في عام 1500 كانت هناك كنيسة واحدة تضم شمل أوروبا وتعطيها هويتها المميزة لها، إلا أن هذه الحقيقة مالبثت أن تبدلت خلال خمسين عاماً بفعل الإنقلاب الكبير الذي سمي لاحقاً بالإصلاح البروتستانتي.
ويمكننا أن نعتبر هذا التبدل نهاية العصور الوسطى وبداية حقبة جديدة في الحضارة الأوروبية، كما سوف تكون له أيضاً أهمية بارزة في تاريخ العالم، لم يكن هذا الإصلاح متوقعاً، وهذه هي حال الكثير من التغيرات الكبرى، ولو علم الرجال الذين ابتدأوه بشيء من نتائجه الأخيرة لروعتهم.
لقد كان أولئك رجالاً ذو عقليات من العصور الوسطى، ولكنهم حطموا تقليداً قديماً من احترام السلطة الدينية يعود إلى ألف عام مضت، فقضوا بذلك على وحدة المسيحية التي كانوا يؤمنون بها إيماناً عميقاً، كما خلقوا صراعات سياسية جديدة، مع أنهم كانوا يظنون أنهم لايهتمون إلا للأمور الروحية.
ونستطيع اليوم أن نرى أيضاً أنهم كانوا يتخذون أولى الخطوات وأهمها نحو مزيد من حرية السلوك للفرد، ومزيد من التسامح مع الآراء المختلفة، ومزيد من الانفصال بين الناحيتين الدنيوية والدينية للحياة، ولو أنهم في الحقيقة لم يرغبوا بشيء من هذا أو حتى يتوقعوه، ولقد أطلقوا باختصار الشيء الكثير من التاريخ الحديث.
من الناحية النظرية، كانت أوروبا كلها مسيحية منذ أن تم تنصير البرابرة في عصور الظلام، ولاتجد لهذه القاعدة إلا استثناءات قليلة في إسبانيا، حيث كان الملوك المسيحيون في عام 1500 يحكمون عدداً هاماً من الرعايا غير المسيحيين، كما كن هناك في بعض البلاد أعداد قليلة من اليهود يعيشون منفصلين عن المسيحيين في أحيائهم الخاصة الغيتو وكانوا خاضعين للضرائب وغير متمتعين عادة بنفس الحماية التي يتمتع بها المسيحيون.
فعدا عن هذه الحالات الخاصة كان جميع الأوروبيين مسحيين، بل إن أوروبا والمسيحية كانتا كلمتين مترادفتين تقريباً في العصور الوسطى، كان الدين هو الرابطة الوحيدة التي تجمع أوروبا، وكان العالم المسيحي كياناً واحداً غير منقسم يجمعه معتقد واحد وأعمال الكنيسة، التي كانت المؤسسة القانونية الوحيدة الشاملة للقارة برمتها.
كانت قوانين الكنيسة سارية في جميع البلاد عن طريق محاكم قائمة إلى جانب النظام العلمانية وبصورة منفصلة عنه، وكانت كل الجامعات تحت إدارة رجال الكنيسة وإشرافهم. وأخيراً كان الناس في جميع البلاد يتلقون نفس الأسرار المقدسة، وكانت هذه تفرض عليهم نمطاً واحداً من الأحداث الكبرى التي يمرون بها خلال حياتهم من ولادة وزواج وموت.
المصلحون
بالرغم من مكانة الكنيسة التي لاينازعها عليها أحد فإنها كانت دوماً عرضة للكثير من الانتقاد، ولم يكن هذا بالأمر الجديد، فالشرور التي كان الناس يستنكرونها في بداية القرن السادس عشر كانت موضع شجب وانتقاد منذ العصور الوسطى، ومنها جهل رجال الدين وسوء استخدامهم لسلطتهم من أجل مكاسبهم الشخصية، وحياتهم المادية البعيدة عن الأمور الروحية.
