 1500، ولكن ملوك فرناس كانوا هم السادة الفعليون على الجزء الأكبر من فرنسا الحالية.
ومع هذا لم تكن بعض المناطق الشرقية قد صارت تحت حكمهم بعد، خصوصاً برغنديا وسافوا والإلزاس واللورين، وحتى ضمن فرنسا نفسها كانت هناك بعض الجيوب الصغيرة الخاضعة لحكام أجانب، وأبرزها أفينون التي كان يحكمها البابا.
حكم السلالات
لم يكن الناس قد ابتكروا تعبير الشؤون الدولية بعد في عام 1500، ولكنهم لو استخدموه لكان مبنياً حتماً على مبدأ الأسرة الحاكمة ومصالحها، فقد كانت العلاقات بين الحكام الأوروبيين تتحدد بالدرجة الأولى بصراعات الأسر فيما بينها، من أجل توسيع ميراثها من الأراضي وتدعيمه وحمايته، مثلما كان الأمر منذ قرون عديدة، وكان لأكثر الحكام ادعاءات بأراض في بلاد أخرى عن طريق المصاهرة أو التحدر من عائلة ما.
وكان أكثر رجال الدولة يرون أوروبا بصورة فسيفساء مكونة من الأملاك الشخصية والعائلية، تنتمي قطع الأرض فيها لحكام مختلفين، وبالتالي لواحدة من السلالات الملكية الكبرى، تماماً كما تنتمي المزارع والبيوت في أجزاء مختلفة من البلد الواحد إلى المالك نفسه. وكان المبدأ السائد هو السعي نحو مصالح الأسر الحاكمة وليس مصالح السكان في منطقة معينة، فكان هذا هو المحور الذي تدور حوله السياسة في أوروبا.
وتبرز في هذه القصة اثنتان أو ثلاث من الأسر الكبرى، كانت إحداها تيودر الويلزية، وأول من ارتقى عرش إنكلترا منها هو هنري السابع في عام 1485، كما حاول ابنه هنري الثامن أن ينال عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة بعد سنوات قليلة، ولكن الحقيقة أن ملوك إنكلترا لم يكن لهم بالإجمال وزن كبير في القرن السادس عشر، إلا عندما يتخاصم حكام آخرون فيما بينهم ويطلبون مساعدتهم أو حيادهم.
كانت أسرة فالوا الفرنسية أكثر أهمية منهم، وهي التي كانت تحكم فرنسا منذ القرن الرابع عشر، وطردت الإنكليز تقريباً بعد صراع طويل، وكان أعظم بكثير من أسرة تيودور، وقد استمرت حتى عام 1589، عندما أخذ عرش فرنسا سلالة بوربون الناجحة، التي ترتبط بهم بروابط المصاهرة، إلا أن الأسرة التي كان بهاؤها يفوق كلاً من الفالوا والتيودور في عام 1500 إنما هي أسرة هابسبرغ النمساوية التي سوف تدوم أيضاً زمناً طويلاً بعد زوالهما.
تشكل تقلبات سلالة الهابسبرغ قصة السياسة في أوروبا، حتى عام 1918 بعد أن حكمت النمسا طوال ستة قرون، وقد أصبح أحد أفرادها في عام 1438 حاكماً على ما سمي في ذلك الحين الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية، ثم صارت تسمى الإمبراطورية الرومانية المقدسة، أو باختصار الإمبراطورية، وكان هذه استمراراً بعيداً لإمبراطورية شارلمان، التي كانت بدورها إحياء لفكرة أقدم منها
الإمبراطورية الرومانية المقدسة
كان جزء كبير من الإمبراطورية واقعاً خارج ألمانيا، ولكن الإمبراطور كان ينتخبه عدد من الأمراء الألمان ومنذ القرن الرابع عشر فما بعد، صاروا يختارون أحياناً رجلاً من أسرة هابسبرغ. وقد استمر العمل بهذا الترتيب مع انقطاع واحد قصير منذ عام 1438-1806، عندما زالت الإمبراطورية الرومانية المقدسة وجاءت بدلاً منها الإمبراطورية النمساوية، ولهذا ظل الهابسبرغ يستخدمون لقب إمبراطور.
