رغم أن هذا المجتمع كان قد سار خطوات كبيرة منذ نهاية العصور القديمة، فإنه يبقى بعيداً جداً عن مجتمعنا اليوم، وقد كانت بذور التغيير كامنة فيه بعد، ولم تصدر عنه إلا علامات ضعيفة ومتفرقة عن تطوره المقبل. وإن أكثر ما يميزه عن مجتمعنا إنما هو المكانة المحورية التي كان للدين فيه، فقد كانت أوروبا في نظر أكثر أهلها هي العالم المسيحي، وقد ازداد وعيها لهذا الأمر حدة بعد عام 1453م سقوط القسطنطينية، وكان الدين يرسم حياتها برمتها تقريباً، كما كانت الكنيسة عند أكثر الناس هي الوحيدة التي تسجل وتصدق كل اللحظات الكبرى في وجودهم من زواجهم، وولادة أطفالهم وتعميدهم وموتهم أيضاً.
وكان الكثيرون من الناس ينذرون حياتهم للكنيسة، وكانت نسبة الرجال والنساء الذين يدخلون في السلك الديني أكبر بكثير مما هي الحال عليه اليوم، وكان بعضهم يسعون للاعتزال في الأديرة بعيداً عن الحياة اليومية المنفرة، وحتى العالم العادي خارج الأديرة لم يكن في الحقيقة علمانياً مثل عالمنا. فقد كانت المعرفة وأعمال الخير والإدارة والعدالة وقطاعات واسعة من الحياة الاقتصادية واقعة كلها ضمن نطاق الدين وتحت سيطرته، وحتى عندما كان الناس يهاجمون رجال الكنيسة كانوا يفعلون ذلك باسم المعايير التي علمتهم إياها الكنيسة نفسها وبالاحتكام إلى معرفة إرادة الله حسبما أخذوها عنها. وهكذا كان الدين أعمق ينابيع حضارة أوروبا، وكان يشكل حياة الناس جميعاً ويحدد لهم الهدف والغاية من تلك الحياة