ولطالما هاجم هذه العلل رجال الدين أنفسهم، ولطالما هزأ الكتاب وسخروا من الكهنة الذين يفضلون الشراب وملاحقة الفتيات على الاهتمام بواجباتهم الروحية، فكانوا يقارنون الكهنة الفقراء المخلصين لرعيتهم والمتفانين في خدمتها، وبين رؤسائهم الأثرياء المنغمسين في ملذات الحياة. إلا أن هذه الهجمات على رجال الدين لم تكن تعني أن الناس يرغبون بهجر الكنيسة نفسها، أو أنهم يشككون بجوهر الديانة المسيحية.
كان رجال الدين يحاولون منذ زمن بعيد أن يرتبوا أمور بيتهم، وبمرور القرن الخامس عشر صار بعض المنتقدين ومنهم الكثير من الكهنة، يقولون بضرورة العودة إلى الكتاب المقدس لكي يرشد الناس إلى الحياة المسيحية الصالحة، بما أن الكثيرين من رجال الدين قد انحرفوا عنها.
كان هؤلاء عادة يتهمون بالهرطقة، وكانت الكنيسة تمتلك أسلحة قوية لمعالجة أمرهم، ومنهم العالم ويكليف من جامعة أوكسفورد والتشيكي جون هوس الذي أعدم حرقاً، وكانوا يتمتعون بدعم شعبي قوي، ويعتمدون على الشعور القومي لدى مواطنيهم بأن البابوية مؤسسة أجنبية غاشمة.
كما أن بعض الهراطقة كانوا يعتمدون على استياء الناس من الظلم الاجتماعي، ولاننس أن الكتاب المقدس يتطرق كثيراً إلى هذا الموضوع. وقد طاردت السلطات منتقدي الكنيسة من أتباع ويكليف وهوس هذين وضايقتهم، ولكن لم يكونوا هم الذين قوضوا الكنيسة,
لم تكن الكنيسة قد خسرت بعد شيئاً من قوتها وسلطتها القديمتين في عام 1500، بالرغم من التزايد المفاجئ لانتقاداتها، بل استمرت بلعب دورها المحوري على كافة مستويات المجتمع، فكانت تشرف على الأحداث السياسية في حياة الفرد من المهد إلى اللحد وتقولبها في أنماط مألوفة وثابتة.
وكان الدين يتخلل الحياة اليومية إلى حد بعيد ويرتبط بها ارتباطاً لاتفصم عراه، ففي أكثر القرى والمدن الصغيرة مثلاً لم يكن ثمة بناء عام غير الكنيسة، فليس من الغريب إذاً أن يجتمع الناس فيها لإدارة شؤونهم الجماعية، ولكن أيضاً للتسلية والاحتفال والرقص في أيام الأعياد.
ولم يكن تدخل رجال الدين في الشؤون الدنيوية مفيداً دوماً للكنيسة، لأن الأساقفة الذين كانوا يلعبون دوراً بارزاً في شؤون حكامهم كانوا معرضين لخطر الانشغال عن العناية برعيتهم، فالكاردينال الكبير ولسي مثلاً الذين كان رئيس أساقفة يورك ومحظياً لدى ملك إنكلترا هنري الثامن، لم يزر أبرشيته إلا عندما أرسله إليها الملك مخزياً بعد أن خسر حظوته لديه وسلطته.
وكان البابوات أنفسهم شديدي الحرص على مكانتهم كحكام دنيويين، ولما كان العرش البابوي والإدارة البابوي أيضاً قد صارا بأيدي الإيطاليين فإن الأجانب قد شعروا بهذا الأمر بصورة أكثر حدة.
وكانت الكنيسة تعاني أيضاً منذ زمن طويل من مشكلة أخرى، هي استلام الفرد الواحد لمناصب عديدة وقبض ما تقدمه له من رواتب من دون أن يقوم بواجباته نحوها، ويبدو أن الكنيسة قد عجزت عن معالجة هذه المشكلة. ومن أسبابها أن المال لم يكن كافياً، بالرغم من الأبهة التي كان يعيش فيها الكثيرون من الأساقفة ورؤساء الأديرة، وبالرغم من الترف والبذخ في البلاط البابوي بروما. ويروى عن أحد البابوات أنه قال "بما أن الله قد أعطانا البابوية فلنستمتع بها"، فبسبب قلة المال كانت الوظائف توزع على رجال الدين مكافأة لهم على خدماتهم.