فإذا عدت إلى عام 1500 وجدت أن الإمبراطور مكسيميليان كان رأس عائلة الهابسبرغ، وأن زوجته الأولى كانت ابنة دوق برغنديا، وهو واحد من أثرى حكام العصور الوسطى ولم يكن له من ولد يخلفه. لقد سبب موت الدوق اضطرابات كبيرة وزاد خريطة أوروبا تعقيداً، لأن أجزاء تركته قد انتقلت إلى أيد كثيرة مختلفة، ولم يتم هذا إلا بعد نزاعات ومشاكل كثيرة.
والحقيقة أننا نستطيع أن نرى الكثير من أحداث القرن السادس عشر بصورة نزاع طويل بين أسرتي فالوا وهابسبرغ حول ميراث برغنديا، خاصة مقاطعاتها الغنية في الأراضي الواطئة أي التي تقابل تقريباً اليوم هولندا وبلجيكا الحاليتين.
في عام 1519 أصبح ملك إسبانيا وهو من أسرة هابسبرغ رأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة، فضم إمبراطورية إسبانيا الهائلة إلى أراضي الهابسبرغ القديمة، وبدا أن أسرته باتت على طريقها نحو تشكيل ملكية عالمية، هذا الملك هو شارلكان أو شارل الخامس، وهو أول رجل قيل عنه بحق أنه كان يحكم إمبراطورية لاتغرب عنها الشمس.
لقد انضمت أسرتا هابسبرغ وفالوا إلى أسر أخرى في الصراع على إيطاليا، باحثة عن حلفاء وأتباع فيها بين عشرات الدول الأساسية التي كانت شبه الجزيرة مقسمة إليها. كانت بعض الدول جمهوريات أرستقراطية، وأشهرها البندقية التي كانت لها أملاك في قبرص وكريت وجزر بحر ايجه، بينما كان بعضها الآخر ممالك في الحقيقة سواء اعترفت بذلك أم لم تعترف مثل فلورنسا التي كانت جمهورية بالاسم ولكنها في يد أسرة من المصرفيين السابقين هي أسرة مديتشي.
ولم تكن تلك التعقيدات الوحيدة في إيطاليا، فقد كانت أكثر الدول الإيطالية ضمن الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ولكن بعضها كانت خارجها، ومن هذه الأخيرة ثلاث دول على درجة كبيرة من الأهمية هي البندقية، ومملكة نابولي، والدول البابوية التي كان يحكمها البابا كحاكم دنيوي مثل أي أمير آخر في دولته.
الإمبراطورية وأوروبا الشرقية
ولكن خريطة إيطاليا على تعقيدها كانت بسيطة جداً بالقياس إلى خريطة ألمانيا وأوروبا الوسطى، كانت ألمانيا قلب الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وقد سعى الهابسبرغ جاهدين لتحويل الإمبراطورية إلى دولة ملكية مركزية، ولكنهم لم ينجحوا في هذا قط.
كان دستورها في فوضى عارمة، وكان يفترض فيه أن يقدم الجهاز اللازم لإدارة شؤون حوالي أربعمائة من الدول والدويلات والوجهاء بصورة سلسلة، فقد كان هناك مثلاً أمراء هم أتباع إقطاعيون للإمبراطور وأهمهم الأمراء السبعة الذين ينتخبوه، ولكنهم لم يكونوا خاضعين له من أي ناحية أخرى، كما كانت هناك عشرات المدن الإمبراطورية المستقلة، وأراضي أسرة هابسبرغ في النمسا وخمسون أميراً تابعاً للكنيسة يحكمون في أراضيهم مثل الحكام الدنيويين، ومئات من النبلاء الصغار هم الفرسان الإمبراطوريون، الذي لايخضعون للإمبراطور كأتباع إقطاعيين، وأراضي في بوهيميا في جمهورية التشيك الحالية وسيلزيا في بولندا الحالية، تتبع في الحقيقة لعرش هنغاريا وهو خارج الإمبراطورية، وغير ذلك الكثير.
لقد كانت هذه فوضى رهيبة، ولكن الناس كانون يقبلون بها كوضع طبيعي، ولما كان على شارلكان أن يحكم أيضاً إسبانيا وممتلكاتها الهائلة خارج أوروبا فلم يكن ثمة أمل في السيطرة الحقيقية على الأمور.