وسبب الفقر مصاعب أخرى أيضاً، لقد وصل البابا سيكستس الرابع إلى درجة رهن التاج البابوي، ولم يكن من المألوف أن يبلغ البابوات هذا الحد، ولكن الشكاوى من استخدام السلطتين القانونية والروحية من أجل زيادة مدخول البابوية كانت شكاوى قديمة، وكان سببها البعيد هو الحاجة لإيجاد مصادر جديدة للمال.
كان المال قليلاً في الأبرشيات أيضاً، فصار الكهنة أشد صرامة في جمع الضريبة التي تترتب على أبناء أبرشيتهم، وهي نسبة من منتجاتهم الزراعية تساوي عادة العشر أو 1/12. وقد أدى هذا إلى الاستياء والمقاومة بين الناس، فصار رجال الكنيسة يهددونهم بالحرمان من الأسرار المقدسة ما لم يدفعوا ما يترتب عليهم، وكان هذا تهديداً خطيراً في عصر يؤمن فيه الناس أنه قد يؤدي بهم إلى نار جهنم الأبدية.
وأخيراً كان الفقر من أسباب جهل رجال الدين، ولو أنه لم يكن السبب الوحيد، صحيح أن مستوى التعليم بينهم قد تحسن منذ القرن الثاني عشر خاصة بفضل الجامعات، إلا أن الكثيرين من الكهنة في عام 1500 لم يكونوا أقل جهلاً وإيماناً بالخرافات من أبناء أبرشيتهم.
وفي هذه الأجواء بدأت البابوية بتشييد كاتدرائية جديدة كبيرة في روما، هي كاتدرائية القديس بطرس التي مازالت قائمة هناك، فكان عليها أن تجد طرقاً جديدة لجمع المال، ومن هذه الطرق أنها أرسلت أعداداً أكبر من الباعة المتجولين الذين يبيعون صكوك الغفران. وكان هؤلاء وعاظاً يأخذون من الناس مساهمة مالية لبناء الكاتدرائية، ويعطونهم بالمقابل ضماناً من البابا باختصار المدة التي سوف يقضونها في المطهر، وهو المسكن الذي كان يعتقد أن النفس تتطهر فيه من أشرار العالم وخطاياهم قبل أن تنتقل إلى السماء.
لوثر
كانت تلك هي الشرارة غير المتوقعة التي أشعلت الثورة الدينية، في عام 1517 كان الراهب الألماني مارتن لوثر قد قرر أن يحتج على صكوك الغفران وعلى عدد من ممارسات البابوية الأخرى، ولما كان عالماً من الطراز القديم فقد سار على التقليد السائد بأن علق حججه المؤلفة من خمسة وتسعين بنداً على باب كنيسة القلعة في مدينة فيتنبرغ للنقاش العلني، حيث أنه كان أستاذاً في جامعة تلك المدينة.
وهنا بدأت حركة الإصلاح البروتستانتي، وسرعان ما ترجمت حججه من اللغة اللاتينية التي كتبها بها إلى اللغة الألمانية، فانتشرت في ألمانيا انتشار النار في الهشيم، وأمنت لها الطباعة جمهوراً أوسع مما حظيت به الانتقادات السابقة للبابوية.
كان لوثر يساهم في صنع تاريخ العالم من دون أن يعلم، وكان يتمتع بالمزاج الملائم لهذه المهمة الكبرى، كان سكسونياً ابن فلاح، كما كان رجلاً مندفعاً وانفعالياً، وقد أصبح راهباً في سن الحادية والعشرين بعد انقلاب نفسي عنيف سببته صاعقة من البرق أصابته وهو يسير على الطريق العام، لقد غلب عليه عندئذٍ شعور بالهلع وبأنه إنسان مذنب وأنه لو مات من الصاعقة لما كان جديراً إلا بالجحيم، وصار فجأة على يقين من أن الله يحبه وأنه سوف ينقذه.
ويشبه هذا التحول في سرعته وعنفه تحول القديس بولس عندما كان في طريقه إلى دمشق، وعندما قدم لوثر بأنه غير جدير بأن يكون كاهناً، وقد آمن فيما بعد بأن الشيطان قد ظهر له، بل إنه رماه بمحبرة كانت أمامه، ولكن طبيعة لوثر كانت في الوقت نفسه صلبة لاتلين إذا ما اقتنع أنه على حق، وهذا ما يفسر تأثيره الكبير، وربما كانت ألمانيا بالأصل ناضجة لتقبل أفكار مثل أفكاره، ولكن لولاه لما سلكت حركة الإصلاح الطريق التي سلكتها.
كان هناك في ألمانيا حقد وضغينة شديدان ضد البابوية الإيطالية ينتظران أن يأتي أحد ليحركهما ويستغلهما. وقد تحول لوثر إلى الكتابة والوعظ بإرادة صلبة عندما حاول رئيس أساقفة ألمانيا في ماينز أن يسكته، كما تخلى عنه زملاؤه الرهبان، إلا أن جامعته وقفت إلى جانبه، وكذلك حاكم سكسونيا أي الولاية التي كان يعيش فيها.
وفي النهاية قسمت كتاباته الألمان إلى فريقين، فريق صار يسمى باللوثريين مع أن لوثر سمي في البداية هوسيا، أي من أتباع هوس*، وفريق المؤيدين للبابا والإمبراطور. وقد جاءه الدعم من رجال الدين المستهجنين لتعاليم رجال دين روما وممارساتهم، ولكن أيضاً من أناس بسطاء يحملون المظالم ضد جباة الضرائب ومحاكم الكنيسة، ومن أمراء جشعين طامعين بثروة الكنيسة ومن أشخاص آخرين وقفوا إلى جانبه لسبب بسيط هو أن خصومهم التقليديين قد وقفوا ضده.
لقد وضع لوثر في النهاية آراءه بصورة مجموعة من العقائد اللاهوتية، أي بيانات حول الإيمان يجب على المسيحي أن يتمسك بها لكي يضمن أنه مسيحي حقاً وأنه سوف ينقذ من الجحيم بعد الموت. قال لوثر إن الكنيسة نفسها وحتى الأسرار المقدسة ليست حتمية من أجل الخلاص، وإن الإنسان يمكنه تحقيق الخلاص إذا هو آمن بيسوع المسيح.
وكانت هذه التعاليم على درجة كبيرة من الأهمية، لأنها تعلم أن الخلاص ممكن في المحصلة من دون الكنيسة، وبالاعتماد على علاقة الفرد الشخصية بالله. ولقد قيل أن لوثر أزاح البابا عن عرشه ونصب محله الكتاب المقدس، أي كلمة الله التي يمكن لكل مؤمن أن يسترشد بها من دون الحاجة لوساطة الكنيسة.
إن هذه النظرة التي تشدد تشديداً كبيراً على الضمير الفردي كانت نظرة ثورية، وليس من الغريب أن يكون لوثر قد حرم من الكنيسة، إلا أنه استمر بالتعليم والوعظ وراح يكسب المزيد والمزيد من الدعم.
البروتستانتية والإصلاح المضاد
إن الصراعات السياسية التي أثارتها تعاليم لوثر بين حكام ألمانيا قد اندلعت بشكل سلسلة من الحروب والثورات، وبعد مرحلة طويلة من الاضطراب كان لابد من الوصول إلى تسوية عامة، فعقد صلح أوغسبرغ عام 1555، أي بعد تسع سنوات من وفاة لوثر، واتفق فيه على أن تقسم ألمانيا بين الكاثوليك والبروتستانت، وكانت هذه الكلمة قد صارت مستخدمة بعد توقيع احتجاج Protestation ضد البابوية في عام 1529، فكان حاكم كل دولة يقرر الديانة التي تتبع لها ولايته.