كان بعض الألمان يعيشون خارج حدود الإمبراطورية، في مملكة بروسيا مثلاً، أما على ساحل بحر البلطيق فكانوا مختلطين بالسويديين والبولنديين، وعلى الطرف الآخر من البحر كانت السويد مملكة مستقلة تضم فنلندا الحالية، وكانت الدنمرك والنرويج تحت حاكم واحد.
وإذا عدت إلى القارة نفسها وجدت أن مملكة ليتوانيا الكبيرة كانت تمتد في غير انتظام مغطية جزءً كبيراً من بولندا الحالية وأوكرانيا وغليسيا الواقعة بينهم، أما روسيا إلى الشرق منها فكانت في طور التوسع، ولكنها لم تكن تغطي بعد إلى النصف الشمالي من روسيا الحالية إلى الغرب من جبال الأورال، ولم يكن قيصرها يعتبر واحداً من حكام أوروبا.
وأخيراً تجد في أوروبا الوسطى مملكة مسيحية مستقلة وكبيرة أخرى هي هنغاريا، الواقعة بين الإمبراطورية والعثمانيين في وادي الدانوب، وكانت بعض أراضيها داخل حدود الإمبراطورية وبعضها خارجها.
اتجاهات جديدة في الحكم
إن الرجال والنساء الذين كانوا يحكمون الوحدات السياسية التي تشكل هذه الفسيفساء المتنوعة من الممالك والأملاك والأمم في القرن السادس عشر لم يعتبروا أنهم أتوا بشيء جديد، وكثيراً ماكانوا يتصرفون بطرق تبدو لنا من أساليب العصور الوسطى، أو أننا لانتوقعها في من الحكام الحديثين.
فقد ظل ملوك فرنسا ينطلقون لغزو إيطاليا تدفعهم روح الفروسية القديمة، بينما حضر ملك إنكلترا هنري الثامن في عام 1520 إلى لقاء دبلوماسي باهر في منطقة فلاندر كان أشبه باحتفالات العصور الوسطى بما يتخللها من مسابقات ومبارزات بالسيوف.
وكان الملوك يحاربون في أغلب الأحيان لمصلحة أسرتهم وليس لمصالح الشعب الذي يحكمونه، وإذا نزلت السلم الاجتماعي إلى مستوى النبلاء، وجدتهم يدافعون عن أنفسهم عندما يشعرون أن الملوك يعتدون على استقلالهم وكرامتهم اللذين طالما تمتعوا بها بحكم العرف والعادة. أما الهيئات التمثيلية التي تعود للعصور الوسطى، ومنها البرلمان الإنكليزي، فكان أمامها هي أيضاً حياة طويلة بعد في بعض دول أوروبا.
ولكن التغيرات السياسية الكبيرة كانت قادمة، فالترتيبات الإقطاعية القديمة التي كانت تحكم أوروبا كلها تقريباً لم تعد لها عندئذٍ أهمية كبيرة إلى الغرب من نهر الراين، وفي بعض البلاد إلى الشرق منه أيضاً.
وكانت هذه العملية قد ابتدأت منذ زمن بعيد في العصور الوسطى، إذ أن المدن لم تكن يوماً جزءً من المجتمع الإقطاعي، وقد نمت نمواً كبيراً في الحجم والأهمية منذ عام 1100، وازدادت أعداد التجار الذين يعيشون فيها، وكان هؤلاء متمتعين بالاستقلال كما كانت ثرواتهم أكبر من ثروات أكثر النبلاء.
إن هذه الضغوط التي كانت تفعل فعلها في المجتمع التقليدي لم تغيره إلى بصورة بطيئة جداً، كما أنها كانت عوامل معقدة جداً، ولكن منذ عام 1500 كانت الترتيبات الإقطاعية وحدها قاصرة عن وصف المجتمع، ولو أنها لم تكن قد زالت تماماً حتى في عام 1800 حيث كان الملوك من ناحية أخرى قد ضاقوا ذرعاً بالأساليب القديمة رغم نزعتهم المحافظة القوية، وكانوا يرغبون في أن يحكموا رعاياهم أن يفرضوا عليهم الضرائب دون أن يتدخل أحد.