وبهذا أضيفت زمرة جديدة من الانقسامات إلى بلد كانت بالأصل مقسمة، وكان الإمبراطور شارلكان مضطراً للقبول بهذا الترتيب لأنه الطريقة الوحيدة القادرة على تأمين السلام في ألمانيا، مع أنه كان قد كافح المصلحين، وللمرة الأولى اعترف الأمراء ورجال الكنيسة بوجود أكثر من مصدر واحد للسلطة الدينية، وبوجود أكثر من كنيسة رسمية واحدة ضمن المسيحية الغربية.
وكانت قد بدأت تطورات أخرى كان لوثر نفسه يستنكرها، هي تقسم البروتستانتية، إذ راح المزيد والمزيد من الناس يتخذون لأنفسهم آراء خاصة في المسائل الدينية، وسرعان ماظهر بروتستانتيون آخرون لايشاركون لوثر آراءه، وكان أهمهم الفرنسي جون كلفين الذي ظهر في سويسرا.
لقد انشق كلفين عن الكاثوليكية وراح يبشر في ثلاثينيات القرن السادس عشر، وقد نجح نجاحاً كبيراً في جنيف، كما أسس فيها دول ثيوقراطية أي أنها تحت حكم الأتقياء الورعين من أتباعه الكلفينيين.
كانت جنيف مكان شديد التزمت، وكان الهرطقة تعاقب فيها بالموت، ولم يكن هذا بالأمر الغريب في تلك الأيام، ولكن جنيف كانت تتميز بأنها تفرض عقوبة الموت، كما فعل كلفين على الرجل الذي يذهب مع امرأة متزوجة أو المرأة التي تذهب مع رجل متزوج.
إلا أن الكلفينية نجحت نجاحاً كبيراً أيضاً في فرنسا والبلاد الواطئة واسكتلندا، بينما لم تنتشر اللوثرية في البداية خارج ألمانيا التي ولدت فيها إلا في اسكندينافيا. وكانت النتيجة على كل حال مزيداً من الانقسام، بحيث صارت هناك الآن أوروبات ثلاث، اثنتان منها بروتستانتية وواحدة كاثوليكية، عدا عن عدد من الطوائف البروتستانتية الصغيرة.
وسوف تلعب البروتستانتية دوراً هاماً في مستقبل إنكلترا أيضاً، كانت إنكلترا تعيش الكثير من الظروف المناهضة للبابوية التي رأيناها في بلاد أخرى، وكان فيها فوق هذا عامل شخصي جداً، هو رغبة ملكها هنري الثامن بالتخلص من ملكته، لأنه لم تحمل له بابن يرث العرش من بعده. ولكن هنري كان في الحقيقة ابناً مخلصاً للكنيسة، بل إنه قد كتب كتاباً ضد لوثر أكسبه استحسان البابا الذي سماه حامي حمى الإيمان وهو لقب مازالت سليلته تحمله حتى اليوم.
ولقد كان من الممكن جداً أن يتم له ما أراد عن طريق أن يلغي البابا زواجه من هذه الملكة، لولا أنها كانت عمة للإمبراطور شارلكان، الذي تحتاج الكنيسة إلى دعمه ضد الهراطقة الألمان، لهذا ماكانت الكنيسة لتساعده، فتخاصم هنري مع البابا وانشقت إنكلترا عن ولائها لروما واستولى الملك على أراضي الأديرة في إنكلترا، وكان بعض الإنكليز يرجون أن تصبح إنكلترا لوثرية ولكن هذا لم يحصل.
إن هذه النجاحات الكبيرة التي أحرزتها البروتستانتية قد أجبرت كنيسة روما على أن تبدل نفسها من نواحٍ عديدة، وكان الكاثوليك يتمنون أن تعود الأمور إلى سابق عهدها، ولكنهم كانوا يدركون أنهم باتوا الآن مضطرين للعيش بين أشخاص مختلفين عنهم ويدعون أنهم هم أيضاً مسيحيون.
لذلك صارت كاثوليكية روما أكثر تصلباً، أو يمكننا أن نقول أنها صارت أكثر انضباطاً وتنظيماً، وهذا ما يسمى الإصلاح المضاد. وكانت هناك قوى عديدة ساهمت في هذه الحركة، ولكن أهمها كان المجمع المسكوني العام للكنيسة، الذي افتتح في مدينة ترانتو بشمال إيطاليا عام 1545، وظل يعقد جلساته حتى عام 1563.
لقد أعاد مجمع ترانتو تعريف جزء كبير من عقيدة الكنيسة، كما وضع تعاليم جديدة لتدريب الكهنة وثبت سلطة البابا، وقد وجدت حركة الإصلاح المضاد نصيراً بارزاً لها هو الإسباني أغناطيوس لويولا، الذي أسس جماعة جديدة لخدمة البابوية هي جمعية يسوع أو اليسوعيون.
فقد أقرت جمعية اليسوعيين في عام 1540، وكانت مرتبطة بالبابا شخصياً بيمين خاص من الطاعة، وكان اليسوعيون يدربون بعناية كبيرة بحيث يصبحون جيشاً مكوناً من نخبة المعلمين والمبشرين، وكان لويولا مهتماً اهتماماً خاصاً بتنصير البلاد الوثنية المكتشفة حديثاً. وكانوا أكثر الرجال تمثيلاً للروح المحاربة المتصلبة المميزة لحركة الإصلاح المضاد. وكانت هذه الروح موافقة لمزاج لويولا، إذ أنه كان جندياً وكان يعتبر جمعيته تنظيماً عسكرياً، والحقيقة أن اليسوعيين كانوا يسمون أحياناً ميليشيا الكنيسة.
ولم تكن جمعيتهم هذه هي السلاح الوحيد في الترسانة الجديدة للكنيسة، بل كانت هناك أيضاً محاكم التفتيش، وهي المؤسسة التي وضعت في العصور الوسطى لملاحقة الهرطقة ثم أصبحت محكمة الاستئناف الأخيرة في قضايا الهرطقة في عام 1542، فضلاً عن قائمة الكتب الممنوعة والتي وضعت للمرة الأولى في عام 1557.
الدين والحرب
لقد قسمت حركتا الإصلاح والإصلاح المضاد الأوروبيين بصورة مريرة، ولم يتأثر العالم الأرثوذوكسي في الشرق كثيراً، إلا أن جميع أنحاء أوروبا التي كانت كاثوليكية في السابق قد مرت بأكثر من قرن من الصراعات الدينية والصراعات السياسية التي سممها موضوع الدين. وقد نجحت بعض البلاد في اضطهاد أقلياتها حتى قضت على وجودها تماماً، مثل إسبانيا وإلى حد بعيد إيطاليا أيضاً، فبقيت بذلك قلاعاً منيعة للإصلاح المضاد.
وكان الحكام في العادة يتخذون القرارات بأنفسهم فيقبل رعاياهم بقراراتهم، وقد يحاول الأجانب التدخل أحياناً، ولكن إنكلترا البروتستانتية كانت محمية بفضل قنالها، فكان الخطر عليها أقل منه على ألمانيا وفرنسا.
إلا أن الدين لم يكن السبب الوحيد في الحروب التي عرفت بالحروب الدينية والتي خربت جزءً كبيراً من أوروبا بين عامي 1550 و 1648، فقد كان هناك أحياناً كما هي الحال في فرنسا مثلاً صراع على السلطة بين الأسر الأرستقراطية الكبيرة التي ارتبطت بهذا الحزب الديني أو ذاك.