فراحوا يستخدمون المحامين لابتكار طرق جديدة لتقويض الترتيبات القديمة، والجنود المحترفين لسحق أتباعهم إذا تمردوا، والموظفين المدنيين لضمان عمل الحكومة ولو عصاهم الوجهاء المحليون، وقد ضعف اهتمامهم بواجباتهم نحو الوجهاء الآخرين بمرور الزمن، فتراهم مثلاً يعاملون رأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة رغم مكانته النظرية مثل أي أمير آخر يعمل على تعزيز مصالح سلالته، أي كما كانوا يفعلون هم أنفسهم تماماً.
إن تنافس الملوك فيما بينهم قد جعلهم يسعون لإحكام قبضتهم على أراضيهم، وزاد من توقهم لتحطيم العراقيل القديمة أمام سلطتهم، وقد ساعد هذا الأمر بالتدريج في نشوء مفهوم جديد احتاج الناس زمناً طويلاً كي يقبلوا به، هو مفهوم السيادة.
وجوهر مفهوم السيادة هذا كما هو الحال اليوم، هو ألا توجد ضمن أرض معينة إلا سلطة واحدة لوضع القوانين، وقد بدأت هذه الفكرة بالانتشار في القرن السادس عشر، فكان يقال أنه لايحق لأي إنسان ولو كان الإمبراطور أو البابا نفسه، أن يتدخل بين الحاكم ذي السيادة وبين رعاياه، سواء كان ذلك الحاكم أميراً بمفرده أن مجموعة من الأشخاص، مثل مجلس شيوخ البندقية، كما أنه لايجوز أن تكون هناك قوانين غير الذي يضعها الحاكم ذو السيادة.
سوف يمر وقت طويل قبل أن تصبح هذه الفكرة مقبولة بصورة كاملة وفي كل مكان، وكان من الصعب على الناس أن يقبلوا بصلاحية الحاكم في أن يفعل أي شيء ولو كان معارضاًَ لقوانين الله مثلاً، ولكن هذه الفكرة أضحت مقبولة في أكثر أنحاء أوروبا في عام 1800، ولو استمرت آثار قليلة من الأفكار الأقدم.
وهكذا كان الملوك والأمراء يزدادون قوة وسلطة، إلى أن نشأ أخيراً ما يسمى بالملكية المطلقة، وكان أول مثلا كبير عليها هو إسبانيا، كان شارلكان لقد خلف لابنه فيليب الثاني الجزء الإسباني من أراضي الهابسبرغ عندما تخلى عن العرض في عام 1556، وكان الحكم على عهد هذا الأخير نظرياً على الأقل حكماً مركزياً إلى درجة عجيبة، فكان كل قرار هام تقريباً يحسم من قبل الملك نفسه
فيليب الثاني
كان فيليب قد بنى لنفسه بناءً هائلاً هو عبارة عن قصر ودير يسمى قصر الإسكوريال بالقرب من مدريد، وقد تراكمت فيه الأوراق الرسمية إذ راح يحاول أن يدير إمبراطوريته العالمية بصورة شخصية، وأن يراقب بنفسه كل شاردة وواردة.
ولكن هذا الأمر كان حلماً بعيد المنال، لأن الحكومات في القرن السادس عشر لم تكن تمتلك وسائل الاتصال ولا القوات اللازمة بحيث يستطيع مركز واحد أن يحكم أراضي تمتد من البيرو إلى البلاد الواطئة،.
إلا أن إسبانيا في عهد الهابسبرغ على كل حال كانت مثالاً بارزاً عن طموحات الملكية المطلقة في القرن السادس عشر، ولو أنها لم تنجح في تطبيقها عملياً، ولقد كان من بين طموحاتها أيضاً هدف جديد، هو أن تضمن انتماء رعاياها إلى ديانة واحدة، وكان موضوع التماثل الديني هذا موضوعاً جديداً لم يشغل بال الملوك في العصور الوسطى، ولكنه بات في عام 1600 أمراً يهم الحكومات في كافة أنحاء أوروبا، والسبب وراء هذا التطور هو الثورة الدينية الهامة جداً التي حدثت في القرن السابق، وهي أبرز العلامات على ظهور أوروبا الحديثة.