وكان المنتصر الأخير في فرنسا رجلاً من أسرة بروتستانتية هو الملك هنري الرابع، الذي تمكن من الوصول إلى العرش عن طريق اعتناق الكاثوليكية، وهكذا ظلت الملكية الفرنسية كاثوليكية، ولو أن الكثيرين من الهغنوت أي الفرنسيين البروتستانت قد ظلوا يتمتعون بحقوق خاصة، كما سمح لهم بالاحتفاظ بمدن محصنة لحماية أنفسهم وحقوقهم.
كانت البلاد الواطئة تحت حكم إسبانيا، وقد نشبت فيها ثورة بدأها النبلاء المحليون الراغبون بمزيد من الحكم الذاتي، ثم تغيرت طبيعة تلك الثورة شيئاً فشيئاً بتأثير الدين، وفي النهاية شعر الزعماء الأرستقراطيون في المقاطعات الجنوبية، أي بلجيكا الحالية، أن من الأفضل لهم أن يظلوا كاثوليكاً وتحت حكم إسبانيا.
أما المقاطعات الشمالية، والتي تقابل تقريباً مملكة الأراضي الواطئة هولندا الحالية، فقد دخلت في حظيرة البروتستانتية، مع أنها كانت تحوي مجموعة سكانية كاثوليكية كبيرة، وبعد صراع طويل يسموه الهولنديون حرب الثمانين عاماً ظهرت في أوروبا دولة جديدة هي المقاطعات المتحدة، التي كانت اتحاداً فيدرالياً صغيراً من الجمهوريات الصغيرة بقيادة هولندا، وكان تطبق مبدأ التسامح الديني.
إن أبشع استغلال للدين من أجل الأهداف السياسية قد حدث في ألمانيا، فالصراعات الدينية التي سويت في أوغسبرغ عادت فاندلعت من جديد في القرن السابع عشر، عندما حاول إمبراطور من أسرة هابسبرغ مشبع بمبادئ الإصلاح المضاد أن يدفع الكاثوليكية على حساب البروتستانتية، فنتج عن ذلك حرب الثلاثين عاماً الفظيعة، التي استعرت نارها بصورة متقطعة بين عامي 1618 و1648، والتي ضاعت فيها المسائل الدينية في خضم السياسة والمجازر. وقد تحالف في إحدى مراحلها كاردينال فرنسي من كنيسة روما مع ملك السويد البروتستانتي من أجل أن يسحق مصالح أسرة هابسبرغ الكاثوليكية. وفي هذه الأثناء كانت الجيوش تذرع أنحاء ألمانيا مخلفة البؤس والدمار في كل مكان وناشرة الأمراض والمجاعة، وقد فقدت بعض المناطق سكانها، كما أن بعض المدن التي كانت مزدهرة قد اختفت تماماً.
ولم يكن هناك بد من تسوية جديدة في النهاية، فكان صلح فستفاليا الذي أنهى الحرب في عام 1648 وافتتح حقبة جديدة، لقد ظل موضوع الدين حتى في ذلك الحين سبباً مشروعاً للاقتتال بين الدول، وعذراً كافياً لكي يقتل الإنسان جاره أو يعذبه إذا ما انحرف عن جادة الصواب، إلا أن رجال الدولة قد صاروا بالإجمال أكثر اهتماماً بأمور أخرى في تعاملهم بعضهم مع بعض، وصار العالم أكثر تحضراًَ بقليل، عندما عادوا يهتمون بشؤون التجارة والأراضي وابتعدوا عن أمور الدين,
وكانت أوروبا في ذلك الحين أي في النصف الثاني من القرن السابع عشر، مقسمة إلى دول أكثر لاتقبل رسمياً إلا ديانة واحدة هي الديانة السائدة فيها، ولكن بعضها كانت فيها درجة لابأس بها من التسامح، خاصة في إنكلترا والمقاطعات المتحدة.
* يان هوس 1370-1415 مصلح تشيكي دانه مجمع كونستانس وأعدم حرقاً، انتشر مذهبه في بوهيميا ومورافيا وتلاشى بعد 1433 . المنجد في الأعلام.